الانخطاف

عالية ممدوح

1 –
حين توقفنا أمام مسرح بريشت الشهير الكائن بشارع فردريش شتراسه ببرلين، تذكرت أبياته الحارقة عن ذلك الحريق الهائل للكتب التي ترجمها الكاتب عبدالغفار مكاوي :
«عندما أمر النظام بإحراق الكتب
التي تحتوي المعرفة الضارة في حريق علني
وأجبرت الثيران في كل مكان
على جر الكتب إلى المحارق
أكتشف أحد الأدباء المطاردين مفزوعا
وهو واحد من خيرة الكتاب-
إن قائمة الأسماء التي ستحرق كتب اصحابها
قد نسيت اسمه كما نسيت كتبه
أسرع إلى مكتبته في غضب شديد
وكتب خطابا إلى الحكام بقلمه المجنح :
أحرقوني. أحرقوني
لا تفعلوا بي هذا، لا تبقوا عليّ
ألم أقل الحقيقة دائما في كتبي ؟
والآن تعاملونني كما يعامل الكذاب.
إني آمركم : أحرقوني»

2 –
يفوح أريج أشجار الزيزفون التي غرست تقريبا في عموم الشوارع. تفوح الرائحة مباركة لنا السير وذاك الانخطاف الذي دخلته بأمان. برلين، بالإجمال كانت لي، وفي زيارتي الأولى لها، ما هي الا مجرد انتظار لهذا الانخطاف من قبل الصديقات والأصدقاء. نخشى التأخير على الباخرة التي ستقلنا ما بين نهري سبري ونهر هافل الذي يقطع برلين، نهرول نحن أيضا كما غيرنا، نبتسم في وجوه الذين حضروا من اجل مونديال العالم. يلاطفنا الألمان ونحن نتقابل وجها لوجه أمام بوابة برلين الشهيرة برايندنبوغ تور. قلت لصديقتي ؛ نسمع ان الألمان واجمون، لا يبتسمون ولا يطلقون أصواتهم بالقهقهة وها هم أمامنا خلاف ذلك مع الغرباء. أجابت وهي تهز رأسها : أولا برلين في كفة وألمانيا كلها في كفة ثانية. لا تثقي كثيرا بكل هذه السحنات اللطيفة والأفواه المبتسمة فسوف يعود البرليني للانغلاق والتجهم. أمشي وأردد ؛ معقول ان نلتقي بألماني مسرور ؟ تذكرت هذه المقولة من قبل جاري الألماني في الطائرة التي أقلتنا من باريس، قالها وهو ناشف. سألني ابني : ياليتني كنت معك لنفوز فوزا عظيما. طبعا سوف تشجعين فرنسا اذا ما هزمت البرازيل.. هه ؟ دخلنا الرهان، صديقتي وأنا. قلت لها : ايطاليا ستفوز بسبب حارسها الخارق لكني سوف أدخل في الغم كمدا إذا ما خسرت فرنسا. قلت لها ذلك ودخلنا وسط الحشد. ألوف من البشر كأنهم قادة وجنرالات وربما رؤساء عصابات أو مليشيات. خليط لا مثيل له من الألوان والأزياء والأديان والقوميات والابتكارات في الثياب والتقاليع والنقوش والقبعات والاحذية واللاثياب أيضا.

3 –
فجأة، نشاهد زيدان ينطح برأسه ذاك اللاعب الذي لم أحفظ اسمه، كان هناك شيء لا يجوز ترجمته، ليست هي الكرة، محبوبة كل هؤلاء، هو شيء تصورته كالعبث. كأن تسأل مثلا : هل هذا بيت فلان وتكون أنت صاحب البيت لكنك فجأة تنكر ذلك، هو شيء كالنكران تلك الخسارة. لكن فرنسا سيتبعها الفوز بمعنى من المعاني فزيدان كان لاعبا آسرا. رأيته خارج المباراة. هل هذا آخر الأبطال. آه، كم تحب الأمم الخسرانة سيرة الأبطال وأفولهم، نحن الذين تخصصنا بذلك دون بقية شعوب الأرض. شعرت ان كل هؤلاء واولئك ضاقوا ذرعا به، فكان هناك شيء كالتخلي والترك لزيدان. شاهدته ينكس رأسه وهو خارج إلى حيث لا أدري، فلم أتابع بقية المباراة. سجلت الكثير من الملاحظات عما يحدث في الروح والدوي الذي يجاورني. لم أكن أدري ان سُمك جدار عزلتي ووحدتي سوف يبدأن بالتفتت كما تفتت جدار برلين. ضحكت، وضحكنا كما لم أضحك الا في تلك الجزيرة الامريكية ونحن سويا رجاء وشادية عالم. أضع عناوين لما ذهبنا إليه وعدنا منه. أشاهد خط سيرنا في كراستي الثخينة لكن لا أحد بمقدوره ان ينظم تلاطم المشاعر وهي تنتظر دورها للانقضاض عليّ. أمد قدمي اليسرى على اسفلت الشارع وألتفت إلى صديقتي قائلة : يعني الآن أنا في برلين الشرقية ؟ شارع واحد مفصول يفصلنا عن الغربية هكذا، أليس كذلك ؟ أشاهد بقايا الجدار البشع القبيح والذي سبب لعشرات الألوف الاكتئاب واليأس والقتل. أنظر وأصمت فعلى الجدار رسومات وإشارات للنصر، مقدمات لقصائد ولوحات لا تخيب الآمال. كل هذا الباقي من البقايا المتروكة لأسر الذاكرات البشرية لشعب واحد أهلكه هذا الانقسام القسري وسبب تخريبا في الذوات والمشاعر، لكنها تطلبت وبعد سقوطه إرادة في التفهم والابتكار والفن وربما التسامح.

