في مديح التفاهة

عالية ممدوح

1-
في السنين الأخيرة انحرفت السينما المصرية بصورة لم ينفع معها أي تصنع، على سبيل المثال، عن وجود رقابة تمنع، أو فذلكة، غياب رأس المال، أو اتفاق، ان الجمهور لا ينجذب إلا لتلك النوعيات الرديئة من الأفلام. نغضب فعلاً مما وصلته تلك الصناعة التي كانت باهرة بحق في أحد سني العمر وكانت تختصر لنا الأحلام الخام التي بمقدورنا التنفس وسطها. كنا نقسم فتيات العائلة: اللاتي يغرمن بالسينما، واللائي يضمرن الشر لها وهن كثيرات. الطريف، ان نساء العائلة الناضجات كن يفضلن السينما الأمريكية وكان كلارك كيبل هو سيد خيالاتهن السرية. كان فيلم – ذهب مع الريح – الذي عرض أول مرة على ما أتذكر في سينما الملك غازي الكائنة في الباب الشرقي. لقد اصطحبوني معهم بعدما علا بكائي وصراخي ومن باب الرأفة بحالي. اما فيفيان لي، التي أغرم بها البطل كيبل، فقد بقيت بالنسبة إلي مفرق طرق ونقطة التقاء، ما بين الجمال الذي يغير قوانين القوة، والقوة التي تحدد معالم الجمال. وكان بوسعي وإلى اليوم أن أتصور، ان الجمال دائماً تُستنأنف بحقه الحروب، وهناك هزائم بانتظاره، لكن غيابه عن أي شيء بالوجود يعني أن وجودنا بلا جدوى.

2-
في سينما الفضل الصيفية التي تعرض أفلامها في الهواء الطلق والكائنة في ذات المنطقة. كان والدي يشغل منصب معاون شرطة الحي هناك. ولغرض تدليل أخي الذي نجح ذلك العام، دعاه الوالد إلى حفلة مشاهدة أحد الأفلام العربية. ولما كان أخي هو سيد الجمال دوني فقد كانت قوته لا تهزم أمام الجميع إلا أنا، فسرعان ما دعاني للسينما بمعيته. الوالد تأفف لكنه أذعن. كنت في حوالي السابعة والنصف وأخي أصغر بعام.. الذهاب للسينما لا يعادل العيد حتى، هو شيء بالتأكيد يعادل الجمال الذي ما كنت قادرة على تفكيك عناصره. بغتة، كان يحوم حولنا دبور شديد النشاط وبلا أي تراجع أخذ مكانه فوق ركبتي في لسعة لئيمة، فتصورت أن الوالد تآمر مع هذه الحشرة الجميلة ضدي لقتل بهجتي. كيف أقمع تهديدات الوالد بطردي من السينما فيما إذا ارتفع صوت انتحابي؟ بدفع الونونة والدموع إلى آخر بقعة من جوفي، فألم الدبور يحتمل إزاء ألم الخروج من الأسرار التي أغرمت بإفشائها في كل فيلم شاهدته ولم ينقطع بوحها لليوم. كانت دموعي تهل على خدي وبدون صوت إلا لعثمة خفيضة وأنا أمسك ركبتي وأنظر للورم الذي بدأت معالمه تتضح. الفيلم بدأ ورشدي اباظة في سحره الذي لا يقاوم ونعيمة عاكف أستاذة الفتنة والموسيقى مزيج من البكاء والأوامر بالخرس، لكن الدور الذي انتصرتُ فيه على ما أحسب؛ هو نزعة الفرجة وتحليل شروط الجمال بصرياً ومعرفياً كوقائع ومغانم بقيتُ وفية لها فيما اشتغلتُ عليه في مجال الكتابة.

