لا شيء لا أحد: العراق يكلف النفس جميع ما وسعت

عالية ممدوح

1-
“أنتظر عينيك لأفارق عماي
أنتظر غيابك
غيابك وحده يكفي سببا للعيش في انتظارك” صفحة
190علينا الاحتفاء بهذا الكتاب؛ لا شيء لا أحد للشاعر والناقد التشكيلي العراقي فاروق يوسف. هو كتاب المرارات العابقة بكل خطوة خطاها الكاتب ما بين منافي الأرض وسوسن الجنينات الهائلة التي تحيط به وهو ببلاد السويد. له أرومة بجميع مخلوقات هذا الكون وكأني أتصوره وهو يجوس أرض الغابة، يمد لها يد العون لكي تعمده بالجمال، يخاطبها فيزداد عافية وضوعا: “كان علي أن أعيش بقاء قدراتي الكامنة على النظر والسمع واللمس والتذوق والشم في بقعة واحدة. لقد فعلت تلك اللحظات ما لم تفعله عشرات الكتب التي قرأتها عن الجمال” ص 17.هذا كتاب الرأفة من طرف الرهافة حين تكون آخر ما ينتظرنا من الليلك والحجر والديك النحاسي، وأرض يقترب جمالها من الوحشة فكيف إذا أخذها شاعر بين ضلوعه ومسد على وبرها الناعم قائلا لها؛ هيا معي. تصورت دار سكناه، في كل نبتة أو شتلة أو ذرة غبار “أن وجد” بمقدوره أن يأخذها معه للسرير، يقودها وهو ذاهب للتسوق. شاهدت كل زهرة شمها مفرودة على شرشف المائدة أو مغروسة بين خصل سنا، أبنته الجميلة.

2-
ارتياد الآفاق، جائزة ابن بطوطة، دار السويدي وإشراف الشاعر نوري الجراح على المشروع الجغرافي العربي الجميل لإعادة الاعتبار لأساليب الكتابة والتفكير، للرحيل والمغادرة، للارتفاع وأنت في الأرض، للثبات وأنت في مهب الريح. لعله من المشاريع الثقافية التأسيسية والاستثنائية التي كلما تتراكم منظوماتها المعرفية تتضاعف قدرتنا على تلمس الغد والنظر إلى الخلف بتواد وغضب عاقل. في بيان لجنة تحكيم الجائزة التي فاز بها هذا الكتاب: لاشيء لا أحد: “كتاب استحق عن جدارة كبيرة جائزة ابن بطوطة لكتابة اليوميات في دورتها الأولى. بأدب التجارب الشخصية وبالسفر مع الكائن، ليس في رحلة واحدة في الجغرافيا، وإنما، هذه المرة، في رحلة حياته كلها. إنها اليوميات.

3-
الكتاب/الديوان/الرواية/ والتقطيع السينمائي. وأنا أقرأ بشغف يحضر بيرغمان، شاعر الصورة والمخرج السويدي الفذ الذي رحل قبل شهور. فاروق يوسف وضعه ذخرا له في الصمت الوعر اينما يذهب، وفي الكلام الذي غيرّ عاداته بعدما صار أقل فأقل حتى توارى وبقى الجمال وحده: “ان الجمال يُغيرنا حين يُغير علينا غير أنه يأخذ معه قدرا كبيرا من تغيرنا حين يهجرنا” ص 18.قبل سنوات قليلة مر فاروق يوسف بباريس، تعارفنا وتصادقنا. ينبغي الإشارة أنه ذكر أسماءنا، نحن، مجموعة الأصدقاء في هذا الكتاب، أخرجنا من عزلة كتبنا وزجنا في شعاع كلماته: “كنا أربعة: روائية ومسرحي ورسام وشاعر. أربعة متشردين وخامسهم رسام غائب. كان الليل على وشك ان يتلو آخر آياته. وكان عليهم ان يتفرقوا ذاهبين إلى نوم المثقفين في انتظار هاملت” ص
182.-

