عالية ممدوح
وصلت رواية الروائي الأردني جمال ناجي : عندما تشيخ الذئاب ، إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية للعام 2010 . الترشيحات أو الفوز ، يزيح أحيانا أو يؤكد الأحكام القيميَة ، في حين ان الإبداع بحد ذاته هو حكم قيمة ، اصطفاء للجمال والاختلاف. وضعت الذئاب كلهم في حقيبة يدي وأنا اتوجه للطائرة التي اقلتني من عمان لباريس . في الصفحة الخامسة يدون الروائي ما يلي : «» على الرغم من كل ما يود المشاركون في هذه الرواية قوله، سواء أكان صدقا أم كذبا، أم دفاعا عن النفس، فإن الحقيقة لن تكون حرية بالاهتمام إذا لم تكن قادرة على حماية نفسها «» . هذا المدخل يشي ولو بحذر عما سنواجهه من حقيقة ، حقائق بكل مراتبها وبالتالي انكارها. وكنقطة انطلاق ، وفي كثير من الأحيان يقف الفن وبجدارة بموازاة الحقيقة ، وربما هو جوهر الحقيقة . هذه رواية وعرة ولا أعرف ان كان مقالي هذا أصلا سينشر أم يلغى ؟ فهو كتاب أبطاله رجال دين يتحركون بين الأفكار المتشددة والافعال التوفيقية أو العملية ، فلنقل البراغماتية . هي الأفكار التي بزغت منذ مفترق الحربين وتوهجت في العشرين عاما الأخيرة ثم تفاوتت نسب تأثيراتها وتنوعت ما بين التشدد والتزمت ، ما بين العنف والارهاب ، ما بين الوسطية المحسوبة بدقة حيث تقوم بعض التوازنات ما بين الدين والدنيا.
2
بين سطوة النفوذ السياسي والديني والمالي ، وبين غواية المرأة يتحرك أشخاص هذا العمل المشوق ، الحرفي ، والممتع جدا . كل شخص يقدم نفسه باسمه : سندس ، عزمي ، الشيخ الجنزير ، رباح الوجيه ، جبران، بكر الطايل، ثم العقيد رشيد حميدات. يتوالى هؤلاء على التعريف بانفسهم وهواجسهم ويعبرون عن انفسهم كما يرونها بالتشتت والضعف ، أو بالانتهازية والشر التي يشخصها السارد الذي يليه وهو يمسك بزمام البوح مفندا الذي سبقه وناقدا لكلامه ونواياه وأحكامه وبالتالي مقدما الساحة للذي يليه . كل هذه الأسماء التي توالت على السرد هم رواة على سبيل التخصص ، أفراد لديهم دعامات للدفاع الذاتي والهجوم الذي يصل أحيانا، وقد وصل إلى محاولة القتل . سندس شابة ذات جاذبية وفتنة تتعدى اسمها الفارسي الذي يعني الحرير إلى كونها القناع للأنثى المغرية عبر الحضارات والأديان والثقافات . تتأخر وتتقدم من منطلقات المتعة والقوة وضمن الاحكام الاجتماعية والفقهية.
3
«» كنت في الخامسة والعشرين من عمري ، وهو عزمي في حوالي العشرين عندما تزوجني أبوه . دفعني فضولي إلى التحرش به بعد ثلاثة أشهر من زواج أبيه مني «» . كلهم ، كل الأسماء التي اوردتها قبل قليل سيكون لها علاقة جزئية أو مفصلية بسندس ، جذر السحر الكوني، وعزمي أيضا صنوها في معظم التفاصيل . فالحكايات الصغيرة المعَبرة عن مراحل وحقب تبدأ منذ هزيمة ال 67 وقد تدرجت لمراحل الثمانينيات والتسعينيات ، في كمون وصعود ، واندحار وتأكيد على صعود الحركات الأصولية في المجتمعات العربية ، وفي هذه الرواية بدت النشأة لهذه الحركات ساطعة في مجتمع بدوي وعشائري كالمجتمع الأردني وهو يتململ صعودا للنهضة والحداثة أيضا . فالرواية ترصد وتتأمل جميع هذه العلاقات المجتمعية عبر نسيج روائي ، وبلغة ساخنة قوية إيروسية ، أو فقهية نكاد نسمع وجيبها في دم السارد كالشيخ الجنزير : «» عندما رأيت بدنها في حجرة المداواة في داري حسبتها شيطانا تراءى لي في صورة امرأة فاتنة ، استعذت بالله من الشيطان الرجيم وقرأت المعوذتين ، قبل سندس وبعدها ، داويت عدا الرجال نساء كثيرات .»» «» بعد ان تزوجت حليمة ، بينت لها بالفاظ لا لبس فيها ما يلزم عملي ودرسي ومواعظي وسفري وعمرتي وحجي من غياب وانشغال عنها ، وما قد يطرأ من شؤون لا يعلمها إلا الله «».
