حاورته – عالية ممدوح
أول مرة اسمع اسم الفنان التونسي احمد الحجري، كان من الصديقة الفنانة شادية عالم، اطلقت عليه أوصافا آسرة من سحر وجمال اللوحة، الألوان والشخوص، كنت في حالة من الهوس للبحث عن غلاف لروايتي الجديدة فسألت من يهمهم أمري من اصدقائي الفنانات والفنانين عن الغلاف وكنت مأخوذة بقول الرسول الكريم في حديثه الصحيح: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان” فكيف تستقيم فكرتي فضح موضوع الرواية الذي كان يسألني عنه الجميع والكتمان الذي شغلت به حتى عن ابني.. وشادية، كعادتها لا تحاصرني الا بمجموعة من لوحاتها الراقية، ولكنها لن تفرج عن كرب الغلاف، الفنان العراقي الجميل يحيى الشيخ هو ايضا شحن لي موقعه ورشح لي أكثر من لوحة ممتازة، سألت الصديق الفنان اللبناني محمود الزيباوي ايضا، هو الفنان الذي شغفنا بلوحته البديعة من معرضه الأخير فتم اختيارها للطبعة الانكليزية التي صدرت قبل شهور من القاهرة لرواية المحبوبات، لم اعثر على ضالتي بعد البحث والتنقيب ثم التقيت هنا بباريس بالفنان التونسي بعدما صحبتني الى مرسمة إحدى الصديقات، كانت تفوح من الاستديو الذي يقع بجوار مركز بومبيديو روائح البخور والألوان، وترقبنا يمامات حطت امام شباكه لتلتقط فتات الخبز، كنت مأخوذة بحجوم وألوان وشخصيات اللوحات الكبيرة جدا المعروضة امامنا، كانت هناك أكداس منها وما علينا الا اجتياز طريق ضيق بينهم، وليس في المكان سوى مقعد واحد وطاولة صغيرة، قلت في عبي، انها عملية انفجارية من اعمال تشير الى رسام يتفجر امامك وحولك، في اللوحة، يشتعل ويختلج لكنه يلعب ايضا، انا ذهبت للتعارف الشخصي والبحث عن لوحة لروايتي فقلت له:
@ ما رأيك لو نعيد اكتشافك كمبدع وانسان لجريدة “الرياض” السعودية؟
هز رأسه موافقا وكان يبتسم بطريقة شديدة الحياء، هو فنان يتمتع بتواضع جم وأريحية تتدرج من الصوت الخفيض الى الابتسامة المتوارية الى السخاء بالألوان وبصوت أحيانا لا أقدر على ملاحقة لغته التونسية المحببة جدا فكان يطعم ذلك بالفرنسية ثم نعبر قليلا إلى الانكليزية وسرعان ما نعود للتونسية والعراقية الدارجتين وكأننا نرسم سويا لوحة هو يضع اللون وأنا أحاول الاشارة الى التخطيطات فقد سلمني جميع ما كتب عنه من دراسات ومقالات وتحقيقات صحافية وبأكثر من لغة، يرى البعض الحجري متأثرا بمارك شاغال، الرسام الروسي الذي كان يشتغل على الحلم ولكي ينحت حلمه فهو “يضبط جردا لصور مستعارة من العالم المرئي، ففي عالمه يلتقي واقعان: اندفاع اللاوعي الحالم في مقابل الارادة الواعية بلغة متماسكة، والحصيلة، حسب ما يقول هو شخصيا، ان اية لوحة هي دائما ترجمة لحكاية تتصل بالحياة اليومية، ولا يبدي حرجا البتة امام العناصر التي قد تبدو مغرقة في الغرابة او اللاواقعية”. وهذا هو ما لفت نظري فعلا ونحن نتحادث حين قال بعقوبة جميلة:
لا تظني ان حياتي موجودة في هذه الملفات والكتب والمقالات والدراسات التي كتبت عني.
ان حياتي تقع في مكان آخر.
أين؟
هي موجودة بيدي.
يا لجمال هذه الكلمة وهذا التعبير.. واصل الكلام بهدوء لكي استطيع ملاحقته بالمسجل والقلم سويا فأنا لا أثق بجميع الآلات الالكترونية.. قلت له:
ترى، هل بقي لك الكثير لم تبثه للصحافة عن حياتك وخباياها؟
بالطبع، الكثير الذي لم ينشر، فهناك كتاب جديد سيظهر عني وهو يروي قصة طفل، انا ابن ابي الذي كانا يعمل نساجا، تصوري كان له حمار يتجول به بين القرى التونسية لبيع الحلوى والحمص وزيت الزيتون فيتم تبادل السلع بين الوالد ورجال تلك القرى، هذا ما كان سائدا في الريف وأظن لا يزال موجودا، انا أظن قصة الفنان هي قصة الطفل او الفرد الذي عاش في الظلام وحين رأى النور اصبح عبقرياً.
