عالية ممدوح
في يوم 8 تموز/ يوليو من عام 1929 تم اللقاء الأول بين جان بول سارتر وسيمون دي فو فوار. هذه العلاقة لم تبن كما يقال، الحب من النظرة الأولى، فقد سجلا كل من طرفه، أن الانطباع المتبادل بين الاثنين ؛ «كل واحد منا قد وجد توأمه لدى الآخر» . علاقتهما كانت تشتمل على : الحب، الحوار الأدبي، السجال الفلسفي وعلى قدم المساواة والحرية والمسؤولية . هكذا قرأنا ذلك في المعرض الكبير والضخم الذي أقيم له في المكتبة الوطنية/ بباريس . في مساحة رحبة، وزعت الاضاءة بطريقة غاية في الفن والجاذبية. الملصقات غطت جدران عديدة من القاعات تمثل صوره الشهيرة بنظارته الطبية السميكة بلقطات المصورين الذين تفننوا في التقاطها وباللونين البرتقالي الكامد والأصفر الفاهي. ملصق أيامه الأخيرة في شيخوخته كان بالرغم من قساوته الشديدة الا أنه يبدو حنونا كوالد فقد اولاده. سارتر مثل عصراً كاملاً، بحمولته الثورية والفكرية، السياسية والثقافية التي دونت وأرخت جميع مظاهر فيضه في فلسفته الوجودية التي أثرت وأغنت اجيالا كاملة في اوروبا والعالم، والشرق الأوسط . شكلت علاقته بسيمون، لنا، نحن الفتيات اليافعات المتمردات على أنفسنا بالدرجة الأولى، انعطافة خطيرة في مسيرة بعضنا في الاختيارات وصنع القرارات الخاطئة قبل الصحيحة . فقد سارع الأثنان للعيش سويا أو كل على انفراد، لكنهما معا وبدون الالتفات إلى الأفكار الشديدة العمومية . كانا حرين حرية داخلية تنفر من المداهنة والنفاق الدارج ما بين الأفكار والتطبيقات، ما بين ازدواجية المثقف في العواطف والحب والحياة، وما هو بصدد الدفاع عنه بين الأصالة واللا أصالة . حين قرأت مقاطع من مذكرات فتاة عاقلة لسيمون دي بوفوار نشرتها احدى الدوريات، مجلة الآداب على ما أتذكر، شعرت أن هذه المؤلفة بمقدورها أن تعيد إليّ ما يرغب الآخر بسرقته مني، وجودي وقراراتي . شاهدت صورهما، هي وهو في بدء التعارف، كانا شابين تطل من عينيهما وقتذاك فرادة وتميز وذكاء يشبه الغول وللاثنين سوية . لقد نقلا الخاص إلى العام، بمعنى ؛ أن علاقة كهذه حرة بصورة لا نظير لها بين الاثنين، تكشف عن ذلك الاختيار التام، الخصوصي، البالغ النزاهة والمليء بالمباغتة والكشف الذي لا يعطى لهما وانما هما اللذان يفكران ويفعلان ويحكمان على العلاقة وبها . استهوتنا تلك المغامرة الفكرية التي ما زلنا نشعر بأهميتها الوجودية ولو ان الزمن عافها نهائيا . لكن علينا وضعها في ذلك السياق المحافظ والصادم الذي كان يتهدد الحيوات والمصائر بالحرب القادمة، بالفاقة والترك والعبث أيضا . التزما بالعلاقة غير المأمونة العواقب ولم يلتزما الصمت ازاءها، بل كانا يعلنان عن برامج الغد في الكتابة والرحلات والالتزام كأعلى مرحلة من مراحل الأخلاقية الوجودية التي سيجا نفسيهما بها وفي وقت واحد . شاهدت صورة أمه الشابة المغناج الحيية أيضا، شعرها مرفوع إلى أعلى وقسماتها جميلة، والجد الجميل، اللعوب والمشاغب الذي كان مفتونا بحفيده . الجد يشبه باشوات الأتراك بالقبعة ذات الحواف الدائرية، التي كان يرتديها آل عثمان في أوج عزهم. هذا الجد كتب عنه وله سارتر سيرته الذاتية طافحة بالأنا والآخر في أفخم وأرق العبارات في كتابه (الكلمات) أمامنا صفحات وصفحات بخط سارتر وسيمون، خطهما يتشابهان بمعنى من المعاني . خطوط واضحة بلا نزق كبير، الشطب موجود لكنه أقل ما يمكن . السطور طويلة والمسافات بينهما قليلة . دفاتر وكراريس، رسائل وكارتات أرسلت منها وهي في فندق الربيع في العام 1929دفاتر صغيرة جدا وضعت تواريخها بخط اليد ، أول كتبه، أول مسودات كتبه، وهي هي، سيمون موجودة اينما نلتفت، موجودة بينه وبين العالم، بينه وبين الأصدقاء والكتاب . صور عديدة لمن ناوشهم وكتب ضدهم أو بجلهم من الفلاسفة والمفكرين والنحاتين، بيكاسو، لاكان البير كامو، هايدغر، بودلير، جان جنينه، جيوكوميتي النحات السويسري الذي خصه بدراسة ثمينة فوضعت أحدى منحوتاته السائبة النحيلة الطويلة والممتلئة بالفراغات في صدر المعرض . في كل جناح كانت هناك تواريخ تسجل المراحل التي خاضها وعاشها، ناضل وحارب من اجلها أرخت لعصره ولذاته، مرحلة الحرب والمقاومة، مرحلة السان جيرمان دي بري والمقهى الشهير Deux Magots المكان الأمثل للقاءات التي تتم بين العاشقين والأصدقاء من الكتاب والمفكرين . مرحلة الحرب الجزائرية، ومواقفه المبدئية ازاءها، التي خاضها بالتظاهر والتنديد والكتابات الضارية ضد الاستعمار الفرنسي . رحلاته إلى الاتحاد السوفيتي والشرق الأقصى ورحلته الشهيرة إلى نيويورك حيث كتب : «أن نيويورك لمدينة استعمارية، أرض مخيم . ان كل عداء الطبيعة وكل قسوتها ماثلان في هذه المدينة التي هي أروع نصب شاده الانسان لنفسه . اما سماء نيويورك، فالمرء يحس وكأنها تمتد فوق اميركا كلها . انها سماء العالم قاطبة» . تملكتني حمية هذا المعرض والصور والتواريخ وحقب دموية جعلتنا نكابد ونشعر ان هناك مفكرا فرنسيا وكاتبة فرنسية، هما محض عاشقين نزيهين . لم نعرف كيف نقلدهما ومن هو ذلك الفارس المنتظر الذي لا يتورم غضبا وحنقا فيما إذا قالت له شريكته، إنني لا أختلف عنك قط، فلا هو يشعر بالغثيان ولا هي تتردد بالبقاء عاقلة . توقفت طويلا أمام الاثنين وأنا أشتري صورهما، هكذا كنوع من الوفاء لذاكرتي وجيلي، فلم اعد لقراءتهما منذ دهر . الصورة التي اقتنيها، وهما موجودان في غرفة واحدة لكن كل يعمل على طاولة منفردة، فالعمل بالنسبة إليهما يتطلب ايمانا كما هو الايمان بالحب والذات والحرية، وكانت أيام …
الخميس 19 ربيع الأول 1426هـ – 28 ابريل 2005م – العدد 13457
https://www.alriyadh.com/60163