حب معذب لأرض العذاب

عالية ممدوح

من بين جميع كتبها التنظيرية في النقد وتطبيقات النظرية والمنهج على القصيدة والرواية العربية الخ يحضر كتاب الناقدة اللبنانية الكبيرة يمنى العيد في النفاق الإسرائيلي. قراءة في المشهد والخطاب الصادر قبل فترة عن دار الفارابي ببيروت. عنوان الكتاب براني اذا ما وقفت أمامه في إحدى المكتبات لا يستفزني لكي أقتنيه للحال، كما أعمل مع كتب الصديقة العيد. هذا العنوان هرس وذبح ما هو موجود داخل الكتاب من الاصغاء إلى صوت الشاعرة، الأم والمربية والوطنية يمنى العيد.
في داخل الكتاب تدون المؤلفة وتروي ذلك الذي لا يسمى مما حدث وصار ولم يزل حين دخلت الدولة العبرية إلى صور وصيدا، ثم حين احتلت أول عاصمة عربية في التاريخ الحديث. كأنني شاهدت يمنى وهي تكتب تحت الانظار، أنظارنا جميعا في هذا الزمن الصدئ والعفن. الكتاب هو كل شيء عن ذلك الماضي وصولا لقصص الحاضر. التسلسل بالكاد يتوضح والتاريخ، اذا شئنا هو تاريخ ناقص اذا لم يدونه هؤلاء، من الناقدات والشعراء والمفكرين والكاتبات. هؤلاء الرواة، العصاة وحدهم الذين لا نجزع أمامهم أذا ما أخفينا دموعنا بالمناديل أو مسحناها بالراحات.
صيغة وطريقة نقل الفواجع ويمنى تشاهدها في مدينتها صيدا مرورا بكل التاريخ العربي المهان، كان يثير الهلع والسخط والغضب والمرارة والترفع والازدراء لجميع ما وصلنا إليه: أمام البحر مات عمي اليافع لأنه تجرأ على مد يده لإبريق الماء الموضوع على طاولة الضابط الإسرائيلي.
مات مستحقا في نظر الإسرائيلي موته، إنه لبناني وقح. في هذا الكتاب تقدم الكاتبة شهادة وقراءة. تشاهد وتشهد، تدون وتقرأ، تحلل كعادتها، ناقدة راديكالية في الاشكالات المنهجية والوجودية والاخلاقية لكي تربطها بالاحداث والحالات المنقضية لكنها لازالت حامية، وللحاضر المريع الذي يجري أمام عيوننا كل ثانية.
ومن هنا، كنت أتوق بشغف لو تكتب جميع الكاتبات وجميع الكتاب، ليس إفراغ الذاكرات الذاتية فحسب، وإنما ما ينضاف إلى أشياء غير قابلة للإرجاع، للاصوات، الروائح، للدم المتخثر والايدي المرفوعة عاليا للتلويح بالوعيد والغضب أو بالوداع. السرد في هذا الكتاب ينبجس من حب معذب، من قدر مدينتها أن تكون تحت العسف والقصف والحتف العبري: اخترت أن تكون مجزرة صيدا التي لم نشهد عليها قبلا، كتابة ما بقدر ما تستحق. هي المشهد، وان يكون الخطاب الإسرائيلي في صيغة عبارته الأبرز – الدفاع لا يزال هذا الجيش يلقب نفسه بجيش الدفاع، انها تورية وقحة ومنافقة تمشي خلسة في أدمغة العالم، ان هذه الدولة وعلى هذا النحو أو ذاك لا تكف عن صناعة اذلال قل نظيره مع جوقات التهجير والترهيب.
هذه النصوص هي أيضا تقدم شهادات بأقلام إسرائيلية استمتعت حلوقهم بالدم الفلسطيني فانفجرت بكتابات صادمة، وما بين هذه وتلك ماذا على النص أن يقول حول فعل المقاومة اللبنانية: ليست قوة المقاومة أساسا في سلاحها وعتادها كما هو شأن جيش الاحتلال، بل هي في موقفها وموقعها، أي في وعيها لحقها وقناعتها بفعلها، فالمقاومة ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي نمط حياة، ومستوى وعي وقدرة تفكير.
انها وضعية فكرية اجتماعية تحول دون سقوطها في الاستغلال أو في التوظيفات الجانبية كالتباهي والمفاخرة والصراعات المحلية الخ تحلل يمنى العيد في بعض المقاطع واليوميات كناقدة تقيم في جوهر الكتابة والذاكرة والكلام حتى لو كانت غير واثقة مما سوف يصله الوعي، وعيها من خصوصية ظرفية تتجسد في جميع ما مر على تلك المدن العربية، بدءا من القدس مرورا ببيروت وليس انتهاء ببغداد.. فهي تحلل ما يذيعه العدو، ما يبثه، ما ينشره وما يفعله، ما يدمره، وما يتوهم ويصمت عليه، فإن ذاك الذي يجري على الأرض: هو اللغة الأخرى، اللغة غير المنطوقة الفاعلة فعل المواجهة والموت لقد عشت شخصيا وولدي في ذلك البيت الوادع الواقف على أحد أكتاف رابية مدينة صيدا بيت يمنى وعائلتها الطيبة.