4 –
دمرت برلين ولمرات عدة لكنها كانت تعود بالمظهر اللائق وبذاك الانضباط المذهل : «وحين أندلع الإصلاح الديني في ألمانيا على يد مارتن لوثر لقي نجاحا منقطع النظير في برلين وتحولت عندئذ من المذهب الكاثوليكي إلى المذهب البروتستاني. ثم بدأت حرب الثلاثين عاما ما بين المذهبين، ما بين 1618 1648، انهكت برلين ودمرتها وقتلت شبابها » هل سيحصل هذا عندنا أيضا، فالاحتلال جعل العراقيين يعيشون ما بين حافتي « اليأس والعار» هل ستستغرق حرب المذاهب عندنا ثلاثين عاما، وربما أكثر؟ النساء أعدن بناءها بعدما دكت من قبل الحلفاء فكان يطلق على اللاواتي قمن بذلك بنساء الحجارة، نساء الانقاض التي تحولت إلى جل ما نشاهده من معمار وأبنية هندسية غاية في العراقة والجمال. كل مرة يشاهد البرليني قيامة مدينته الجديدة، فقد ظلت عاصمة ألمانيا في ظل النازية وبعد صعود هتلر وفيما بعد تعرضت للقصف الجوي من قبل طيران الحلفاء فأدى هذا إلى تدمير الكثير من معالمها التاريخية وبناياتها الرائعة. تقول صديقتي : ان برلين الحالية لا تختلف كثيرا عن برلين السابقة من حيث الآثار والترميمات للمتاحف والكنائس والمصانع والمسارح والحدائق العامة، فهي مدينة خضراء شديدة الحيوية، بل هي أول مدينة خضراء وتسجل مدريد المدينة الثانية في أوربا. الألمان من باقي المدن الألمانية حين يزورونها ينظرون إلى البرليني بتعال فهو يوصف بالفظاظة واللسان السليط وهذا صحيح، تجيب صديقتنا الألمانية اللطيفة جدا اورسولا.
سألت واثب، الشاب العراقي اللطيف والباسل جدا، الأخصائي بالطيران وبكل ما يخص هذا العلم والعالم. شغوف هو ان تكون له أجنحة لا جناحان فقط. سألته ان كان بمقدوره ان يعدد لي تأويلات ألوان العلم الألماني : أبتسم بخفر جميل وهو يعدد : العلم يتكون من اللون الأسود، الذي، أظن هو الماضي. الأحمر، وأعتقد هو الحاضر. اما الأصفر، فأزعم هو المستقبل.
نحب مدنا في حياتنا، فتصير خارج حلم النزاعات عليها أو حولها فتستعدينا إلى الهناءة والرحابة. نحب بغداد وهي تغيب بين الهاوية والاختفاء فنحاول استعادتها بالكتابة قبل ان نموت نحن. نحب بيروت، ليس كما يقال، في ذات يوم عشنا وتزوجنا وأنجبنا ودرسنا وتوهجنا هناك. نلتاع ببيروت ولا نحدد موقعها أين في الذاكرة أو الفؤاد؟ وها هي برلين، يا لصدف المدن التي تبدأ حروفها بحرف الباء، وباريس أيضا، التي ندل عليها ولا نعرف وصفها ولو بشق الأنفس. عبر بوابات برلين وعشتار أعبر السنين التصدع المجازر الامراض والعمر الذي لم يكن راضيا مرضيا لكنه صمد ما بين ذاك التبدد والدنو من اللحظات القصوى للانخطاف الذي كان يحوطني من كل جانب.

الخميس 30 رجب 1427هـ – 24 أغسطس 2006م – العدد 13940
https://www.alriyadh.com/181286