عالية ممدوح
1-
جميلة فكرة إصدار رواية عن دارين وللروائي ذاته وفي وقت واحد فينال امتيازين معا. أرض اليمبوس للروائي والكاتب والمترجم إلياس فركوح صدرت عن دار أزمنة بيت الكاتب وعن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت وعمان بيدي الرواية وأشعر أنني أتضور جوعا للوصول لتلك الأرض الإجرامية : “هي المنطقة الوسط حسب المفهوم الكاثوليكي، أو الثالثة ما بين الجنة والجحيم”. وهي أيضا أرض الكتابة الإبليسية التي يتقنها بعض الملعونين والذين عمدوا بملح الكتابة كفركوح : “الرجاء، وقول المسيح يدعونا بملح الأرض. والأرض من غير ملح تفسد” استفزني غلافها كثيرا، فهو الآخر يقع ما بين الإيروسية والطهرانية. ذراع لرجل نراها من الكتف إلى الكف وصولا لمنتصف البطن نبتت زهورا على لحمه فسببت لي ارباكا ما بين الإعجاب والفزع . صادمة لوحة البولندي فيسلاف فالكوسكي، تخزني كأنها زرعت قبل الميلاد وحان تسديد دينها في هذا العمل بقيت أتساءل، ترى من يكون صاحب الكتف هذا ؟ حسنا، سأبحث عنه في مهجة الروائي.
2-
شذرات لطيفة لاحظتها ما بين روايتينا هو وأنا، فوالد السيد الراوي خياط ووالد السيد سرمد برهان الدين في التشهي خياط أيضا . فركوح اعتنى بالأسماء عناية فائقة كما لدي ولدى الكثير من الروائيات والروائيين العرب، كرجاء عالم وعلوية صبح، جمال الغيطاني ورشيد الضعيف وإلياس خوري الخ ضمائر لا تتقاعس عن الضرب بين الضلوع ما بين المخاطب والغائب ثم يأخذ ضمير المتكلم خصوبة الكلام : “سأكون شريكك فيه . أنت، أنا، ليس هذا بمهم. لقد أخبرتك أنني لا اطمع باحتلال مكانتك أو الأخذ بناصية الحكي، أو الكتابة، أو السرد ..” . لكن أحد الضميرين يرتاب في الآخر، يحاججه ويقاضيه. نفسيا وإجرائيا هما ذات واحدة، أحدهما مضاد للثاني، واحدهما عليل يدخل المشافي بانتظار المشهد الأخير . هي ذات قابعة لدى كل واحد منّا حامية، شهوانية، تراود، تنتصر وتندحر لكنها تواصل. مرضها جزء من ذات الغواية بالدنيا، والثانية ترتعب وترتعد ويراودها الشك دائما . الانتقال الباذخ باللغة ما بين الوهج الميثولوجي والمقدس يتضوع حين يكون الراوي هناك، ما بين الجنة والنار.
3-
“تفتحت زهرة بلوغك وكنت في القدس، منفاك أو سجنك بالقسم الداخلي لمدرسة الفرير طفرت مراهقتك بغتة فمارستها سراً فهل تساءلت عما جمع في تجاربك كلها بين الحرب والمرأة؟” . بشر يدمدم، يتهكم ويحبط سخونة اليسار والنضال السري أفكار الحب الملغم كما هي الثورات العربية المغدورة المرأة المشتهاة الموضوعة في سياقات غاية في العصيان والتمرد الفعلي. هذه واحدة من الروايات العربية النادرة، يسلم الراوي الراية والصوت والتكريم والتبجيل وبدون أي تمويه للمرأة . اقرأ تلذذا بالخسارات وعلى مدى الصفحات ال(233).
من القطع الكبير تبدو هزائمنا لا نظير لها، فأعرف أن الروائيات والروائيين خساراتهم هي أعمالهم الكاملة، بل هي أفضل ما لديهم من مدونات : “كانت البندقية حلما جديرا آمنت، مثل غيري وقتذاك، بأنها ستتكفل بترميم حلمنا القديم، لكنهم قالوا إنها مجرد نكسة”.