@ هل تعتقد أنك عبقري؟
هم يقولون ذلك، قالوا هكذا عني فأنا لم أتعلم في معاهد او مدارس، لم أكمل حتى دراستي الابتدائية، انني فنان كما نقول خام، عفوي، فطري، طبيعي، والله لا اعرف فانا ارسم كما لو انني أشاهد حلما يدور في رأسي.
@ تماما ياسي أحمد، يقال ان اول معرض عرض لك اصاب من شاهده من الفرنسيين بالذات بالتشوش والارباك.
نعم هذا صحيح، انا لا أدري، لكن الذي أعرفه أنهم يكتبون عني لأنني استقي مواضيعي من الحياة اليومية او ما يطلقون عليه “الفلسفة الشعبية” والتقاليد الشفوية العربية وألف ليلة وليلة، ايضا يقول انها من مصادري، أنا لا أعرف ان الواني هي تونس والبحر المتوسط كما انني أحب اللون الرمادي فهو يعطيني شحنة لرسم الجداريات الشاحبة التي تستهويني.
@ كأن الطفل داخلك لا زال يحبو ولا يريد الفطام من الشغب واللهو، أليس كذلك؟
كأنك تعرفينني منذ زمن طويل فأنا هكذا فعلا الطفل داخل الرجل هو الأقوى، سبق وقلت، لابد ان تكون اللوحة كاملة حتى لا نضجر منها، انها مثل طفل جميل نود ان لا يكبر، لانه اذا فعل ذلك نفقد الاهتمام به او بها.
@ كيف كانت رحلة العذاب والسرور والشهرة وأنت تصل باريس؟
في أحد ايام سبتمبر من العام 1968انزلتني السفينة الى ميناء مارسيليا.، لم يكن معي غير خمسين دينارا، مررت بأوقات كلها كرب وغم شديدين، وطرقت كل الأبواب من أجل إيجاد أي عمل، تشردت وتمرضت حتى عثرت على شخص وافق ان يساعدني في مدينة قريبة من طولون حيث استقبلني رجال مسيحيون وعثروا لي على عمل بسيط في حظيرة كهربائية في الجبال العالية.
@ جميلة علاقة الرسم بالشرارة التي تتطاير من فولتية الكهرباء.
جميع الفنون تحمل الشحنة الكهربائية وما أصابني في حياتي فيما بعد كان اصعب من الصعقة الكهربائية في آلامه وعذابه. فلم تمر علي شهور ثلاثة في تلك المدينة حتى أصبت بالفالج وهناك تلقيت العلاج الأول، اصبت بشلل في الوجه والرجلين وحين علمت أسرتي طلبت مني العودة لتونس، كنت أفضل الموت بفرنسا على الرجوع، أجريت عملية ومرت سنة تحت وابل الأوجاع الطويلة قضيت نصفها في السرير ونصفها في النقاهة والتدريب على الحركة فسكنت في غرفة صغيرة تابعة لمؤسسة خيرية مخصصة للشباب المتشرد وباشراف منظمة الإسعاف الكاثوليكية، في بداية العام 1970استرجعت قواي وعدت لعملي الكهربائي.
@ كأن المرض، مرض الفنان، وهناك حالات لفنانين وموسيقيين تقول: ان بعض الأمراض هي التي تصنعنا وتضعنا في الطريق الصحيح من الابداع.
تماما، لكن الكوارث بقيت تلاحقني، فحين غادرت الى مدينة افينيون لكي التقى بمدير الوكالة التي أعمل بها من أجل اتمام عقدي معهم صحبني واتجهنا الى الشمال وعند الوصول إلى مشارف باريس تزحلقت السيارة وحادت عن طريقها لتصطدم بشاحنة فقتل مدير الوكالة في الحال وأنقذت بعدما انقذفت الى بضعة امتار عن مكان الحادث، كانت لدي بعض الرضوض وكانت أعجوبة نجاتي لا تصدق، هنا، شعرت ان الحظ العاثر لا زال يلاحقني.
