عالية ممدوح
1-
كيف بمقدورك أن تكون عراقيا؟ أعني هل هناك مثلا أعراض شبه هيستيرية تعرضت لها في أحد الأيام فصرت كائنا عراقيا؟ هل أصابك اضطراب دماغي في أجزاء منه فصارت فرص عراقيتك أضعف، بعضهم يقول، أفضل. هل أنت عراقي بالوراثة، بالطين والطمي والنوم بالسطح العالي والبطيخ الأحمر منفلع لنصفين ينتظر من يلتهمه فتنادي على أبناء وبنات الجيران ونحن نتصبب عرقا من السخونة واللهب العراقي الأثير لنا جميعا. هل أنت عراقي بالتقاليد الكلاسيكية، بأولئك الأفندية الذين كانوا يلبسون السدارة والطربوش ويمجون أنفاس النارجيلة ويلعبون الطاولة في المقاهي العراقية العريقة لكنهم يموتون في سن مبكرة متوسطها ما بين الأربعين والخمسين فتتضاعف الحسرة عليهم – اليوم – لأننا لم نعمل على وداعهم كما يجب.هل أنت عراقي عن طريق الوالدة التي كانت تمتلك دعاء أموميا يفتفت الكبد: اللهم أعده سالما غانما. تقول ذلك لأبناء الجيران قبل أولادها. هل أنت عراقي عن طريق الأب الذي اختار لنفسه نهايته الخاصة أن يكون عراقيا فحسب بلا مراتب أو تراتبية، بلا نجوم لماعة أو نوط أو مزاعم أو ملابس عسكرية منشأة أو مدنية ذات نفوذ طبقي. هو عراقي بفضل المرض المبكر والصلوات المباركة والعلل العبقرية التي توارثها. أحيانا أتصور أن العراقي أكثر من ذاك المكتوب في الشخصيات الروائية التاريخية، مخطوطات الأولين والآخرين ووصايا الحكام والأمراء الفلاسفة الشعراء الصعاليك الجواري الأولياء وأصحاب المقامات الشاهقة والكرامات الرفيعة.
2-
كيف تكون عراقيا بدون ذرة شك بعراقيتك؟ أنت مجموعة أوراق بيانات فئة الدم، العام الذي ولدت فيه لا تعرفه بالضبط واليوم مشكوك بأمره أيضا. أنت لا تكتمل إلا بالشك، هذا الأخير عنصر يربك غيرك قبلك فتبحث في عموم الأكداس من أوراقك التي حملتها معك منذ ربع قرن: شهادات ثبوتية من الجامعة وثيقة زواجك وأحوالك المدنية، عناصرك المرئية والشفافة، المعتمة والخاطفة. أنت لا تنتمي للأبطال ولا للعمالقة ولا للمناضلين الأخيار. أجدادك لا يحملون رتبا عسكرية لماعة أو نياشين لاستحقاق لقب النبالة، وبطريقة جد بسيطة أنت من عائلة شائعة جدا في بغداد من أسرة عادية جدا، عاديتها تبدو منتحلة من غرابة أطوارها لأنها تثير الشكوك. الوالد مات قبل أن يصل الخمسين، هو معدل وسطي للآباء الذين يجسدون وفاء عراقيا آسرا، يموتون من الغرام الشديد والزواج المبكر وتعدد الزوجات ومن الممكن أن يموتوا لأن التجربة اكتملت فالموت ليس هو التوقف عن الحياة، ولكن هو الانطواء عليها ونحن لا نفهم ذلك تماما.
