ما ينحسر عن الثوب

عالية ممدوح

-1-
-الثوب- رواية حديثة صادرة عن دار المدى للروائي والكاتب الكويتي طالب الرفاعي، يحمل العنوان خفر الغواية، وهتكا اجتماعيا سافرا، يحتفظ بوتيرة تتصاعد ما بين التصادم والارتجاج في غالبية الفصول؛ من لحظة تفكير المؤلف بكتابة رواية جديدة، والبحث في فكرتها المركزية إلى الوصول لنسيج هذا الثوب؛ التيلة، الموديل، اللون، الموضة الدارجة أو المفبركة. طويل ف “تتعثر به” قصير فيكشف عن العيوب. فضفاض فيضيع المرء داخله، وضيق فلا يليق به. في العموم، نحن نرتدي ثيابنا، ربما، لكي نتنكر بها عن أنفسنا بالدرجة الأولى. الثوب رواية تستلهم وللمرة الثانية اسم ومزاج وأفكار وجانب من حياة المؤلف الرفاعي، “سمر كلمات” كانت الأولى. تاجر مليونير يتصل بالكاتب شخصيا طالبا منه تدوين سيرته العملية في السوق والتجارة، في الصفقات والثراء الخ. الفصل الأول يبدأ بتاريخ 28 مارس من العام 2007 وتنتهي دورة الرواية بعد اثنين وأربعين يوما. نراقب بدء تشكيل الفكرة في ذهن الروائي عندما تتبلور وتنفجر عن مؤلف ملعون وهو يؤثث العمل بالأفعال والأحداث والأمكنة. يروي الروائي بلغة شديدة النحول، سريعة الإيقاع، لكن، لا بارقة من جنون عاصف، أو كهربة تقود للصعقة والنص يحتمل هذا وبوفرة، حتى سخطه شديد التهذيب! ما علينا، الكاتب لديه قرين مشاغب اسمه عليان، هو الذي يمد رأسه ويتلصص من تحت الثياب والسطور، وفي أحيان كثيرة نصل معه إلى الخطر فنشغف به وبسخريته اللاذعة.

-2-
لكن من جانب آخر ، الثوب تقدم لعبتها الفنية وقانونها الداهية من تفكيك نقدي حاول أن يمس وبحساب شديد الدقة ، البنى الاجتماعية ، العائلية ، الاقتصادية ، الثقافية وبالطبع السياسية في دولة الكويت . الصفحات تتوالى كما الفيلات والقصور والشوارع فتتأسس جميع هذه البنى معماريا وهندسيا في الأحياء التي تختار سياج طبقتها ، برموزها وازدرائها للفقراء البسطاء ، أو المعدمين كما يسميهم الرفاعي: “بعض الأغنياء في الكويت يسافر ويأخذ معه ، على حسابه الخاص ، ظرفاء ديوانيته لتسليته. تجار يظنون أنهم قادرون على شراء العالم بنقودهم. بعض كتاباتي تقدم نماذج كويتية مهمومة ومطحونة بحياتها وبعضها الآخر يتناول معاناة العمالة الوافدة العربية والأجنبية . عجيبة الكويت ، الوزارة ترسل بناتنا ليدرسن في جامعات العالم، والسادة أعضاء مجلس الأمة يحتجون على دخول وزيرة تربية سافرة”. الرواية يرويها المؤلف بهدوء ، وبغتة ، تبدأ الصفعات تتوالى على هذا العالم الذي نلمسه ونراه من حولنا ، فنتجرع مع الكاتب الكرب والمرارة. هناك شبه خيط بوليسي مشوق جدا يأخذ السرد للسرعة والمجازفة وراء المصائر التي تتشكل أمامنا باحتدامها وهشاشتها ، فالأقوياء ، على الخصوص بسطوة المال ، هم في الأغلب الذين يعانون نفسيا وعصبيا ، فيلاحق هذا التحري / الرفاعي، هؤلاء وأولئك : “المجتمع الكويتي صغير ، كل يعرف الآخر ، المئات يعرف خالد خليفة ، التاجر وبالتأكيد هم مطلعون على أصله وفصله وعائلته وقصة حياته وشركاته وعمله”.

