عالية ممدوح
1-
سعيد ومسعود، ياسين العربي وعثمان الخ. هذه ليست قائمة أصدقائي، وإنما، هي أسماء أبطال فيلم- البلديون- Indigenes- الذي نال ممثلوه في مهرجان كان السينمائي الأخير جائزة أفضل ثلاثة ممثلين بالسعفة الذهبية. من المرات النادرة يمنح المهرجان جائزته إلى أكثر من فنان. هذا الفيلم يتخذ موضوعه الأساسي من مشاركة مقاتلين وقناصة ورماة من أفريقيا الشمالية، الجزائر، على الخصوص، في جيش فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول وكيف ساهموا في تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني وكان عددهم يفوق ال 130ألف مقاتل دافعوا عن بلد ليس بلدهم ولكن، بعد التحرير، تدثرت سيرة هؤلاء وحقوقهم بالصمت والإهمال فعادت ثانية وبإلحاح وقوة وبعد عرض الفيلم إلى واجهة الإعلام والقنوات التلفزيونية. فتح هذا الشريط الجراح وحّك الكثير من القروح التي تفاقمت على طول عقود طويلة، فلم ينفع معها إلا المواجهة الشجاعة لكي ينال أولئك الآباء الإنصاف والأحفاد اللإجحاف، كما حصل في العام المنصرم من مواجهات عنيفة في الضواحي الفرنسية. هذا فيلم سياسي قوي متجانس، ساخر وبه قساوة شديدة. مشغول بتقنية راقية بصريا وجماليا وبلا خطب رنانة أو دعاوي ثأرية. باريس سلّمها قادتها للألمان وبقيت تحت الاحتلال إلى يوم التحرير ونهاية الحرب الثانية الذي احتفل بنهايتها قبل أيام. يومها كتب المفكر الفرنسي جان بول سارتر في- فرنسا الحرة- التي تصدر في لندن عام 1945: “نسألكم أولا أن تفهموا أن الاحتلال كان في غالب الأحيان أشد هولا من الحرب”. تقريبا هذا هو خطاب ونداء الفيلم .
2-
مجموعة من المقاتلين الشبان تم تجميعهم في صفوف للتدريب والاستعداد لتنظيف ما بقي من بعض القرى والمدن الفرنسية من جيوب الاحتلال. بعض القادة الفرنسيين لديهم الكثير من الحماقة والتعالي والشباب الجزائري لديه الكثير من التلقائية والبساطة والورع الديني والأخلاقي. عالمان بثقافتين مختلفتين تماما، بالرغم مما سفك وأختلط من دماء فيما بينهما، وربما بسببه. فعندما حضر الجميع حفلا للباليه في إحدى المدن الفرنسية، هكذا كنوع من الترفيه، قال مسعود لسعيد:
ما هذه الزبالة ؟ هيا بنا لنخرج.
وفعلا هذا ما تم فلم يبق في الصالة إلا الجنود الفرنسيون والقائد. الباليه لا تستحق هذا النعت، ورأي مسعود غير صحيح.. حسنا، يذهب الجزائري للدفاع عن كرامة فرنسا، هكذا بدأ الفيلم ونحن نشاهد أحد شيوخ القبائل ذات النفوذ وهو يخطب بين جمهرة الشباب، فيتجمع المئات ويتم شحنهم للحرب.
3-
دماء كثيرة أريقت على الأرض الفرنسية ومن جنسيات مختلفة فكنا نسمع الدوي وارتجاج الذاكرات حين استشهد أحد المقاتلين، صرخ شقيقه وركض إليه لكي يضمه بين ذراعيه وهو ينوح والطائرات الألمانية تغير على تلك البقعة المشتعلة وتفجر جميع الأسئلة:
لماذا، لماذا يا ربي ؟
لقد حضروا من قرى نائية، من الجبال والوديان الجزائرية للدفاع عن كرامة فرنسا فسجلت للمقاومة مركز الثقل الحاسم في عموم المعارك التي خيضت، فيصاب الجميع عدا واحد، ظل هو الراوي والشاهد ونحن نراه في ختام الفيلم أمام مقبرة حاشدة بالشواهد والصلبان، وبعيدا عنها نبصر شواهد الشهداء المسلمين. يصور الفيلم عامين من الحرب العالمية الثانية: “ليس الرهيب أن تتألم وأن تموت، بل الرهيب أن تتألم وتموت بلا جدوى”. لكن الجزائريين كان لهم جدوى لا نظير لها في التحرير، حين صفق لهم أبناء وأهالي من بقي في تلك القرية الفرنسية النائية يوم تم الدفاع عنها حتى المقاوم الأخير، الذي، وبالمصادفة الكونية لم يمت، فتم إنقاذه من قبل فيلق فرنسي.
4-
هي الحرب والمقابر والجثث والدم الذي لم يتخثر حتى اليوم. والخوذ المرمية على قارعة التاريخ تريد تفسيرا وتحليلا ورد الاعتبار. فهؤلاء البشر عاشوا في حالة من الهجر والفقد. بسطاء وعفويون، يقولون الشهادتين ويتعوذون من الشيطان وهم يطلقون الرصاص لكنهم يموتون من أجل فرنسا لا من أجل الجزائر. كنت أرى بلدي وأنا أشاهد هؤلاء، عالقين ما بين الحقد الشخصي على المحتل الألماني، وما بين دعاء سعيد على القائد الفرنسي بالموت لكنه حضر في آخر الفيلم لكي يحاول إنقاذه فيموتا سويا. في بلدي تراق دماء عراقية مهولة، في بلدي يوافق ثلاثة أعضاء من الحزب الشيوعي العراقي على نظام الأقاليم لكي تراق دماء لا مثيل لها من أجل رسم الحدود الجديدة، وتوزيع الثروات المنهوبة، وتسجيل الملكيات الخ. في بلدي يحتفظ بالذكرى تامة وبلا نقصان، ذكرى الأحقاد والثارات والتعصب فهي مراسيم بدأت تتوطد وتأخذ شكل البدهيات على مر أيام وشهور وأعوام الغزو والاحتلال. الفرنسيون في هذا الفيلم لا يشبهون الأمريكان، بالرغم من أنهم أذاقوا الجزائر أبشع استعمار، لكن الجندي الأمريكي لا أحد يشبهه في الجريمة، والبرودة في اقترافها والتفنن في إذلال العراقيين. فكرت طويلا وعيناي كما عيون المشاهدين كانت دامعة بالشجن والاعجاب بيوميات هذا الفيلم وأبطاله. هو فيلم يصلح ان يكون عن العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين. ترى، متى يستطيع مخرج عراقي شاب أو من المخضرمين كما رشيد بوشارب مبدع هذا الفيلم، صناعة فيلم عراقي عن المقاومة العراقية الناجزة الفعلية والواقعية، بعيدا عن التكفيريين والارهابيين وملوك الطوائف. فيلم لا يقتصر فقط على الاحتلال أو تشكيلات أولئك الذين قدموا معه وفروا بعد النهب المستديم لكل شيء عراقي فعادوا إلى بلدان المنشأ كالتماسيح. متى نشاهد فيلما عراقيا مائة بالمائة يروي للأحفاد يوميات وحكايات أغرب من مخيلة صناع السينما الأمريكية، المشهود لها بالمخيال الفنطاسي جدا. فنصرخ جميعا أعجابا به كما صرخت السيدة الأولى، زوجة الرئيس شيراك بعد مشاهدة هذا الفيلم: (جاك أفعل شيئا ما).
الخميس 9 ذي القعدة 1427هـ – 30 نوفمبر 2006م – العدد 14038
https://www.alriyadh.com/205419