عالية ممدوح
الزائر – The Visitor- شريط أمريكي أُنتج عام 2007ويعرض اليوم بباريس، من سيناريو وإخراج توماس ماكارثي ومن تمثيل ريتشارد جاكينز والفلسطينية المدهشة هيام عباس وقام بدور العربي المطارد السجين وعازف الطام طام على الطبل الأفريقي طارق خليل وبدور جميل للسنغالية دانيا جريرا. ساعتان إلا ربعا من الاكتشاف والمتعة لثيمات عدة؛ معنى الوحدة الروحية، سأم العمر وهشاشة عموم البشر إزاء عزلتهم الوجودية ضمن أنظمة اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية ضاغطة بشدة على الجميع، لكن ردات الفعل تتفاوت وتتناقض في كثير من الأحيان بهذا القدر أو ذاك، بما يقوم به الآخر فيدعنا، اما في حالة تبادل معرفي وتعويض إنساني، أو بعكسه تماما. أستاذ أكاديمي يدّرس مادة الاقتصاد في إحدى الجامعات الأمريكية، على مشارف سن التقاعد ومقتصد في أشياء كثيرة؛ الابتسام، ميراث من النمطية الأكاديمية في الثياب الكامدة اللون التي تضبط الاستعارة الطبقية، وهو وحيد بصورة ناجزة بعد وفاة الزوجة. عناصر فلمية اشتغل عليها السيناريو ليضع أمامنا حياة وتأويلات هذا الرجل الأمريكي الذي نراه في افتتاح الفيلم يرحب بمعلمة البيانو، ثم وهو يودعها للباب الرئيس قائلا لها: إن لا تعود ثانية فهو قرر التوقف عن العزف طالما لا يتقدم.يعود للداخل الصامت بسحنة تجمع التصدع والتلاشي. عيناه تحت العوينات السميكة جدا أشد انطفاء وبرودة. كتب في أفيش الشريط: دراما كوميديا وهذا صحيح، فهو يتوفر على مواقف غاية في الذكاء والفكاهة فكنا نقهقه بصوت مرتفع. وهو يحتوي على مستوى واقعي من فيلم سياسي يدخل إلى ما تعيشه واحدة من أهم الديمقراطيات في العالم، حين يتعرض الفيلم بحرفية وبلا زعيق للتشريعات الأمنية؛ فيما يخص التوقيف، إلقاء القبض والسجن الذي يتجدد دون مساءلة على النحو الذي نعرفه في أوربا أيضا، وفي عموم البلدان العربية، ربما بصورة أقسى وأذل.
2-
يدعى الأستاذ لمؤتمر يقام في مدينة نيويورك وليلا نراه يعود لشقته الصغيرة التي لم يزرها منذ وقت طويل كما نلاحظ، فيكتشف أنها شُغلت واحتلت من شابين أجنبيين. نسمع غناء قادما من الحمام؛ من المحتمل أن نرى الوجه الذي يناسب توقعاتنا: زينب الأفريقية حين يُفتح الباب عليها. هنا تبدأ آلية سير الشتائم وهي تجتاز القارة واللغة والهوية والتاريخ الخ. فيوضع في إطار الآخر – الرجل – الأستاذ – الذات الأمريكية التي كانت تضبط اللسان والأعصاب لكي نصل إلى اختلاف أساليب الفعل ورداته المتشابكة. هذه الشابة على حق وهذا الزائر أيضا، فهذه داره. وبين استقامة الشرف والواجب نشاهد الشابين يقفان لوداعه وهما في حالة شديدة من الأسف والأسى كما الأستاذ أيضا. الزائر هذا، يحاول إعادة النظر ببديهيات لا تحصى، على رأسها، الفردية في مراحلها القاسية والمنتظمة في أسلوب عيش وصيغة نظام اجتماعي يقوم هو الآخر على التعدد والاختلاف. الأستاذ يريد بالفعل إعادة النظر في جميع تلك الآليات والأفكار وكان لا يملك إلا حق المودة اللطيفة جداً، بدعوة هذين الشابين للبقاء في شقته لحين العثور على سكن ملائم. وجود الآخر يكمن في تأسيس علاقات جديدة، ربما، متضاربة، عدوانية، وربما صحيحة وإنسانية، لكن، هل يتعلق الأمر ببدء مشروع صداقة يجب صيانتها، ولا يجوز الاستغناء عنها، وهل هناك مخلوق ما أو مخلوقات ينبغي عليها فعل ذلك؟.
