الباحث عبدالفتاح كيليطو وبوح الحب

عالية ممدوح


“” ذهبْ، لا لأن حبه انتهى، بل لأنه يحَب”” تصلح هذه المفردات أن تقال لامرأة، أو للدنيا. سحبتها من كتاب “” أنبئوني بالرَؤيا”” للباحث والناقد المغربي الباهر عبد الفتاح كيليطو. هذا الكتاب دَون على غلافه عنوان رواية ، لا نعلم من قرر هذا التجنيس، هو المؤلف أو الدار الناشرة ، دار الآداب ؟ هو كتاب يبحث في علامات الطريق التي بدأها هذا الباحث الجلْد والدؤوب حول الألف ليلة والليالي الآتيات . هي رواية من ارتاد ذاك المكان ولم يبرحه ، فجلسا معا متقاربين هو

وشهرزاد، هو وشهريار، لم يتملص من الأولى، ولا انصهر مع الثاني. كيليطو باحث قل نظيره في التراث والأدب العربي، وإذا ما اخذنا معه فهو قادر ، ربما ، على الخروج، أما نحن فلا نتوصل للخروج مما أودى إليه بنا . هكذا هو منذ شاهدته أول مرة في مدينة مكناس المغربية في المؤتمر الأول للقصة القصيرة في العام 1983 على ما اتذكر ، وكان بحثه الصاعق : زعموا ان .. “” كتبت عنه في ذلك الوقت ، ثم اجريت معه حوارا مطولا للرياض أيضا . وكلما يحضر لباريس مشاركا لأجل تلك الليالي وشهرزاد نلتقي . هو لا يضع كلمة بدل كلمة ، ولا يوحي للسامع إلا بأنه يقول أحسن الكلمات . وصلني الكتاب ومن المغرب وهو ب 127 صفحة من القطع الرشيق والنحيل مثل صاحبه فقرأته في ليلة واحدة : “” أن ما يهم في بوح الحب ليست الكلمات ، بل البوح نفسه، فعل التقدم نحو الآخر والكلام إليه “” . هو الكتاب هكذا. كل كتاب لكيليطو يعين لك وبطريقة مضبوطة طريقة البوح، بوحك أنت أيها القارئ.
2
كيليطو لم يقدر على الخروج من متاهة ألف ليلة وليلة . حاول في جميع ما انتج لكنه كان يعود ويعاود . وفي هذا الكتاب / الرواية يخترع أو يعيد اختراع نفسه هو ، ذاته المولهة بالليالي ويعطي لها اسما آخر : “” سموني إسماعيل “” الذي يأخذنا مع أمه هاجر وهي تبحث له عن قطرة ماء في فيافي مكة . يخترع كاتبا آخر ، مجرد طالب دراسات عليا يريد الاشتغال على الليالي من موقع لم يفطن إليه أحد ويكون كيليطو ذاته هو المشرف عليه ، ويبدأ الكتاب حين يدعى كيليطو نفسه إلى الولايات المتحدة لقضاء فترة للدراسة والبحث ومن اجل الليالي أيضا ، وهناك يتعرف على : “” دخلت امرأة ذات جمال مذهل ، قدمها لي السيد هاموست تحت اسم إيدا أو آدا ، عايدة ، إيدًا “” هذه السيدة التي ستبقى تتعامل معه طوال الكتاب/ الرواية باهمال ولامبالاة وبمهانة أحيانا وهو يلاحقها ، هي الدنيا ، هي الليالي ذاتها ، هي شهرزاد الممنوعة من الاختراق والاكتشاف ، هي الشغف الذي يحضر ويغيب ولا نفطن له ، وهي أي كتاب عظيم يجتاحنا ولا نقدر إلا ان نتلاطم وإياه فنشتغل به ومعه وإلى ما شاء الله كما اشتغل ويشتغل كيليطو على كتاب ألف ليلة : “”ما أغفلت أن أذكره في دراستي هو حال شخصية لا تنام أبداً ، الملك شهريار. في الليل وحتى الفجر، يستمع لحكايات شهرزاد، وشهرزاد ماذا تصنع أثناء النهار؟ “”.
