عالية ممدوح
1
كذبة لطيفة ويجوز تجاوزها ودائما ولا أحد ينتبه إليها إلا في هذا التاريخ، هنا في الغرب، في هذه الأيام يطلقون عليه يوم الأم أو عيد الأم . هو لقب عار، فارغ ويوميا يزداد فراغا ويذهب إلى غير رجعة. الابن يملأ يده بالزهور، إذا لم يكن مصابا بضيق التنفس أو الربو، واغلب الأحيان، يفضل ان تكون يداه فارغتين. اليدان الخاويتان موهبة لأنها تفضل الامتلاء من غيرها، من الأم مثلا. بالطبع، هناك، ربما ابنة سوف تقتحم أصفى ساعات الأم هدوءا فتحضر بثرثرتها ولسانها السليط ومن الجائز بتعاليها ومن المحتمل ألا تحضر فهي لا تمتلك الوقت الكافي فترسل أحدا بدلا عنها، الحفيد على سبيل المثال، ابن الابنة، وحين يصل وبعد ثوان يستعد للانصراف ضجرا ولامبالاة. تلك الوالدة، يا عيني، من فرط الفكرة التي أخذت عنها ؛ بإنها طيبة وحنونة الخ هذه النعوت وليست جميعها دقيقة أو صائبة، تضحك في سرها من هذا اليوم الأغبر، لا الأغر
2
أستنكر هذا اليوم، أجل، هو يوم عجول مندفع وملطخ بلهفة لم ترتو يوما. لم أفصح في أي يوم من الأيام عن حبي لامي، فأنا تربيت يتيمة ومن دهشتي الكبيرة إزاء ذاتي لم أكن يوما أما مثالية. هذا اللقب الأخير يثير حنقي وتساورني الشكوك فيه وفيّ جميع الأمهات المثاليات. فأنا كأم ارتكبت شططا كثيرا في معنى التربية الحسنة والأخلاق الحميدة. لم أترنم بجوار رأس ولدي وأغني له لكي ينام، كنت أتابع دراستي الجامعية وهو بين ذراعي. أعد طعامه وبيدي كراسة الامتحان، مثل الملايين من الأمهات الجامعيات الكادحات. آه، أحببت ولدي، هذا من نافل القول، كأن هناك شكوكا في تلك الدرجة من التفاني والتضحية للأم وما عليها إلا إعلان هذا ويوميا أمام الجميع لكي يثقوا ويصدقوا أنها والدة لها هدف واحد أحد ولا غير أن يكون ولدها أفضل منها، منهم جميعا، ملهما كالقائد المبجل، ورائعا كالشاعر العبقري، وجميلا أكثر من تشي جيفارا، وربما سوف يكون بطلا في قادم الأيام
3
شخصيا لا تستهويني سيرة الأبطال، دونت ذلك في أكثر من صفحة في عموم رواياتي. هذا اللقب أولا في طريقه للانقراض ثم انه يسبب حساسية ترتفع بورصتها على مدار اليوم والساعة والعام الخ. وأيضا لا يعنينا أن نلقب أمهاتنا بالبطلات، نتمنى أن تكون أو تظل هي ذاتها فقط كما تمنيت وحاولت باستماتة أن أكون أنا نفسي، لا ضحية دوري كأم، فلم أسمح أن يقال لي ” بأم فلان” وأنا امرأة عاملة وصغيرة ومنذ سن السادسة عشرة وحتى اليوم، ومن إحراج الآخرين، الرجال على الخصوص الذين كانوا يحضرون إلى إدارة الجريدة التي أعمل فيها وينادونني بهذا اللقب، كنت أقف أمامهم مبتسمة : اسمي كذا، وأنا أفضله عن أم فلان.
