عالية ممدوح
1-
أحببت مارلين مونرو وما أزال، هذه كليشية بالطبع، معظمنا استسلم لها فبدأ الأمر مرضيا من هذا الجانب أو ذاك . لكن، هذه المرأة أراها تورية شعرية تعذب وتبهج سويا بالرغم وبسبب جميع المشاهد الاستعراضية التي تبدو فيها الشهوانية مجرد عمل روتيني يتجدد قليلا لكن سرعان ما يتعفن . ماأزال أشعر بوخز ألم شاحب أن – هذه – المرأة، لكي لا أعيد وأكرر اسمها إلا للضرورة، عصفت بجميع ما حولها وصولا لرئاسة البيت الأبيض في ستينيات القرن المنقضي . كانت لديها حتى اللحظة التي وجدت فيها مقتولة أو منتحرة أو .. شحنة غواية تحث على الجريمة فيعلق بها القاتل قبل قتلها ولا يندم على فعلته فوجودها محرض يعادل القصاص الغامض الذي لاحق عموم من تعرف عليها أو عاشرها، كأنها مذنبة بصورة شريرة ومهيبة جدا لأنها كانت تقذف حممها ولا تنتظر منها إلا الخطر. كنا فتية جدا حين سمعنا نبأ موتها أنا وأخي ونحن نصغي إلى إذاعة BCC في بيتنا ببغداد، أصبنا بوجوم حزين فج وفوري وغير موجه لأحد، ولا عليها حتى.
2-
بعد سنين طويلة وفي العام 2001في شهر مايو وفي نيويورك اقتنيت بضعة أشياء وكتب ومجلات وبوسترات وسلسلة مفاتيح وقميص قطني به صورتها ونظرتها تلك المشعة، أحدث من الذي بحوزتي، كنت مرتبطة بها بطريقة أتبجح بها وأردد أمام البعض : إن هناك أنواعا من البشر… لا يجوز اختزالهم أو إيجازهم فهم يندرجون في صيغة اللغز وبدماثة أحيانا لا تليق بهم، ارتباطي بهذا النوع من الكائنات ؛ الشاعر الفرنسي آرثر رمبو، الممثل الأمريكي الشاب جميس دين، الذي قتل بحادث، والكاتب كافكا و… هؤلاء وغيرهم ، أدرجهم في خانة الشخصيات التي يتعدى وجودها الفيزيائي الصرف إلى وضعها وبشكل نهائي في خانة الارتجاج الوجودي الفتاك، ذاك الذي صاحبهم، وبالتالي شكل التخلي والخذلان التامين بموتهم الميتة التراجيدية الفاجعة، قمت بترجمة حوارات أجريت معها من أجلي وحدي، فقط لكي أتذمر ويصيبني الغضب والحنق من الدرجات القصوى لما أصابها من أذية، حضرت جميع الأفلام التي اشتركت بها ومنذ البدايات حين كانت كومبارس، وباقي الأفلام التي صنعت أسطورتها، قبل عامين كنت مدعوة لمدينة تورينو الأيطالية مع حشد من الكاتبات العربيات والأجنبيات فذهبنا أنا ومي غصوب إلى متحف السينما، هو واحد من أهم المتاحف في أوروبا فتسمرت أمام جناح مارلين، كانت أمامنا فوق الثياب وخارج الأحذية، الإطلالة بالمعاطف وكلها من الفرو المزيف، والألوان في عمومها ايروسية جدا، كان وجودها يتعدى الإغراء والموت والشجن المستديم ؛ صوتها وهي تغني أو ترقص أو تمثل نسمعه في أرجاء المتحف الذي يعرض فقرات من أجمل أدوارها فنشعر أن بمقدورها إضرام النار أينما حللت.
3-
في جميع الأفلام التي مثلتها نداء يقول لك، لا على التعيين، ان كنت رجلا أو امرأة، انها بانتظارك لكي تشاهدها هي لا غيرها، لكي تخبرك أمرا واحدا لا غير : إنها امرأة مكتملة العدد لكنها بحاجة إلى حماية ! في الصيف المنقضي شاهدت كتاب نورمان ميللر : يالها من فتاة شقراء تبا ؛ إنها مارلين، الصادر منذ سنوات عن دار الجديد بترجمة ريانة يانعة للشاعر بسام حجار الذي أظن أنه أحب مارلين مثلي فأتقن عمله، استعرت الكتاب من مكتبة نهلة وأمير وقررت أن لا أعيده لهما، ولو تضاعف عدد الكتب التي لا يحق لأي واحد منا إعادتها، هذا كتاب يشع ضوءا حتى لو كان عن تابوت يحمل جثة المرأة الصاعقة، المؤلف تخيل نصوص الكتاب والحوارات والمساجلات إلا ما ندر، كأن، نحن القراء ينقصنا الخيال !
