الباحثة الدكتورة نهلة الشهال.. الفكرة الصهيونية ولأسباب سياسية ودينية لم تكن تشكل أغلبية حاسمة بين اليهود

عالية ممدوح

لا نراها إلا خطفاً، وحين نلتقي في المقهى المجاور لعملها في مركز الأبحاث الكائن في الحي الذي أسكن، أكون مهددة بالهاتف الجوال الذي لا ينقطع، وبالسفر المباغت. هكذا تحيا الباحثة نهلة الشهال، الصديقة التي تعبىء صداقتها التاريخ الشخصي، والموافقة ان تكون الاحتياطي الدائم للقضايا الملتهبة والملحة بوجه خاص، ما بين جرائم وكوارث غزة وبغداد، ما بين السفر والعمل والبحث، التنديد والاحتجاج والتحاور، أو لكتابة مقالتها الأسبوعية أو تحضير البحث لإلقائه في احدى الندوات التي تدعى إليها. كل سؤال وبوجه خاص، كان يذهب إلى فلسطين، فتزداد الحركة في التسارع حين نتحدث عن العراق، فنصفها العراقي من جهة الأم والزوج يعادل نصفها اللبناني الذي يقوم في الوقت ذاته بالتركيز على بؤرة الجميع: فلسطين. قلت لها، هذه المرة أريد الحوار على هذه العلانية المضادة للدولة العبرية، التي يجاهر بها البعض من الدول، والقادة في العالمين الغربي والإسلامي. أريد أن اسمع حقا وبلسانك الخاص والقوي، ما يجعل بعض القضايا، وربما الميئوس منها مثل عموم قضايانا، مشخصة بأمل ما متأتي من طريقة تفكيرك ونضالك الخاصين، فأشعر اننا بالرغم من كل شيء، لدينا مثقال من الصحة الروحية، وليس بالضرورة أن نكون أصحاء جدا.
“إذاً، هو حوار سياسي بحت، قالت، وأسئلتك كلها سياسية؟ عال، أنا حاضرة”:

هل ما يتداوله الإعلام في العالم ومنذ أعوام، ومن داخل الدولة العبرية، عما يسمى “بالمؤرخين الطلائعيين” هو حقيقة بدأت تؤثر في الوجدان الجمعي والفردي سويا؟ في كثير من الأحيان تنشر الصحافة العبرية تحليلات صادمة جدا، هل هذا فعلا مؤشر لأزمة وجودية داخل الفكر الصهيوني؟ أم مجرد تنفيس مؤقت؟
بين يهود العالم أجمالا، ومنذ فترة متقدمة من القرن العشرين، وبعد نشؤ اسرائيل، ظلت نسبة الذين آمنوا بالحركة الصهيونية قليلة، وبقيت الحركة أقلوية. بعض الدراسات تشير ان الحركة هذه تحظى باغلبية يهود العالم، واليوم بدأت بالتناقص والتناقص أكثر. الفكرة الصهيونية، ولأسباب سياسية ودينية معاً، لم تكن في أساس انبثاقها تشكل أغلبية حاسمة بين اليهود. كمثال قريب منا زمنياً، منظمة ناطوري كرتا أي حراس المعبد – منظمة دينية فيها الكثير من الحاخامات، أصدرت بيانا في النيويورك تايمز عام 2002 حمل ثلاثة آلاف 3000 توقيع لرجال دين يهود يندد بحصار ياسر عرفات. تؤمن ناطوري كارتا إن كيان إسرائيل مخالف للدين، وأن اليهودية فكر أو كتاب، وكل محاولة لتجسيد الفكر في مشروع دولة يعتبر انتقاصا من المنحة الإلهية. وأن اسرائيل بالتالي، والصهيونية هرطقة خطيرة، وتسبب ضرراً وجودياً باليهودية واليهود. وهم بهذا يستندون الى تراث ديني يهودي قديم ومتصل. هؤلاء أعداء لإسرائيل، تشاركوا معنا في الاعتصام والسهر على أبي عمار في المستشفى الخاص بباريس. التيار الثاني، وطوال وجوده كان قويا، أعني به التيار اليساري. كان البوند BUND واحد من أهم أسس الحركات الشيوعية والعمالية في عموم أوروبا الشرقية، وهذه الحركة القوية جداً في وقتها كانت ضد الحركة الصهيونية. هذه الأخيرة نشأت في رحم المرحلة والفكر الامبرياليين في النصف الثاني من التاسع عشر، وتطابقت معهما، وإن بتبني الصيغة الاشتراكية – الديمقراطية. وأنا لا أقلل من نفوذ الحركة الصهيونية (وبخاصة في المجالات الفكرية والسياسية) في الدوائر النافذة في أوروبا، ولكني أشير هنا إلى خرافة النطق باسم اليهود جميعاً أو التاريخ اليهودي، مما يرفضه بشدة اليهود المعادين للصهيونية، سواء من منطلق ديني أو من منطلق يساري مناهض للأمبريالية. اسرائيل والصهيونية ليسا الممثل الشرعي لليهود ولا الحصري أو الوحيد. هذا مهم أن ندركه لبناء استراتيجيتنا ولفهم الواقع.