3-
في مهرجان الفيلم العربي الذي أقيم في معهد العالم العربي بباريس في شهر تموز الماضي، نال فيلم عمارة يعقوبيان جائزة أفضل فيلم. لا أعرف إن كانت هذه الجائزة الأهم لكني لم أشاهده في المهرجان ومجاناً وإنما دفعت نقوداً ووقفت تحت المطر الخفيف وبيدي المظلة ودخلت بعدما سمعت من بعض الأصحاب أنه فيلم به – اختراقات – مهمة لم تصلها السينما المصرية التي كانت في رأيي في حالة احتضار وأية مقويات كهذا الفيلم لا تنفع في تحفيز المجرى والجذور بنسغ جديد كمخرج هذا الفيلم الشاب. ما أكتبه، بالطبع هو انطباعاتي وتصوراتي الشخصية محمولة على مزاجي وذائقتي الفنية. فلو كان مفيداً المطالبة بإعادة ما دفعت، (10) يورو لاستعدتها وبدون تراجع. إنني في الأصل لدي اشتراك سنوي يتيح لي مشاهدة مئات بل ألوف الأفلام بسعر لا يصدق في زهده، لكن فيلم العمارة كان خارج الاشتراك. أولا، ليس دقيقاً ما نشر وأذيع في الإعلام حتى الفرنسي، إن الصالات مكتظة إلى آخرها، فالصالة التي شاهدت فيها الفيلم كانت في الشانزليزيه وهي صغيرة جداً والحضور العرب من شمال أفريقا بالدرجة الأولى. الأجانب على الأغلب كانوا من الفرنسيين والأمريكان. إنني من حنقي الشديد ودرجة التثاؤب تتصاعد بعد مرور الربع الأول من الشريط كدت أخرج لكني اكتشفت أن لدي ميولا مازوشية لجلد منظومة معارفي وأشواقي السينمائية. العمارة، فيلم امتثالي نمطي مليء بأخاديد وحفر تصعد بخط مستقيم من كاتب السيناريو وحيد حامد الوالد يجاوره ولده مروان حامد للإخراج ولأول مرة. ياه، هو شريط عائلي منظم تنظيماً أسرياً بالمسطرة. إذ ما ان يتباعد المخرج قليلاً في لقطاته عن السرقات السافرة من الأفلام الأمريكية ومن الدول الاشتراكية سابقاً الخ.. حتى يبدأ بنهب وليس (نهل) من أساتذة الإخراج المصري الكبار. البطل المركزي عادل إمام كما هو عمود النور، في الأعلى الضوء الذي بدا خانساً جداً وعلى وشك الاحتراق، بالطبع بسبب سنه المتقدم بالحياة والفيلم، ولده، ابن البواب أداه أفضل من الأب، علامة النجاح اليوم كما يتراءى هي التوريث حتى دون علامة رمزية تذكر لا للفضائل الفنية ولا لاحترام ذكاء المتلقي.

4-
منذ أعوام طويلة تدهورت نضارة نور الشريف الفنية بصورة أسرع من شهاب يسقط. في هذا الفيلم كان السقوط مدويا، لم يستحق الحسرات حتى. كيف نقول، إن فلاناً يتبجح بالرداءة والغباوة، نور الشريف هو هكذا. فيلم العمارة يتحدث عن الفساد المفسدين والفاسدين بدءاً من الشركات إلى المديرين إلى ان يغدو الفساد نزعة فردية كما لو كانت خلية جديدة أضيفت إلى خارطة الوراثة ومن حق الجميع التمتع بها وهي، بالمناسبة تصلح للعموم. في هذا الشريط موديلات ونماذج من الفاسدين فيظهر الانتصار المالي أو السلطوي أو الجنسي والباقي خردة. الفساد يؤجر أيضا، يقدر أحدهم ايجار نفسه لكي يكون على الموضة. ولذلك كنا أمام غابة من الأدوار السينمائية الفاسدة وليس من كشف الأوضاع الفاسدة في الحياة وخارج الفيلم. سيناريو مترهل ممل مكسور محشو بالثلمات البصرية والجمالية، حتى العلاقة المثلية التي ذهب – أكثرهم – من أجلها بدت علاقة (نص كُم) تأطرت في التلفيق حين جرى قتلها في الختام.
هذا فيلم أبطاله الفعليون هم الصف الثاني، هؤلاء قدموا أدواراً تشي بمشاريع فنانين حقيقيين. التونسية هند صبري وحدها كانت ممثلة مطلقة عدوانية فجة ممتازة، هذا فيلمها هي بالدرجة الأولى فقد شدت المشاهد بها ولها ولوحدها، هي التي قادت المخرج فظهر عادل إمام وأمامها رجلاً مسكيناً يثير الرثاء كممثل لا الاعجاب. هند صبري التي لمعت في دورها الأول الأخاذ – صمت القصور – وقطفت الجوائز، فبدت في العمارة رئيسة الحكومة وباقي الكبار مجرد حرس داخل الكواليس أمام حميميتها وسحرها.
نحن قوم لا نبالي بما نقوم به، أهدافنا ملفقة ووسائلنا يغلفها التدليس. فإذا كنا سنحارب مثلاً فما علينا إلا خوض الحرب للركب لو خسرنا حتى وهذا المرجح بالطبع. إذا كنا نريد فضح الفساد فما علينا إلا ان نقدمه حتى من خلال أخطائه وليس من خلال المبالغات، أضعت ما بعد ظهر ذلك اليوم من شهر آب وأنا أردد، هذا شريط اصطناعي مصطنع ولا يستحق – جميع – الاطراء الذي سمعته أو قرأته عنه..

الخميس 16 ذي القعدة 1427هـ – 7 ديسمبر 2006م – العدد 14045
https://www.alriyadh.com/207142