@ لكن أخبرني، متى بدأ الحظ يصاحبك؟
في نهاية العام 1973حدث حادث غير مجرى حياتي فقد التقيت إثر إعلان في صحيفة مع رولان موران، هو مهندس معماري ورسام فرنسي وكان يبحث عن كهربائي مختص في التخطيطات لانجاز أمثلة كهربائية، وكان موران بصفته معماريا قد شارك في مسابقة تصميم مثال لمشروع مركز جورج بومبيدو الثقافي الشهير بباريس، هذا الرجل هو مفتاح حياتي فعلا فقد كنت في أوقات الفراغ اقوم ببعض الخربشات واحاول اخفاء او تمزيق ما أرسم خشية طردي الا انه في أحد الايام جمع موران ما مزقت وقام بترميم جميع الصور وذهلت من اهتمامه، حيث واصل تشجيعي فأهداني دفترا خاصا بالرسم وبه أوراق ذات نوعية حرفية جدا، شغفه يتضاعف مما اقوم به ثم عرفني على الفنان الفرنسي الشهير جان دييوفيه بعدما شاهد الدفتر اياه وكتب عليه ما يلي: “رسوم الكهربائي التونسي، انها جديرة بالاهتمام”
أظن من هنا بدأت وعلى يد هذين الفنانين رحلتك الحقيقية؟
أجل، صار لي مرتب ثابت والمهندس موران آمن بموهبتي اكثر من إيماني الشخصي بها، كأنني أتعلم على يديه أصول خلط الألوان تقسيم اللوحة واعداد مواد الرسم الخ، كان يدربني ويعيد تأهيلي في دروس تكاد تكون يومية حتى وفاته في العام 1979لقد حزنت حزنا لا نظير له على رحيله فهو أصل جميع ما وصلت اليه.
@ وأول معرض شخصي لك متى كان؟
كان موران يجمع أصحابه ليعرض عليهم اعمالي ومن بين هؤلاء بلير غوتييه من المركز الوطني للفن المعاصر وج.ف. جيجير والكاتبة كلاربا مالرو زوجة اندريه مالرو وغيرهم وعرض عليهم قرابة ستين لوحة فبدأ اولئك المحبون بالفن بالتوافد لزيارة المرسم والتحديق طويلا بأعمالي.. في احدى المرات ذكروا اسم الفنان العالمي شاغال، وهم يشاهدون لوحاتي، اسم شاكال حسب ما يقال وتعني بالفرنسية ابن آوى فشعرت وكأنهم يسخرون مني فخربت اللوحة تماما حين قمت بطلائها بلون أبيض وحين شاهدها موران صفعني وهو ذاهل مما قمت به ووصفني بالبلادة، نعم لم أصدق حين نظم لي موران اول معرض لي وقدمني الى مسيو توماس لوغيو مدير قاعة “ميسين” في الدائرة الثامنة بباريس، تم تدشين المعرض في يوم التاسع من فبراير من العام 1978وبيعت الاثنتا عشرة لوحة المعروضة بالاضافة الى ثلاث أخر تم جلبها من مرسمي الخاص.
@ من هنا بدأت رحلة شهرتك. ترى كم كانت أسعار لوحاتك الأولى.
معرضي الأول بيع كله بسعر 7000فرنك فرنسي وكان ذلك في العام 1978والرقم كان لا بأس به لفنان مبتدئ.
@ وأعلى سعر؟
يتراوح ما بين 15.000الى 20.000الف يورو. لقد عرضت لوحاتي في البرلمان الاوروبي في ليون في عام 2002كذلك عرضت وتعرض في البرلمان التونسي، والدولة التونسية اقتنت الكثير من أعمالي وامتلأت الجدران بها كما ان سفير بلجيكا له بضع لوحات والكثير لديهم اكثر من عمل لي، الطريف، هناك شخص تونسي يشتري لكل الفنانين العرب وهو يتوق عمل مؤسسة ثقافية لعرض كل أعمالي، كما هناك تونسي يمتلك ما يقارب من ال 100لوحة من أعمالي وهو شغوف بعمل متحف خاص بأعمالي.
@ كيف هي علاقة ولديك بلوحاتك؟
وليد مهندس بالمعلوماتية ويدرس حاليا في الولايات المتحدة عمره 23سنة، الثاني وسيم تزوج وهو تلميذ، أكمل علومه ونال درجة الدكتوراه من السوربون في الحقوق في الشهر القادم سوف يتم تعيينه بالعمل مستشارا في وزارة الخارجية التونسية وعمره 27سنة. تصوري، لديه ثلاثة اختصاصات في الحقوق العالمية والحقوق الاوروبية والثالثة في بلده تونس هما مختلفان في النظر لأعمالي، وليد فنان ولديه حساسية فنية كبيرة وحين نال شهادة البكلوريا طلب مني شراء لوحة فنان تونسي مشهور هو قادر التريكي، اما الكبير فهو شخص باطني لا يفشي اسراره لكنه يعرف ان والده فنان محترم وكبير، وليد يهتم بأعمالي وحين يكون لدي معرض وليد يدخل في حماسة شديدة ووسيم يدخل في السكوت ولا يعلق، وانا أدري ان وسيم يحب نفوذ والده واذا ما وجد لوحة جميلة فهو يقتنيها حالا، يفضل ان يكون جامعا للوحاتي من أجل الأرباح في المستقبل، اما وليد فهو مختلف، هو قارئ نهم ويعيش في الفن وسيم يحب الفن من أجل النقود.
الخميس 17ربيع الأول 1428هـ – 5أبريل 2007م – العدد 14164
https://www.alriyadh.com/238919