عال، هذا في خارج إسرائيل، وماذا عن الداخل؟
النقطة الثانية، ورغم جميع جهود إسرائيل، ففي الأخير، ثُلثا يهود العالم يعيش خارجها، ولم تقو على استقطاب يهود العالم. انهم يحيون وينشطون خارجها بالرغم من التسهيلات الهائلة التي تقدمها لهم “الوكالة اليهودية” للهجرة الى اسرائيل، وبجانب مخططات حقيقية ملموسة تنظمها الحركة الصهيونية واسرائيل لتخويفهم من “معاداة السامية” التي يزعمون انها منتشرة، واستغلال الاضطهاد التاريخي الذي تعرضوا له في أوروبا، ودفعهم للهجرة الى إسرائيل.. أريد أن أصل إلى ان إسرائيل لا تملك جاذبية في سحب الباقين إليها. قبل تأسيسها، وابتداء من وعد بلفور، جذبت يهوداً من العالم كله بفعل خطاب اشتراكي/تعاوني/مساواتي تجسد في الكيبوتز، ثم استغلت الإبادة النازية في الحرب الثانية كما شرح بشكل جيد نورمان فنكلشتين في “صناعة الهولوكوست”، وغيره كثر من المفكرين اليهود المعادين للصهيونية.
هذا التفنيد والحفر داخل الوجدان اليهودي، وعبر حفريات التأريخ وبتقنيات جد حديثة، أشتغلت عليها السينما في العشر سنين الأخيرة أيضا وبوتيرة متصاعدة جدا وناجحة أيضا.
تماما، السينمائي المشهور ايال سيفان مثلا انجز فيلم “الطريق 181″، وثائقي لمدة 5 ساعات، واليوم لديه فيلم اسمه “يافا ميكنزمات البرتقال”. هذا الرجل أربعيني مناهض للصهيونية، ولد في اسرائيل، وآلان هو يدّرس في لندن. أهله من بولندا هاجروا الى كولومبيا ثم عادوا إلى أسرائيل في 68. بدأ الحفر بهدوء في التيارات الدينية وفي رموزها اليسارية والدينية، ضد الفكرة الصهيونية، فقام بتوثيقها عبر العمل على توثيق مع شخصية مشهورة ليهودي ضد إسرائيل معروف كقائد المقاومة في الحرب الثانية ضد النازية في غيتو وارسو، في بولونيا. بالطبع لا ننسى ذاك الكتاب المدوي للمؤرخ شلومو ساند، وعنوانه “كيف اخترع الشعب اليهودي”، الذي يقول أنه لا يوجد شعب يهودي!! كل هذا يقول ويردد ويفند ويحلل الفكرة الصهيونية ليست فكرة بديهية، ملتصقة باليهود. إسرائيل دولة قوية بالطبع، متبناة من الغرب، وسطوة إسرائيل هي التي تدعنا لا نرى حقيقة عدم تطابق التاريخ والفكر لدى اليهود والفكرة الصهيونية. داخل إسرائيل نفسها آلاف الأشخاص الذين يناهضون وجودها ويدعون كحل الى الدولة ثنائية القومية أو الدولة الديمقراطية لكل مواطنيها. مثل ميشال فارشافسكي وغيره، وهم لا يفوتون فرصة للتعبير
عن مواقفهم وللتضامن مع النضال الفلسطيني. هم أقلية داخل إسرائيل بالطبع، لأن هذه مؤسسة على العدوان والاغتصاب وليست مجتمعاً عادياً. ولكن الحالة المناهضة لإسرائيل والصهيونية بين يهود العالم منتشرة وفعلية، وإنما تنقصها الإمكانات للتوحد وللتأثير، بخاصة بإزاء الآلة الطاحنة، شديدة النفوذ والتنظيم للصهيونية، وتواطؤ السلطات في الغرب، وتزوير التاريخ، وسطوة القوى المهيمنة على الإعلام، وجهلنا نحن واستسهالنا لخوض الصراع وفق صيغة الحرب الدينية.. تصوري أنه لم تعرض أي قناة عربية فيلم سيفان “الطريق 181″، مع أنه وثيقة إدانة لا شبيه لها لنشوء إسرائيل، استخدم فيها السينمائي البنية الإسرائيلية نفسها وطاردها واستنطقها. لا يستضاف فارشافسكي أو حاييم برشيت الذي أسس في الستينات منظمة “ماتزبن” الشهيرة في أي برنامج حواري عربي… أتساءل لماذا؟