4-
كتاب مكتوب ما بين السيرة التي تلقننا فضولا قل نظيره، وبين الاستخدام النفعي لنشوة أن تكون بين يديك أوراق تتحدث بصوتها. وإذاً، ما عليك إلا استقبالها بالملابس الرسمية :حين يصيب المرء حظا من الشهرة تُصبح صلاته بالطبيعة البشرية أقرب إلى القسوة، ذلك أن الشهرة توقظ الحسد “أقرأ بشغف حقيقي لطفلة، الجميع، ربما، أرادها أن لا تنضج من خديعة الطفلية التي لازمتها، بين الغنج العارم والريفية الساذجة التي كانت تتلبسها في كثير من الأوقات وأمام الكثير من الشخصيات البارزة في عالم السينما أو بين المشاهير ومن دون إرادتها فتتضاعف جاذبية وكربا، في الكتاب وفي الدنيا، مارلين كانت بسيطة، تلقائية، عفوية وذات هشاشة وحساسية سريعة العطب، وكانت جميلة بصورة مزعجة، ولا تُختصر أيضا : “لي طريقة في مد جذوري في المكان أشبه بالجنون فانا أوحي ببعض الغموض وفي عالم السينما كان عدد كبير من الناس يعتبر أنني طائر غريب لم يكن يراني أحد لا في السهرات ولا في زيارات لأهل الوسط “.
5-
“تريدين أن تصبحي أعظم ممثلة في العالم، أردف ميلتون، لكنك تُعاملين بوصفك الشقراء البلهاء وأنت لا تبالي، لا تتجولي بين الناس وكأنك نكرة ولا تنسي أنك على الشاشة كائن رائع الجمال” هذه هي الورطة والعبء في حالتها وجميلات خارج عالم السينما والشهرة. يشكل الجمال وما يصيبنا منه تشوشا واضطرابا فعليين، كأنه منفذ من عمل تدميري لكننا لا نستطيع الاستغناء عنه، في كثير من الأحيان تلازم ألسنتنا اللعنات عليه فهو يتفوق علينا لأنه نقيضنا، لا يتوقف في مكان ولا يبحث عن خط هروب وبطبيعة الحال لا يلاحظ ذاته، الجميل لا علاقة له بالندامات والذنوب ونحن نتسامح معه لأنه يستدعينا لكي يظل لنا احتياطيا من التهديد. فالبشر، دون أن يعوا ذلك يفضلون القليل من الخطر بالرغم من تردديهم العكس، مارلين تدري بطريقة فطرية أنها جميلة وهي تشكل بالنسبة للبعض نعمة، ولكن لا رجاء منها، فأزواجها : الايطالي لاعب البيسبول الشهير، جو ديماجيو، الغيور المتطير، كان يشغف بها على شكل مباراة عليه الفوز بها، والمسرحي الشهير أرثر ميللر، كان يتصورها شخصية مسرحية ربما، في أحد الأيام تتحول إلى شخصية واقعية، يعرف مقاييس بدنها على الشكل التالي : “متر وثلاثة وستون ليس أكثر، ليست طويلة القامة، لها جدع طويل، وقامة مديدة، وهذا هو اللافت في الأمر” لكنها هي كانت تردد : “بدأت أدرك أن أمرا آخر يعوزني : المخيلة، أمر مؤسف حقا فالسواد الأعظم من الجمهور يراني على صورة مكارة شريرة”.
@@@@@
أعرف بضع نساء جميلات من محيط الأسرة والمعارف البعيدين، جمالهن سبًب أعراضا هستيرية لمن حولهم وكان سوء الطالع والحظ العاثر هو بذرة اللعنة التي لازمت حيواتهن وفي أعمار مبكرة، الغريب وأنا أتذكر بعضهن اليوم وأسأل عمتي أحيانا وأنا أحادثها في بغداد، أين فلانة أو علانة، كانت تفوت ما تشاء من الأسماء وتردد كأنها تخاطب نفسها بالدرجة الأولى : – والله بنتي لا ادري عبالك هناك انتقام رباني من هذه ومن تلك”.
تماما، مارلين كانت :over حتى بدت أنها غير حقيقية، وكان عليها أن تغادر وتختفي، فالجمال لا يجوز التستر عليه وإذا ما طفح الكيل تحول إلى رعب مميت.
الخميس 29 ذي القعدة 1429هـ – 27 نوفمبر 2008م – العدد 14766
https://www.alriyadh.com/390706