-3-
“من يكون هو لكي أكتب عنه ؟ الروائي المبدع أهم وأبقى من أي تاجر”. لكن هذا التاجر أصلا رجل مجروح بنجاحه وزواجه من ابنة التاجر الكبير جدا ، سليلة العائلة ذات الرفعة والترفع ، وبفضل تلك الزيجة فُتحت أمام السيد خليفة ابن الأسرة الفقيرة، شبابيك الثروة ولو مواربة، أبواب الجاه والصيت في عالم يعيش وراء الأسرار والأسوار. المؤلف سيكتب سيرة التاجر مقابل مائة ألف دينار ، والروائي كالعادة عليه ديون، وها نحن أمام لعبة جحيمية على الروائي أن لا ينتظر بركات ودعاء القراء، وعلى التاجر أن يختار لنفسه نهاية غير تلك التي أرادها المؤلف، فمن يتفوق في الختام؟ الفلوس التي تعّفن وتشوه البعض، أو الصياد الماهر لفريسته وهو يحولها إلى عمل فني رقراق؟: “أوضاع الكويتيين ليست كما تبدو من الخارج . المجتمع الاستهلاكي طحنهم بعجلته المجنونة ، وجعلهم يعيشون حياتهم بالأقساط “” . التاجر نراه طوال صفحات الرواية بثياب أنيقة ، مرة بالزي التقليدي وتارة بالافرنجي . وسيم مهندم معطر وذكي ، قدمه الرفاعي بصورة إنسانية جميلة وبخفة ظل خالية من التحاسد، ولا باللاوعي حتى!.

-4-
الثوب قد تكون رواية أي واحد منّا بمعنى؛ إن سطوة المال وجاه العائلة وتجبر بعض الأسماء في عالم النفود والسلطة، هي ذات الثيمة الخصبة الحاشدة في مناخ الثقافة، الصحافة والإعلام، عالم بعض دور النشر وصفقات الجوائز، في التراجم والهبات، اختلاط النقد لأعمال الكتاب والأدباء، بذاتية الخصومات الشخصية أو منح المبالغ العينية التي تستطيع عزل من تشاء والتفاني بمن تشاء، فلا يبقى أمام البعض إلا فك خيوط هذا الثوب خيطا بعد آخر بعدما طفح القيح وفاحت رائحة عطن بعض الطبقات والشخصيات والمؤسسات الخ. أقرأ بمتعة وقع نبض القرين الذي يذكرني بطالب ذاته: “أية رواية تستطيع كتابة حياة إنسان”. لكن الراوي والمؤلف بمقدوره كتابة عمل روائي لم يخدعني وهو يقول : “اسمي الحقيقي الرواية، ولذلك لا يصح أن يزج الفقير بنفسه في مملكة هو في الأصل ليس من أبنائها. هذا سيجعله متطفلا ودخيلا عليها ومنفيا من شرفها ومكرها من الجميع”.
من يعرف طالب الرفاعي عن قرب ، يعرف أن ما جاء في الرواية هو هذا الوعي والمعاشرة الدقيقة والراقية لشخصياته ولمئات الساعات من السهاد والضنى، وهو يدون من خلالهم الأسئلة الوجودية الحارقة والصارمة لموضوعه الحرية والكتابة فنتابع سيولة الدم والألم للذين حضروا وغادروا العمل، للذين طابت لهم الإقامة الدائمة فظهر الثوب على هذا النحو وكأنه هو الذي يتلصص خلسة على الأبدان المرضوضة والعظام المكسورة والجلود المدبوغة، واصرار المؤلف على بلوغ الهدف النهائي؛ نزع الثوب وبالتدريج، كما يشاء الإبداع الروائي، فيتسنى للبعض إنقاذ نفسه لكي يعود وينتسب إليها ثانية.

الخميس 16 رجب 1430هـ – 9 يوليو2009م – العدد 14990
https://www.alriyadh.com/443421