3
ذهب الباحث في منحة شهرين من قبل مؤسسة فلبرايت إلى بلاد العم سام . يبدو كيليطو وقد عاد لجلبابه العربي الصوفي الثخين ، فهناك لا نتلعثم بلساننا الخاص، ويبدو الأمر صعبا حين نحاول التجانس مع ما يجري حولنا : “” إذ ذلك وعيت وعيا واضحا بأنني عربي. كل الذي كنت اكبته لما كنت في بيتي ، في موطني. كل هذا يعود إليَ ويفرض نفسه علي ويلاحقني “” في هذا الكتاب يحاول كيليطو ان يشتغل على كتابه كما تشتغل الليلة الأولى والثالثة وما بعد المائة . يسحبنا من كُم ثيابنا ويرمي بنا وهو يعود لكرسي الأستاذية فهو يدرس فعليا في جامعة الرباط . الكتاب قسمه المؤلف إلى اقسام : إيدا في النافذة ، الجنون الثاني لشهريار ، معادلة الصيني ، ورغبة تافهة في البقاء . ولو حاولنا العمل لربط العلاقة ما بين الأربع حالات أو سرديات أو .. أو .. لقلنا كما قال احدهم في كلمتين تشي بحالنا ونحن نقرأ ونسجل بعض الملاحظات : “” فلا بدَ له من ان يبدأ من الصفر “” هكذا كانت حالتي، وبما انني أعرف الكاتب شخصيا وأعرف مبلغ مكره الخارق فهو لا يترك لنا أي خط للفرار من فخ وورطة ما يشتغل عليه منذ كتابه الأول وإلى هذا الكتاب . فما ان احاول تفسير هذا الكتاب حتى أعود للصفر ، وهذا الصفر هو احدى العزلات الكبرى لأي باحث صارم ونزيه مثل كيليطو ، هو المهووس بالكتب ، بالبحث ، بالاسفار ، بالتأمل . فكرة الآنسة أو السيدة عايدة ذريعة مثلى للحديث والبحث في سطوة الليالي فنحن لا ننام بسبب الغرام وعايدة جزء منها الأنثى الفتاكة والآخرى كاغد الكتب التي تعود بنا القهقرى لأرض بتول.
4
يتحدث الكتاب عن السجل الطويل والعاصف لطريقة العثور على كتاب الليالي ، هو الكتاب الأخطر واللانهائي في آداب الشعوب وبدون استثناء . وكلما تنتهي ورقة أو حكاية في الكتاب الاصل تبدأ حكاية لدى هذا الباحث أو غيره في بقعة اخرى من بقاع العالم ، ولأن الكاتب في الأصل جوال بقاع ومحلل نصوص فهو يؤول كتاب غيره : “” الا تكون أرض الظلمات هذه استذكارا مبهما لرواية جوزيف كونراد. وبخصوص دموع نورالدين، في دموع نيتشه . وهكذا لن تكون الحكاية سوى سرد مقنَع لفصل درامي من حياة نيتشه . وهذا كشخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة “” . هذه التأويلات اللانهائية التي تمنحها الكتب النفيسة كالليالي وكتاب كيليطو هذا هو محاولة ثرية أيضا وهو يتحدث عن روايات غيره وكيف اشتغل على المتون الهوامش : “” ذات مساء حصلت رؤيا. رؤيا قصيدته بالضبط : كلمة جميلة أتت تطرق بابك . ذلك ما كان يبحث عنه مدى حياته كلها، دون ان يدري “”. هي الدنيا هكذا، والحكايات كلها نستطيع تأويلها وإلى ما يشاء النص والباحث والمخيلة : “” عبثا نمحو الآثار يبقى بعضها وأشباح الماضي تلحق بنا في لحظة من اللحظات “” . يلتفت كيليطو إلى أمور غاية في الدقة ، هو دائما يمشي في اتجاه آخر وحين يحضر أحد الطلبة ويسجل اسم بحثه فيكون اسمه كملو ويكون الأستاذ المشرف على اطروحته هو كيليطو ذاته فندخل في حكاية فاتنة جديدة.