إنني أعرف غرفه واحدة بعد الأخرى واطلالتها على الوادي. هو بمعنى من المعاني بيتي ودار سكناي في إحدى سنين العمر الذي ترنح وتصدع، ويمنى اذا ترثي البيت، والمدينة والبشر، المزارع والبساتين والجادات فهي ترثي وجودنا كله. حقب دمويه نشعر بها اليوم، انها كانت مغشوشة وحاشدة بالاوهام: هكذا وفي غياب المدونات التي تعتمد الشهادات والمدّونات الحية، يصبح ما يقال بأنه حقيقة أمرا قابلا للنقاش. وقد تفتح (الحقيقة) على تعدد لا يعود لها معه من معنى، أو من وجود ولا يعود ثمة من واقع ممكن ان يشكل مرجعا لقراءة الخطاب.
لقد حكى الناس إليها كأنهم نضجوا بغتة، أحترق شبابهم ومالت كهولة بعضهم إلى الفناء. تحدثوا لأن الحي هو أيضا نخاف عليه أن يتعرض للخرس والسكوت: لقد حكوا بشوق الحياة ومرارة خسارتها، هم الذين كانوا لا يجدون الألفاظ المعّبرة عما جرى لهم.
لقد اجهدوا لكي يحكوا فكانت اصواتهم ترتجف كأن الرجفة كانت تعّوضهم عجز الكلام بصدق بليغ حين تنتقل الناقدة إلى دور الراوية، تذهب إلى أول الحكاية وتبث الشجاعة في أفواه الرواة ولا الاحظ أو أراقب الا ذلك الغضب الأزلي، غضبها وغضبي وغضب القارئ ذاك المستتر ورائي وأمامي. مقاطع من حالة شعرية، فالموت هو الشريك لجميع سنين النضج، لذلك كان أحدهم يسميه سنين الحقد عليه، على الموت: من موت في صيدا إلى موت في بيروت، وبين الموت والموت كنا نندفع بأمل الحياة.
سأترك الكلام على بيروت، الكلام المّر والمغموس بالدم إلى كتاب آخر وأعود إلى صيدا. تصر يمنى على ابلاغ روحها قبلنا على صيرورة البقاء وجوديا وتاريخيا، بمعنى ؛ لا مفر من البقاء.: تذّكر بعضنا ما قرأه عن تاريخ مدينتنا صيدا التي أبت أن تستسلم لملك الفرس وجيشه الغازي فأحرقت نفسها ضد ذلها، فبقينا. حين نسجل شهادات كهذه، هي ذاتها تصير امحاء لمعنى الذل والمذلين.: الانتصار العسكري وحده لا يكفي ومن هنا تعود الشاهدة الناقدة إلى الكتاب الإسرائيليين من خلال سردياتهم ونصوصهم لكي تكتمل الصورة الكارثية ما بين الذات والآخر.
اختارت قصصا ذات دلالات من عاموس عوز الذي يصف العرب هكذا: جمهور قذر غامق اللون ينشر القمل والبراغيث وله رائحة كريهة تتكرر صور العنصرية والاستعلاء، كم ان ما بيننا وبينهم ليس سوء فهم أو تفاهم على قطعة لحم ستيك أحدنا يريدها مشوية على نار الغاز والآخر يريدها على الفحم. الكتاب الصهاينة يكتبون عنا بصورة مزرية ويتكرر 520 كتابا أجرى عليه البروفسور أدير كوهن بحثا وأستنتج قائلا: وجه قبيح في المرآة.
ولقد وجدنا ان جميع الكتب الإسرائيلية يقصد ال520 وصفت العربي بالقبح والوحشية والشاربين الغليظين والندبة الكبيرة في وجهه، وانه قاطع طريق متوحش ومهّرب مخدرات وقاتل لليهود نتائج هذه الصورة لا امتلك تعليقا عليها. فقد وصفنا ما يقارب ال 75٪ من التلاميذ على هذا الشكل. هذه هي الاجيال التي سوف تواجهنا، وتواجه احفادنا. بقراءة صارمة بليغة تقرأ يمنى العيد جميع هذه الشهادات والسرديات وكيف شكلت وجدانات الشعب اليهودي منذ جيله الأول المشدود إلى الميثولوجيا حتى القنبلة الذرية العبرية. يؤكد / ايشلوم كور / دعوته اللاانسانية، المفعمة بالحقد العنصري حين يقول: توصلنا إلى نتيجة
اننا يجب ان نقاتل، يجب ان نقاتل
كل الذين يبحثون لهم عن وطن،
يجب ان نقتل
حين يكون لنا وطن
من النهر إلى النهر

الخميس 9 صفر 1427هـ – 9 مارس 2006م – العدد 13772
https://www.alriyadh.com/136459