رقص على الماء: رواية عامرة بالغائبين

عـاليـة ممـدوح

1 –
ظاهرة لطيفة لاحظتها منذ فترة، تصلني كتبا من كتاب وكاتبات وباحثين، من داخل أوروبا والبلاد العربية فأعثر في الصفحات الأخيرة على عناوين الكاتب، موقعه الالكتروني ورقم هاتفه الجوال. هذا ما حدث مع المهندسة والكاتبة اليمانية ناديا الكوكباني التي التقيتها في ندوة الرواية العربية التي جرت وقائعها بباريس قبل ايام وسوف نعود إليها قريبا. قدمت نادية ورقة ممتازة عن المساحة الشاسعة التي يتحرك فيها الابداع اليماني للكاتبات والكتاب بالأسماء وردات الفعل الإعلامية والسياسية التي أثارتها بعض الروايات. لاحظت أيضا في ختام روايتها (حب ليس الا) وفي الصفحة الأخيرة بيتها الافتراضي، ولأنها مهندسة تصورت الصالون وطراز الأثاث وغرفة المكتبة الخ. لم يكن هذا يحدث لنا، أعني لجيلي وإلى اليوم، ربما، كنا نتشبث بكلمة مجموعة قصص أو رواية فوق أو تحت اسمائنا، وكنا نبصر اسم الدار الناشرة فنتصور انه يعادل البيت الأول المجازي وليس الافتراضي قط. كل دار نشرت لنا، أحسبها دار سكناي، وأنا على اعتاب بناء جمهوريتي الأولى. فالكتاب هو الذي يمتلكنا لا نحن والدار هي التي تحافظ علينا وتأخذنا معها داخل المرآة فنجد أنفسنا وبغتة في هجرة وجوهر الكلمات ونعرف أننا لن نعود إلى ما قبل النشر قط ولا نعرف ماذا سيحدث لنا بعده أيضا، أما الصفحة الأخيرة فكانت على الأغلب تبقى فارغة.

2 –
الكاتب العراقي محمود البياتي هو الآخر يتوجه إلى الغير عبر موقعه الالكتروني المنشور في ختام روايته يقدم نفسه هكذا: أديب من العراق المحتل. أتصوره قادما من الأسر وروايته الجديدة الصادرة هذا العام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت، تحت عنوانين الأول: رقص على الماء مكتوب بخط أخضر جميل على غلاف بني محروق، وبعده مباشرة عنوان ثان وضعه المؤلف بين قوسين (أحلام وعرة). لم يكتف الكاتب بعنوان واحد، فالأول لا يفسر والثاني لا يكفي والعناوين جميعا، إذا شئنا ناقصة. ونحن بصدد رواية عراقية لكاتب «عراقي المولد والطبع تشيكي التفكير تغلب عليه النزعة الكافكوية. روسي الشهية والمذاق» هذا ما وصفه به الدكتور عصام الزند في الغلاف الأخير. حسنا، رواية رقص على الماء رواية المنفى المستمر غير المنقوص. النفي الذي يسمح بالتضحيات الكبيرة لكنه يمنح التعدد والاختلاف في الرؤى والتوجهات، كأن الاوطان، هي التي تتستر على المؤلف والمؤلفات، لكن المنافي وبدون استثناء هي الفضّاحة رقم واحد. أحلام وعرة رواية رشيقة جدا، راويها يذهب إلى آخر شوط الألم والخسارات ما بين جميع البلدان التي مر بها أو وصل إليها كالسويد، هذا البلد الشديد الرقي، فهناك من يسجل ويعدد؛ أن الدول الاسكندنافية يميل ميزان رقيها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والوجودي مديات أعلى من أوروبا وسائر دول العالم.

3 –
«إذا كان البرابرة استولوا على روما بقوة السلاح فأنتم برابرة العصر الحديث، تستولون على السويد بوسائل سلمية أو بسلاح قوانيننا التي تجيز اللجوء بلا قيد أو شرط».
يشق الكاتب جلد ثمرة اللجوء والنفي والقهر الداخلي بكلمات من حرير حين يهاتف بلده بهذه الصورة:«بللت نبلة قلم بفمي – ورسمت قطرة ماء أبحرت فيها ورسمت سعفة نخيل أمتطيتها وطرت إلى بغداد».
الراوي باحث في التاريخ والاديان والحضارات وشاعر وكاتب وملتاع وصديق لانواع شتى من الجنسيات والاعراق والالوان. غادة الرسامة حبيبة ذكية وهيمانة وهي من ذات الفولتية الساخنة، من فلسطين وتحس: «بالخوف والتوتر وعدم الثقة بنفسي والآخرين» نجت بأعجوبة من مذابح صبرا وشاتيلا.هي ولدت في ذاك المخيم وعملت في مكتب هندسي في قبرص ثم «استقرت في السويد منذ خمس سنوات حين درست الفن التشكيلي» وسارة اليهودية القادمة من بولندا والتي تحاول مراودة الراوي في أكثر من صفحة ومكان لكنه يصدها. خوليو موسيقار من التشيلي. آواز الكردية، عبدو العراقي الذي سيغادر إلى عمان لكي يتزوج من اختارها أهله ولأسباب شتى. والمدينة السويدية هي – همركولان – والرواية تشبه السيناريو التام والجاهز لعمل الفيلم الآسيوي والاوروبي سويا لمخرج بارع فيما لو تمعن به جيدا. ألسنة الراوي واصحابه من الشخصيات تمر وتناوش الأفكار الكبرى، كالديانات التوحيدية والعدالة والحضارات العريقة كحضارة بابل ومصر، وآلاف الليالي من تلك الألف، يمرون على البيان الشيوعي وافكار الرسول العظيم ويسوع النبي واشياء لا حصر لها بحنان شفيف وفي بعض الأحيان بعصبية تنط انفعالاتها من بين الصفحات والسطور. فالراوي يحيا تحت ضغوط شتى، بلده محاصر، والدته مريضة وهي تنتظر هاتفه، شهود يهوا يبشرون بشيء غير المسيحية التي نعرف، والسويد مكان يقتضي تعايشا مغايرا فنحن أمام آخر نريد الدنو منه لكنه في بعض الاحيان يرفض كما حدث مع الراوي وأحد المتعصبين لسويديته، ربما معه حق، أعني ذاك السويدي.