هل تلاحظين حقيقة، أنت الناشطة على مدار اليوم والشهر والعام في القضايا الساخنة جدا : فلسطين، العراق ولينان الخ، ان هناك نوعا من خلخلة أو زحزحة ما أو ربما تعديلا في توجه الغرب ككل إلى قضايانا المعطلة منذ دهر؟
في جميع الحقب كان الموقف يتغير، وهو في حالة تغيير مستمر. أنا أعتقد أن إسرائيل تقطف حماية وعواطف الغرب بسبب مصالحه. منذ انهيار جدار برلين وما سمي ب”نهاية التاريخ”، أي انتصار الغرب، كانت اسرائيل في أفضل أوضاعها. الاحادية القطبية انتهت، ولم تستمر في نهاية المطاف أكثر من عقدين، وهذا قصير جدا بمقياس التاريخ، واليوم نشهد عودة التعددية القطبية – وليس الثنائية كما كانت أثناء الحرب الباردة. وهذا يسمح بثغرات عديدة في الهيمنة الغربية المؤيدة لإسرائيل كما يخلخل ثقتها بنفسها، لأنها تعتمد على الدعم الغربي بالاساس. لدي قناعة ان هناك تغييرا باتجاهات الرأي العام العالمي. العديد من المفكرين الغربيين يهوداً وغير يهود باتوا يجاهرون. مؤخراً الفيلسوف ريجيس دوبريه ضاق ذرعاً باسرائيل، واصدر كتابه الاخير بهذا المعنى. وقبله الفيلسوف الكبير ادغار موران لم يتوقف عن انتقادها. بل وحتى البعض من المتنفذين في مفاصل السلطة باتوا اليوم أكثر اقتناعا بأن السلوك السياسي لهذه الدولة مؤذ وخطير عليهم. وأن إسرائيل باتت عبئاً كما قال مسئول إسرائيلي في وصف المزاج اليوم. الرأي العام، أي القناعة الشائعة لدى الناس البسطاء والعاديين تقول هذا وأكثر. لقد خسروا الحرب الاخلاقية، والقيمية، وتلطخت صورتهم رغم كل إمكاناتهم الدعائية واستغلالهم لعقدة الذنب الأوروبية بسبب مجازر الحرب الثانية وقبلها تاريخ طويل من الاضطهاد. من قبل، حين كنا نتصل ببعض الصحافيين كانوا يماطلون أو لا يجيبون، يختفون تماما، اليوم هناك استجابات.
التغيير في حالة العالم، أي بروز التعددية القطبية، حتى على المستوى الإقليمي، وهزيمة بوش ونظريته في “الحرب الدائمة والشاملة والاستباقية” والازمة الاقتصادية البنيوية… هذه فرصة العرب للفعل والعمل الجاد. ولأني أظن أن إسرائيل لأسباب تكوينية لا تملك تحقيق عناصر تسوية تاريخية مع الفلسطينيين، وأنها قائمة على مزيد من العدوان، وعلى ضرورة الهرب الى الأمام دوماً، وهو ما يشكل أفقاً إجرامياً وانتحارياً في نهاية المطاف، كل هذا يجعلها تقف أمام تناقضاتها الوجودية الكبرى.

لا نستطيع إلا ان نذهب إلى العراق، ترى إلى أين يذهب هذا البلد ؟
أعتقد ان ما يسمى بالعملية السياسية القائمة على المحاصصة قد وصلت إلى الافتضاح بصفتها آلية لتنظيم النهب من قبل نخبة جديدة. أنا مسرورة فعلا ان الناس عادت للحركة حول قضاياها الحياتية المباشرة، فهذا له مدلول نفسي قوي، فالناس تحاول أن تستعيد زمام المبادرة بيدها، وأن تمسك بمصيرها وأن تقاتل لتحسين حياتها. هذه علامات عافية. مثلا التحرك الأخير من أجل الكهرباء تحول بسرعة الى تحرك ضد الفساد، واتضح بسرعة أيضا أن الفساد جزء عضوي من البنية التي أرساها الأمريكان تحت تسمية العملية السياسية. نعم، هناك أحزاب كبرى، وزعامات مهيمنة، ولكنها لم تعد تتحكم تماما بكل شيء. الناس اليوم يفكرون بمصالحهم وشروط بقائهم، وهذا مدخل لإرهاصات جديدة. في نهاية المطاف، تمكن الناس بسرعة من طرح مثل هذه العلامات، فسبع سنوات فترة قليلة جداً، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار كل الويلات التي عاشها المجتمع العراقي. دينامية هذا الأخير عجيبة حقاً.

الخميس 3 شعبان 1431 هـ – 15 يوليو 2010م – العدد 15361
https://www.alriyadh.com/543959