3-
يحاول العربي طارق خليل تعليم الأستاذ النقر على تلك الآلة المميزة. هو ليس بالدرس، هو على أحسن وجه، فعل تعارف لصيرورة عربي فار من بلده وفار من البوليس الأمريكي لأنه يتنقل بدون أوراق أصولية. هذا الفرار نعثر عليه في النوتات الموسيقية التي تتسق في ذلك الحيز من المدينة العالمية نيويورك، حيث يتجمع الأصحاب والأصدقاء من المنفيين والمهمشين والمطاردين باللون واللغة والهوية والثقافة، وهم يضعون تلك الآلات ما بين الساعد والصدر والساق فتسري بين الأبدان والأكف لغة داخل اللغة ويلمس الأستاذ ذلك الجزء المجهول من لغة تنأى عن الاقتصاد وتقترب من البشاشة ما بين الشعوب، بالرغم من تلك اللسعة الحزينة التي تصاحب الإيقاع. في أحد الأيام وهما يعودان للشقة يلقى القبض على العربي وسط استغراب ومرارة الأستاذ. لم أر أسنان هذا الرجل وهو يبتسم إلا حين ظهرت منى خليل – هيام عباس. الأرملة ووالدة طارق، الذي اختفت أخباره عنها فحضرت لنيويورك. وصلت الشقة ووقفت بالباب وهي تحمل لنا ذلك القدر الفذ من الإيحاء والضوء والحرقة. ينبغي أن نفرد كل الكلام لهذه نصف الساعة الأخيرة من هذا الشريط، لهذه الملكة التي تؤمي ولا تريد النجاة من الخطر، خطر ظهور هذا السحر على قسماتها؛ الانخطاف والشغف. والرجل، يا عيني، كأنه لم يمتلك وطوال حياته إلا هذا الانتظار، انتظارها. في كل فيلم أشاهده لهذه الفنانة أعرف أن هناك فائضا من كل شيء؛ الافتتان بالفن، بالوجود وبالحب. بشيء فريد فذ موجود على الأرض ويجب العثور عليه.
@@@@@@@@
يتغير الأستاذ. يرتدي ثيابا مريحة. يستبدل عيوناته بثانية ذات إطار أرق. وكان يتصرف كرجل سعيد حين فتحت عليه الباب ليلا وهما في حالة سهاد جميل كل في غرفة، وبدون أن تنبس بكلمة واحدة وهو أيضا، يزيح الغطاء فتندس بجواره، تدير ظهرها إليه وتبدأ بالانتحاب وإفشاء الأسرار، أسرار العائلة ووجيب القلب الضاري. شريط كأنه صنع من أجل بعض البلهاء، الذين لا يقدرون، لا يجرؤون ولا يملكون أي شيء للمنح والسخاء والكرم. الحب فعل إرادة مع مخلوق يحاول ترميم رضوضك القديمة، وربما، يحاول أن يعمًرك. وهو فعل معرفي يجعلك فائق الانتباه لعثراتك وسخافاتك وكياستك. والغرام فعل حرية بالدرجة الأولى، وأظن، أنه موهبة إلهية لا يمنحها الرب للجميع، وليس بمقدور البعض التمتع به. فالكتابة عنه هي أيضا، تبهج الذات، تصفي الدم الفاسد وتقوي المناعة ضد البشاعة والعسف والتزمت فنأخذ أنفسنا على محمل الجد في هذا الشأن العظيم ودون غيره، حتى ليبدو من العبط القول: هل الغرام بداية، أم انفصال ونهاية؟
الخميس 18 محرم 1430هـ – 15 يناير2009م – العدد 14815
https://www.alriyadh.com/402215