4
السطو على أموال الغير ، تجارة بالممنوعات . الخيانات وبدون تورية فهي أمور بدت لا تعذب اصحابها ولا تغير نمط حياتهم . التفاوت الطبقي الشنيع ما بين الرجال الفقهاء وبين المعوزين الفقراء الذين ينتظرون الصدقات والبركات والصلوات ، وأحيانا تصل لكنها منهوبة : «» أعرف ان ديننا سمح ، والله غفور رحيم ، فمن الجور ان لا يتمكن اخوتي من تناول أكثر من وجبتين في اليوم ، فيما ينفق عزمي عشرات الدنانير التي لا أعرف من أين يأتي بها الخ «» . أفكار متشددة جدا ، وأفكار ماركسية تبعثرت وديست بفعل التاريخ وآليات التنفيذ التي لا تقل تزمتا وتشددا . يسار ازيح بعيدا بعد تكلسه وخياناته الصريحة ، وأشخاص قاتلوا من أجل القومية العربية والتي لم تعد مقدسة بعد أفول فرسانها وغيابهم ، وتعصبهم القومي المتشدد أيضا . يهود وعرب ، خدم من الشرق الأقصى ، وجيل جديد يأوي لبيته كما لو كان يقيم في فندق بنجوم لا يخفت نورها . عمليات تجميل ، تنوع الأغذية ، شروط الاناقة ، بعض حفلات التهتك ، التغييرات الصاعقة لنواة الأسرة العربية في عموم البلاد العربية وجولات السياحة الجنسية . اكاذيب متشابكة ما بين التسلق الوظيفي والديني والمالي ، هذيان الأولاد والشبان اليافعين وهم في أوج الايمان وعلى استعداد لحمل اكفانهم بين ايديهم . شبكة هائلة مخيفة من الأفكار والحقائق الخطيرة تفجرها هذه الرواية ، فكل فرد فيها يعين ظله لشخصية حقيقية أو مركبة من عدة شخصيات مرت علينا وأمامنا ، نعرفها أو شاهدناها تطل علينا في إحدى القنوات وهي تتوعد.
5
جبران اليساري صار وزيرا . شاهدت ريقه يزداد نداوة فالكرسي يحمل بهجة وسطوة لا نظير لها ، فنراه يبتعد عن الحشود والأصدقاء القدامى ، والتخلي وبالتدريج عن عموم ما وثق وأمن به : «» ما أثار اهتمامي في حواراتي مع السياسين ، أن من يبدأ يساريا أو قوميا يظل محسوبا على اليسار أو القومية العربية حتى لو اصبح مليونيرا أو صار من أركان الحكومة ، كما يجد صعوبة في نسيان خلافاته السابقة مع السياسين الآخرين … الخ «» . بدت الرواية وأنا اصل إلى خواتمها ، انها عمارة شيدت من التحريات المنهجية ، والوثائق السرية أو العلانية المنشورة فتداخلت في النسيج الروائي بدربة وقدرة وسقف معرفي وفقهي عال، وهي تكشف الأصول الطبقية والعشائرية وبكل النزعات التي تتلاطم عبرها النفس البشرية من الشكوك والمكر ، الدهاء والقسوة ، الهشاشة والحنو ومن داخل الحركات الأصولية وكيف تشكلت وأثرت ، قمعت وسجنت واهلكت ، أو كيف تحركت من وراء أسماء بعينها ، دخلت الوزارة الفلانية ، أو ذاك الوزير المحسوب على وعلى.
مدينة عمان الجميلة والنظيفة في العموم ، ذات الجبال والتلال والعمارات المشيدة بالحجر الجميل . بمناطقها الفقيرة أو الحاشدة بالثراء الفاحش، كلها نمر عليها في هذه الرواية الساحرة . جمال ناجي كان بيده المسطرة والفرجال يرسم ويلون ، يكشط ويعيد طلاء الارواح والابدان ، الأفكار والشخصيات في عمل لا يستحق فقط الوصول إلى القائمة القصيرة للبوكر ، وانما ينالها عن استحقاق . فهي رواية تضع كل اصابعها وبهدوء وبدون زعيق على كل هذا التململ والاجتياج الذي نرقبه جميعا في شوارع عالمنا العربي: «» فقد احتفظت به بين أتباعي على الرغم من اقتناعي بأن في أعماق نفسه كائنا طامعا سفيها ، إذ من يدري فقد نضطر إلى الاستعانة بسفهائنا لقضاء بعض غاياتنا إذا اقتضى الأمر «».
الخميس 1 ربيع الآخر 1433 هـ – 23 فبراير 2012م – العدد 15949
https://www.alriyadh.com/712264