4-
كنت بانتظار هذا الكتاب، فالعراق يكلف النفس جميع ما وسعت ولا يعيق عن العمل، الكتابة، التدوين والإبداع. العراق لفاروق يوسف كما لنا، كما للذين كتبوا عن احتلال بلدانهم قائلين: أولا عليكم ان تفهموا ان الاحتلال كان في غالب الأحيان أشد هولا من الحرب. هذا كلام سارتر. “يخيل إلي أن العراق الآن أشبه باللوحة المزورة. لقد انتهى بلدا مزورا هو الآخر. بضاعة تتاجر بها عصابات من اللصوص والمرتزقة والفاسدين والمهووسين والجواسيس وحملة القلوب والضمائر السوداء وأعداء الجمال ” 147يكتب الناقد بروح الشاعر ويؤلف الشاعر بمزاج الطفل المشاغب، وينبثق المنّظر وهو يتأرجح ما بين الجهات الأربع. لقد قرأت في هذا الكتاب عن كرامات الفن والامزحة الساخنة والعزلة والتلاشي في الموجودات. لحظويا، أشعر ان الكاتب يتعلم أمامنا، يتأمل بتصوف عار وحين يعرف لا يدع القارىء يثق بهذه المعرفة تماما، فبعد دقائق يطرحها أرضا موغلا في نبش زيوتها وعصاراتها. حين تعرف على صديقتي السويدية كاترين لامب في إحدى الزيارات لباريس تحادثا بالسويدية وتمازحا، ثم فجأة سألني: ألم تلاحظي علاقتها بجسمها كم هي حرة ؟. أجبته بنعم كبيرة: “الحكاية مختلفة بالتأكيد حفاة السويد هم غير حفاة إفريقيا. أن تتحفى هنا هو نوع من الرفاهية، هذا صحيح، غير ان هذه الرفاهية ليست استعراضا، انها تعبير عن حاجة” ص
32-

5-
قسم النثر في الكتاب يوازي الثلثين، هو كتاب لوحده وهو نوع من التدوين لا يحتمل في جماله. بركاني تحريضي وأغلب الأحيان افتراسي. حين تلوب روحه على بغداد، المدينة التي اغلقت اليوم بوجوهنا، بغداد تتحاشى النظر إلينا. قساة نحن على تلك البلاد نجز روحها بماء النار ونؤلف كتبا موضوعها الوحيد بغداد. فاروق يوسف هاجر ونفي كغيره من مثقفي العراق الذي يختفي بسرعة ضوئية لكي تظل بغداد وتلك البلاد حبا يساوي الدوار والأذي الجثماني. “لقد اخترت ان أكون منفيا وكان علي أن أتكيف مع دورة حياة المنفى بكل مراحلها فأشركت الموسيقى في المؤامرة ضد اليأس”. آه، كم يتذكر فاروق الملاك والملائكة. لم أحسب عدد المرات التي تم تصويرهم سرديا وشعريا حتى تصورته على الضد، هو موجود أصلا وبمفرده مع الأبالسة وها هم يتقاطعون معه في تأليف هذا الكتاب. لا أعرف ماذا اضع أمام القارىء وماذا أترك فالوليمة أحيانا تسبب التوقف عن التنفس فهو كتاب يؤسس لنوعية من الكتابات التي لا تتذرع لا بالمنافي ولا باليوميات ولا بهلاك البلاد، تلك. فهذه اليوميات: “هي وطن الكتابة الحقيقي”.
أشراقاته في الفن التشكيلي وهيامه ببعض الفنانات والفنانين والأسرار التي يخاف عليها ان تموت بين الجوانج قبل افشائها: “جئت طوعا بقدمي، لكي أكون غريبا ووحيدا ومجهولا ومهملا وعابرا ومقصيا”.

@@@
“لم تكن النار مصدر الدفء الوحيد في حياتي
كانت هناك عيون وأكف وقلوب أيضا.
هناك كنت أمحو بيسر ما كتبت
فهل سيكون بإمكاني هنا ان أكتب ما محوت”.

الخميس 27 شوال 1428هـ – 8 نوفمبر 2007م – العدد 14381
https://www.alriyadh.com/292393