4 –
ثلثان من صفحات الرواية التي تقع في 154 صفحة كتبت بهاجس حقيقي أو وهمي؛ الراوي عثر في أحد الأيام على محفظة بها نقود وفيرة فيحتار بها. يعرضها أينما حل في المقاهي والبارات، يضعها أمامه على الطاولات التي يشغلها عسى يراها أحدهم ويكون صاحبها لكي تنتهي الورطة. في الصفحة 107 تنتهي الغصة بعدما يسلمها للبوليس الذي كان رافضا طوال الصفحات الماضية اجراء هذا الفعل. يبدو لي ان حكاية المحفظة ذريعة ورابطة ورديف لكن ينبغي الحذر من المبالغة. المحفظة تحمل دلالات؛ الثروة الهوية، اوراق ما حميمية وربما لا، المحفظة لا تبعث على الطمأنينة قط، هي تلسع بالمرارة والقلق لأنها تستنهض منظومة القيم لدى الراوي بالدرجة الأولى، وكأن وجوده بالسويد والبحث عن اسم صاحب المحفظة هو البحث عن هوية الراوي ذاته، أن يكون مالكا أو متخفيا أو لاجئا، ان تكون لديه قواعد في اللجوء وقيم في التحضر للبلد المعني تؤكد على ما كان يبحث عنه في القراءات الكثيرة التي تستهويه في الاديان والثقافات جميعا. احلامه مكتظه بالعراق غير السليم، غير المعافى والذي يموت تحت الحظر حين كان يدون فصول هذه الرواية، فيكتب البياتي بهدوء جنائزي عن تلك البلاد وأمه:
«بكيت ثلث ساعة وأنا مطرق الرأس في مكاني. تذكرت القصص التي كانت تسردها قبل النوم أو عند المرض. تذكرت بلوز الصوف والبانتوفلات التي تخيطها مطلع كل شتاء، وكنا نصغي إلى نشيش ابريق الشاي ونظراتنا مسمرة في جمر تكسوه طبقة من رماد. الحرارة تلفح وجوهنا وتثقل الاجفان لكننا نقاوم ونقاوم ونقاوم».

-5 –
أمسك بيدي محمود البياتي واستضافني على استكان شاي عراقي ثقيل ولفة بيض وعنبة وصمون حار ونحن ننتظر بعضنا في احد فروع شارع الرشيد إياه بالقرب من سينما روكسي القديمة نبلع اللقمات وتهل الدموع على تلك البلاد. اجناس تتلاطم يبحث لها المؤلف عن صوت ورائحة وقرار وشريك لكيلا يطلع من صفحات هذا العمل. يحاول ان يضيء لهم ولنا شمعة للغياب والغائبين، للطافة الجنسيات ورفقة الشخصيات، لصداقة يحاول المؤلف ان تكون هانئة بالرغم من جميع الافساد والخباثة التي يتصرف بها البعض، لكن، ما عليهم الا الرد بالصوت الخفيض والصمود أمام الغصص التي لازالت تلاحق البلد وهو تحت احتلال لا مثيل له عبر الحضارات التي درسها المؤلف والراوي سوية، كأن بيده مدفعاً مضاداً لمن يجرؤ أن يتوعد أو يهدد بلاد بابل وبلاد السويد، التي كانت آمنة قبل مجيء «البرابرة». فقرر الكاتب ومن فرط التواد والوجع الرقص للبلدين. رقص على الماء، هو انفجار الانوثة والرجولة، وأحلام وعرة؛ هو ايقاع للجسارة وهو ذاته ايقاع هذه الرواية الجميلة.

الخميس 9 رجب 1427هـ – 3 أغسطس 2006م – العدد 13919
https://www.alriyadh.com/176414