4
لم أنشد الكمال لا في أمومتي ولا في جميع فعاليات حياتي. أجل، كان بي أنانية غير مفرطة وهوس للتعلم ولا ثقة بما أمتلك من مهارات ومعارف ولذلك لم أشبع يوما من جميع ما أقوم به من التدوين والقراءة الخ فتحولت علاقتي بعبداللطيف، السيد ولدي إلى علاقة وأيضا لا بأس بها من تبادل الخبرات وبعث بعض المباهج والاشراقات في عروق بعضنا للبعض الآخر وإطلاق الفكاهة والطرائف والمزاح على أنفسنا قبل غيرنا فكنا ندخل في مساجلات وأحدنا يخطف من الآخر النقاط وعبارات الإعجاب كنت أخزه ببعض افكاره فهو بريطاني / كندي / يا للأبهة، هو يمتلك جنسيتين مباركتين من القوى العظمى وأنا لا زلت عراقية ولا أحد يسد تلك الثغرة في لهاتي وأنا أصيح ؛ عراق يا عراق، لا ابن يلبي النداء ولا الإخوة، فقد تفرقوا أيدي سبأ.
5
من النادر جدا جدا أن يهتف لي ولدي قائلا كذا وكيت في هذا اليوم الذي يتطاير منه الشرر وتكرس له الاذاعات الأوربية والعربية هنا بباريس والوالدة، سبحان الله تقاسي من أوجاع الديسك وعتمة في الإبصار فلا تستطيع الوقوف ثم الجلوس ثانية، تبقى بين بين، أظن هذا دورها، بين أن تدرك ولو متأخرة أن ذاك الهدف، ولدها قد لا يطرق بابها ثانية فلا تتمزق غيضا ولا تتدثر بالضنى. هناك أبواب الفنادق الدوارة الداخل فيها يدور على ذاته وأحيانا يتيه عما حوله، أولهم ؛ الابن أو الابنة .حين أختار عروسه وهي أجنبية، رفض والده ذلك بكل إباء وشمم. أنا حضرت زفافه في مدينة كاردف البريطانية وأهديت عروسه خاتميء زفافي الالماسيين فنظرت العروس إليه بلا فرح حقيقي بلعت ريقي وتعوذت من الشيطان الرجيم. أخذت ولدي جانبا وقلت له :
أنظر كم الحرية مكلفة، هي أغلى من الالماس ومن جميع اللآلىء آمل أن تظل هامتك مرتفعة. أنا أسوأ من يدلي بالنصائح وآخر من يتلقاها. بعد عامين حين زرتهما في كندا جاء دوره فأخذني جانبا وقال لي بعدما صار أباص :
أمي، نعم إنني رجل تعس و….
يارب العالمين، هناك بشر يمتلكون في بلازما دمائهم حلقات كالدائرة لا تكتمل إلا بالتعاسة، أعني يبحثون عنها وينبضون بها ويكاد المرء يراها تحت جلودهم. تصير التعاسة واختيارها في بعض الأحيان قناة ماء، بحيرة، نهرا عميقا لا يقدر بعضهم الخطو خارج إطارها البئيس هل هم مرضى؟ أعرف الكثير من أولئك الأبناء وأيضا من الأزواج الذين يشعرون بشيء من لذة دفينة في إدمان التعاسات الكبرى والاختباء تحتها طوال أيام العمل الأسبوعي والأعياد والمناسبات الوطنية والأممية وبدون عطل رسمية، ولو كانت جدتي العظيمة حية لوصفت فلانا بالمريض السوبر وعلانا بالمعذب ومن جميع الجهات .من المؤكد، حين أنظر في وجوه بعض الأصدقاء أرى على الرغم من تفاخر بعضهم بكيت وكذا، تبدو التعاسة عندهم الوجبة “الوحيدة السهلة التناول”، ربما، الأسهل الحصول عليها، ولكن السيد فوكنر له رأي آخر يقول : “يخاف الناس من ان يكتشفوا درجة العسر والفقر التي يستطيعون تحملها. يخافون من أن يعرفوا درجة صلابتهم الحقيقية”.
الخميس 13جمادى الآخرة 1428هـ – 28يونيو 2007م – العدد 14248
https://www.alriyadh.com/260249