4-
يخسر الراوي في جميع حروبه، غريب، وأنا أقرأ للصديق فركوح أو للأصحاب العرب فتبدو الخسارة موضوعة كالحدث العادي، كدروس التربية الوطنية وأيضا بلا طائل منها . ولماذا ينتصر الراوي أصلا ؟ ولماذا لا تهزم المرأة أيضا ؟ يبدو النصر مع المرأة حالة من الخفر الذكوري فهو يتشكل أمامنا ويبدو أقوى فأقوى، في القبلة الأولى والوصال الأول الذي يستحق أن نفرد له جميع المذاقات والروايات المطعّة بالرثاء الذي يصل في بعض الصفحات إلى حدود الوجع والانتحاب : “رجعت لنعيش رجفة الملامسات السرية، لازالت اصابعي تنمل حين أتذكر عملنا على تعئبة الحكاية بتفصيل جديد نستحق أن نعيش على ذكراه طوال ثلاثين سنة قادمة”. ما ان يبدأ الراوي بالتدوين حتى تبدأ الذات الثانية بالمحو مسلما البيرق لقرينه الآخر فتتبادل الذاتين السرد والأختفاء وضفر نسيج هذا العمل الفاتن فيسلمني الراوي جمره قائلا ؛ هاك، خذي ما تشائين ودعي ما تشائين فأنت أنا : “وأنا صاحب مريم ومريم صاحبتي ولي اسم اقتبسه أبي من معجم القديسين المحفوظ في ذاكرته وأطلق عليّ . لم استطع تحمل تبعات الاسم، إنها ثقيلة فادحة ولست أنا سوى بشري لا يطمح إلى ان يكون أكثر من ذلك”.
5-
“أنت مريض بمعنى ما تغيب أشياء عنك فأضطر أنا لاستحضارها، أملأ الفراغات في جملك الناقصة وانوب عنك في عرض المحذوف” غريب، في هذا الموسم قرأت رواية الصديقة عائشة أرناؤوط – أقودك إلى غيري – هي أيضا متضمنة ذلك القرين الشهواني الذي استقبلته بتوجس في البداية حتى تصادقنا قرين فركوح مستنفذ إلى الأقصى حين قدم لنا حياته وكأنه يقترح علينا كقراء كيف سيتم إبلاغنا عن دفنه. هذا الإيقاع الذي ادخلني البلبلة فشعرت ان الروائي يكتب وهو في الرمق الأخير: “هي مجرد محاولة منا، نحن الاثنين لاستعادة ماضينا أو ما نقدر على استعادته بالأحرى . كي لا نقضي ونموت تحت وطأة ما نختزن في تجاويف الذاكرة، في غور الصدر، في شغاف القلب”.
6-
ابتسمت بألم وأنا أقرأ كيف يتدلى النضال من رقبة احدهم فيبدو كدور على أحدهم ان يلعبه كما لو كنا داخل ملعب رياضي :
“لست من هناك، أنا من عمان”
“طيب، أنت لست منّا فلماذا تريد ان تكون معنا؟”
معهم، أي مع القضية الفلسطينية . هو الأردني أو. أو .. لطمتني هذه السطور . أظن، من الجائز وقتذاك انفلقت ذات الراوي إلى اثنتين في السرد والبوح والاعتراف هما وجهان مدميان مع الاحتمال الدائم بفقدان أحدهما ذاك البروجوازي الصغير المنسي أو هو اليساري الحيي الذي يخاف ان تنهب أحلامه وحياته وبسبب كل هذا، كان الراوي يبدو في بعض الصفحات رجلا مهذبا جداً فوجدت نفسي أبتسم والروائي يأخذني إلى بعض الصفحات الإيروسية ما بين عاشقين فأشعر أن ما يتم أمام القارىء كأنه وصال يجري بالملابس الرسمية وأمام تلك الحشود الجماهيرية التي دخلها الراوي في أيام النضال الأولى.
@ @ @
أسجل افتتاني الخاص بالخلاصات الفكرية التي تخص علاقة المثقف والمبدع بالمرأة يدون كل ذلك ولا يحجز أية كلمة حتى لو جاءت ضده كذكر بالدرجة الأولى. لا يتباهى بالفحولة ولا يصوت عليها فحسب ولا يتحدث عن الرجل الا بضعفه وهشاشته وإنسانيته وتواضعه النفيس. فتتصدر المرأة رأسه وقلبه ومتن وهامش الرواية. كما أسجل تقديري الذي لا حدود له بالنص لغوياً وبدون ارتكاب أي نوع من الأخطاء، على الضد مما تنشره الكاتبات والكتاب من روايات حاشدة بما لا يتصور من أغلاط في الصياغة والإملاء والنحو الخ . إلياس فركوح روائي مفتون باللغة العربية فجميع إصدارات دار أزمنة نظيفة وراقية. “تفتش في عن امرأة نموذج تكتب عنها بحذق في الكتابة . تملؤني بالحديث كيما ترصد ردات فعلي للكشف عن المرأة في روايتك. أنت تبحث عن موضوع ولا تسعى وراء حب”.
الخميس 10 شعبان 1428هـ – 23أغسطس 2007م – العدد 14304
https://www.alriyadh.com/274477