بقلم: عناية جابر- جريدة السفير
منذ الهاتف الذي وصلها من القنصلية العراقية بباريس، يدعوها إلى زيارتها في مقرّ السفارة، لأمر عاجل، تأخذنا الكاتبة العراقية عالية ممدوح في روايتها الصادرة حديثاً عن «دار الآداب» تحت عنوان «الأجنبية» في رحلة القلق المحض، والخوف الذي تحرص على حراسة جلالته بالكثير من التفاصيل والوقائع والهواجس التي تجعلها وتجعلنا معها، مقطوعي الأنفاس حيال ارتدادات كابوسية وعصابية تسكن هذا الكائن العراقي بامتياز.
خطفني كتاب ممدوح «الأجنبية» أكثر مما فعل سواه، من كون صفحاته وفصوله على مقاس خوف الكاتبة ومقاس الخوف الذي يسكننا جميعاً كمواطنين عرب، وها هي شكّاكة في جميع ما حصل وما دوّنت من أحداث حقيقية وليس في ما دوّنت من سرديات مخترعة، لمّا أن الكاتبة تزعم أن التأليف هو الذي أصلح وما زال حالها وحال صحتها، وقوّم تأتأة لسانها الشخصي أفضل من جميع تجارب الحياة والمعيش اليومي المدجّج بالكثير من السفاسف والترّهات.
السر كله لتوازن البناء المعماري لرواية ممدوح هو الخوف. ومع أن الكتاب جُهّز في الأساس كمجموعة مقالات وليس كرواية، وأُقحمت شذرات من حياة ممدوح الشخصية وعلاقاتها وشخصيات حياتها وطبعها السوداوي، هذه الإضافات أضاءت البناء بشكل هائل ورفعته إلى مصاف الفكرة الواحدة العظيمة. بإمكان ممدوح من خلال سردها العادي والبسيط، ابتداع فضاءات ثقافية خصبة وأصيلة بشكل غير عادي، ويميل القارئ إلى أن يجد في شخصيات رواياتها عرضاً لأفكارها، وكل وجودها ما هو إلا عذاب يتلوى تحت صخرة «النفي» التي سحقتها تقريباً. كل هذا التأمل حول الخوف حيوي ومهم بالنسبة إلى السرد، فهناك كثير من الإضافات إلى العملية الحسابية للخوف، حتى أن هناك وجداناً وراء كل ذلك. السرد مع ذلك ليس جاداً فحسب، بل مستفز يستنفر فيك كل الصدق وكل ما تخبئه عن الأعين. عالية ممدوح مرآة صادقة لدواخلها وهي في النهاية طريقتها في رؤية الأمور، بلغة عجائبية الوقع والنبرة والتأثير.
من تشبّثها باللغة العربية وسط نُذر غيابها في الغربة، تجلب ممدوح لغتها الغنية إلى النص، تصرخ ببنائها وموجوداتها وتحاول أن تفتح لها الشبابيك والأبواب، الآذان والأفواه، المتعة واللهو، اللعب والرطوبة، العمق والحنان. من خشية أن تبدو اللغة العربية هزيلة بعدما مرّت عليها الفظاعات والأحوال، رفعتها عالية ممدوح إلى الأقصى، وبها قالت كل شكواها، وكل الضيم. لكن مهما كانت جوانب حياة الكاتبة التي تكتشفها روايتها، أو سردها الذاتي، فهي تكتشفها (رغم الألم والخوف) كشيء جميل ومُعطى يستحق أن يُعاش. فالمأساة عندها، تعزينا بتزويدنا بالوهم الجميل للعظمة الإنسانية، فكل عثرات ممدوح في غربتها، لها جانبها الهزلي الذي يُخفف في الحقيقة جانبها الجارح.
ما يلفت في كتاب ممدوح اللافت بمجمله، اللغة والأسلوب الذي هو صور ودفق وقاموس تولّد كله من جسم الكاتبة وأمراضها ووساوسها وماضيها في بغداد، حتى غدا الآلية نفسها لفنها. لغة مكتفية بذاتها تغوص في الميثولوجيا الشخصية والسرية للكاتبة، وتغوص في تلك الدرجات السفلى للكلام، وتلك العليا، ومهما بلغ الأسلوب من ترقيق ولطف، فإنه ينطوي دائماً على كل المرارة، فهو «خاصة» الكاتبة، هو روعتها وسجنها، هو عزلتها.
سيرة، إذن، روائية للكاتبة العراقية عالية ممدوح، زمن باريس والمعاناة للحصول على إقامة وعلى تجديد جواز السفر العراقي. وهي معاناة تعكس مسألة الهوية والانتماء. نقرأ باريس وبغداد في الجملة الواحدة، في الموقف الواحد. فتصبح الكتابة باللغة العربية هي ما يمنح الأنثى الخائفة حرية وأماناً مطلقين.
https://daraladab.net/text.php?id=30