5
“” كملو رأى ان شهريار قد سئم سماع الحكايات . أي ان كل شيء يبدأ ثانية، ويتغلب الجنون. فيؤكد كملو، دون تمييز، أن في داخل كل قارئ شهريار غافيا”” . في هذا القسم من الكتاب / الرواية يصل الباحث إلى مديات هائلة في طرح الأسئلة التي أرقته هو شخصيا فيضعها في فم طالب الدراسات العليا كملو : “” لاحظ التظاهر أن الحكايات تبرئ الناس من الحقد وتخلص من هم في ورطة . آنذاك فكر في الكتَاب الذين بمستطاعهم أن يستعيدوا له حكاياتها “” . كيليطو ماكر مثل شهريار، المشرع للقتل، والحاضر للاصغاء، والذي يشعرنا دائما، بانه رغم فيوض الحكايات والنساء من حوله ، لكنه رجل وحيد جدا . باقي حكايات هذا الكتاب هي التي نبقى نحدق بها طويلا ونحن نهيم على وجوهنا ، نحن أيضا نخطو إلى البرية وحيدين مثل المؤلف فلا نستطيع الاجابة على أسئلة ذلك الصيني في القصة الثالثة . فالعلاقات جد معقدة ومربكة ومتصارعة بين سهاد المؤلف والتفكير بعايدة : “” هل سيعود؟ فلديه عذر جيد، لكن لا ينبغي أن يفعل ذلك من أجل روعة الحكاية ، عودته ستفسدها ستصير متعذرة الرواية “” . هي هكذا جميع الحكايات نغفل عنها لكي لا تنتهي ، وتغفل عنا لكي تبقى قابلة للتأويل . أما الحكاية الأخيرة : “” رغبة تافهة في البقاء “” فهي حكاية العفن الذي نشمه في صالونات وكواليس ما يسمى بالنجوم الخداعة في الأدب والثقافة ، في السياسة وصنع القرار.
******
هي حكاية رجل يرى في الشعر وتدوينه : “” أبيات شعر، وأنني بالعمل انطلاقا من هذه الشذرات المبَددة يمكنني أن أفضي إلى قصيدة “” . احدهم اقترح العنوان رغبة تافهة للبقاء لكنه يعير اسمه إلى شخص آخر : “” تدفعني عاطفة الوفاء والصداقة “” . فصل هذا الكتاب مذهل في نسيجه السردي ومراراته وشجنه ، في تطيره للضوء والشهرة كما هو كيليطو المتقشف المقتصد في كل شيء لكنه الفاضح والفضَاح لجميع ما يدور وراء الستارة من عمليات بطش وبيع وشراء للأسماء ، للكتاب والكاتبات ، للشعراء والشاعرات ، لبيع الشهادات والآلقاب ، لبيع المدن والاوطان الخ : “” تخليت في نهاية الأمر عن اسمي بنوع من التطيَر، كأنني سأنجز طقسا قربانَيا: كي ينشر لي ، لا بد من هبة ، من انتزاع شطر من ذاتي. كنت اتوقع ان يكشف لاحقا الغاية الخفية للحكاية ويعترف بأنني المؤلف الحقيقي ؟ ألم نكن نلعب مهزلة ونخادع بعضنا بعضا. وإذا حان الحين، سنكشف الحقيقة في النهار الجَهار “” . أليس كتاب ألف ليلة لا أحد يعرف مؤلفه الحقيقي ولن يعرفه أحد في قادم الأيام ، ومن هنا يبدأ الرعب ، رعب اللامعرفة . رعب أننا لا نعرف الجواب ، وها هو هذا الكتاب/ الرواية “” أنبئوني بالرؤيا”” للباحث المغربي الكبير عبد الفتاح كيليطو يرسم هذه الدائرة علينا ، وبالتالي يغلقها فلا نعود نمتلك حدودنا السرية حتى.

الخميس 17 ربيع الأول 1433 هـ – 9 فبراير 2012م – العدد 15935
http://www.alriyadh.com/708270