3-
حملت ملفا مرتبا مهندما مثلي هو الآخر من أوراقي الثبوتية من عوارض العراق على كبدي وبنيتي وفئة دمي وبصيلات شعري، حملته وذهبت للسفارة العراقية بباريس من أجل الجواز العراقي الحديث جدا، الذي حين سنحمله سوف نتمتع بالانتماء للمراتب الاجتماعية العليا للقرن الآتي، الأبعد من القرن الحادي والعشرين. قالوا سيكون جوازا به إشراقة الأبدية ولا مثيل له بالتاريخ. آه، قلت للموظف المهذب ذاك القادم من بغداد؛ الجواز العراقي الجديد تحفة أليس كذلك؟ وأنا أوراقي ناقصة قليلا وهذا موضوع دسم للكتابة، هكذا قلت بصوت خفيض فخرج الرجل من وراء الزجاج وصار أمامي. أعترف، هذا لم يحدث في ذاك الزمان، أعني قبل الاحتلال، هذا الأخير يمنح حرية مركبة واحدة لمقاومته والثانية للعصف به. أقول لنفسي لدي أوراق ثبوتية، آه لدي جميع حالات الفعل الماضي والمضارع والمستقبل برمته وقبل الإصابة بالجنون تفوهت بصوت مختنق: ترى من يفرز العراقي عن هناءة أن تكون عراقيا فقط. يصعب علي أن أستعير أقوال غيري لكي أثبت كم أنا أتضور جوعا للعراق وكل هذه الأوراق؛ حجة بيت الأهل المسجل باسمينا أنا وأخي علي فهل الأمر لا يتعدى عذاب الحب وعذاب تلك الأرض التي دبغت بها ومعها دمك وصحيفة أيامك؟. أراد الرجل المؤدب بإخلاص مساعدتي لكنني كنت على وشك التدمير الذاتي. عندما دمر جسر الصرافية خرجت للشارع العام وأنا أنتحب بصوت خفيض. الجسر ذاك كان أحد شخصيات روايتي الأخيرة التشهي. هو جسر مقسوم إلى شطرين امرأة ورجل، جسر اللذائذ والوداعات والحداد، أقصد، كان بمقدوري لمس عروة حديده في أيام اللهب التموزي فقد تعلمت فوقه ولأول مرة قيادة السيارة ومن اجتازه بلا مصاعب وارتباك لضيقه الشديد ترفع له القبعة كما يقال. فجأة سألت الموظف المهذب: كيف هو جسر الصرافية اليوم.
4-
حسنا، ماذا على أن أفعل لكي أنال بركة كوني عراقية، فليكن العراق اليوم أنتحالا تهمة التباسا جناية انتحارا تفاقما الخ لكن عليهم أن يكتشفوا أنني متلبسة بالعراق. يوميا أسأل نفسي هذا السؤال: كيف يطلقون صفة عراقي/ عراقية على الآخرين ومن بمقدوره القيام بهذا الدور؟ أعني، رئيس الجمهورية على سبيل الدقة؟ أم رئيس الوزراء على سبيل التحبب. أم رئيس الأمن العامة على سبيل النفاق والخوف؟
تضاحكنا جميعا في السفارة العراقية ونحن نتبادل بعض الطرائف والنكات الممرورة وبنظرة خاطفة إلى أوراقي الثبوتية التي تعلن: إن أمي سورية من حلب ماتت بمرض المشاهير العظماء السل الرئوي ودفنت بدمشق وكلما أحاول زيارة قبرها لا أعثر عليه قط فوضعت اسمها الأثير لدي سهيلة أحمد بطلة رواية المحبوبات. هي شخصية روائية حقيقية وأنا نصفي الشامي جعل من صخبي أقل عنفا لكن ما زال نصفي السوري هو مشكلة نصفي العراقي. صرت محرجة من مصدر جيناتي ولوني وفتحة عيني الصغيرتين جدا وسلاطة لساني إلى من أدفع بها؟ مؤكد لجانبي العراقي الناري.
اليوم لست معنية وربما كغيري من العراقيين أن كان بلدي عّلم البشرية التدوين وأصل القوانين والفلك والشعر والكتابة وأنشودة المطر والرسم وأصول الرقص والتصوف والبغض والضغينة والأحقاد، فاليوم للعراقي لسانان أحدهما للكراهية والآخر للتجانس معها ولا يتعلق الأمر بالتشبيه كأن نقول: فلان يكره فلانا فلا نتلعثم أو نرتبك وهو يبتكر طرقا للفتك به. القتل تقليد والموت محاكاة والعراقي أخصائي بالابتكارات، تأريخيا هو كذلك. حدث أن كنت عراقيا مضعضعا ما بين العثور على جثة والغاية النهائية أن تكون أو تتحول إلى جثة وما أن تتطور قليلا فتطمر بين جثتين.
وُعدت خيرا، وُعدت أن يسدد العراق فواتيره المستحقة لي، لنا منذ الرضاعة الأولى إلى اليوم. لا أملك إلا خيارا واحدا وحيدا؛ أنا غير قابلة للشفاء من تلك البلاد.
الخميس 11 ذي الحجة 1428هـ ( حسب الرؤية )- 20 ديسمبر 2007م – العدد 14423
https://www.alriyadh.com/302953