عالية ممدوح
1
كلما أبدأ بكتابة رواية جديدة أعود إلى هذا الكتاب الآسر “فن الرواية” للكاتب التشيكي ميلان كونديرا الصادر في طبعتيه المتوالتين الصادرتين وفي عام واحد 1999 عن دار شرقيات في القاهرة، بترجمة شديدة الدقة فهو يترجم عن لغة ثالثة، الفرنسية ثم الانكليزية فدخل في مصفاة لغوية اجتازها بدون اغتراب في المفاهيم والتنظير، وهو الأهم للمصري المرموق أحمد عمر شاهين. في كل قراءة للكتاب تتضاعف الهوامش فيزداد سحر الكتب على قدر راهنيتها. كونديرا يقرأ تاريخ أوروبا بهويتها الروحية مروراً بأميركا حتى يحط رحاله في بلاد الإغريق. يستنطق فكر أوروبا ويضعه أمامنا في مراتب: “ديكارت رفع الإنسان إلى سيد الطبيعة ومالكها”. “هايدغر توصل إلى كلمة سحرية.. نسيان الوجود”. لكنه ينعطف بغتة وبعد سلسلة كبيرة من ذكر أعلام الفكر مخترقاً أربعة قرون، وهو يقول: “أنا كروائي ولست فيلسوفاً، وأرى أن مؤسس العصر الحديث ليس ديكارت وحده، بل سرفانتس أيضاً” حين ينادي على الأسباني هذا، أعود أنا أيضا، ولا أذكر المرة كم قرأت دون كيشوت؟ وبعد جميع ما كتب عنها، فما زلت لا أدري أين يكمن سر قانونها؟. نظمت تجميع الأدلة على سلطتها الهائلة التي تجاوزت القرون والأجيال، وأبقيت على غرضية واحدة؛ معظم نقاد سرفانتس وضعوها في الصدارة هي؛ فضيلة السخرية.
2
كتاب كونديرا هو إجابات نفيسة على أسئلة وُجهت إليه ونصوص له عن عصره، وكيف أضحت الثقافة والفنون بأيدي أجهزة الإعلام الجماهيري فقامت تلك المنابر “بتصغير العالم كله، بنشر الأراء المبتذلة التي يتقبلها بسهولة أكبر الأعداد من البشر. أما حكمة سرفانتس القديمة التي تخبرنا عن صعوبة المعرفة ومراوغة الحقيقة فتبدو متعبة وغير مفيدة”. في جميع أعمال كونديرا هناك عدسات مكبرة تضع الاستبداد الشيوعي وما حصل لبلده من تخريب واحتلال في ستينيات القرن المنقضي أمامنا مفككاً ومحللاً تلك الحقبة، في مقال كتبه في العام 1983، يذكر: “وصل تاريخ الرواية في الأمبراطورية الروسية الشيوعية إلى نوع من التوقف، فموت الرواية ليس فكرة وهمية، فقد حدث بالفعل ونحن نعرف الآن كيف تموت الرواية، وليس في أن تختفي، في انفصالها عن تاريخها، دون أن يلاحظه أحد” تتعاظم صعوبة كتابة رواية جيدة اليوم في عالمنا العربي وهي مخترقة من تقاطعات سياسية وثقافية واجتماعية ما زالت تغلي وتطلق حممها إلى جميع الجهات. فبقدر ما نحياه اليوم، من لحظات تهديم وإبادات ومحو، لكن ذلك، ذاته يتسم بخصوصية ما، في انبثاق عناصر تتراكم من سوء الفهم حولها وعليها للمراقب والمتابع وهو يحاول قراءتها بوسائل غير إعلامية وصحافية موجهة، فجمهور هذه القراءات تنعدم قدرته على التأمل طويل الأمد ومتابعة ما يمكن ان اطلق عليه -ما بعد العدمية- كما في أحوالنا العربية.
3
كونديرا لا يكشف سراً في هذا الكتاب حين يعلن بنوع من البداهة التي لم تتبدل: “إن المبرر الوحيد لوجود الرواية هو أن تكشف ما يمكنها أن تكتشفه فقط. الرواية التي لم تكتشف قطعة مجهولة من الحياة رواية ناشزة، فالمعرفة هي الفضيلة الوحيدة للرواية “ترى بماذا يفكر الروائي/ة العربية بتدوينه في هذه الأعوام التي نعيشها؟ أعني الكاتب الجاد الحذر من لعبة الالكزوتيك التي راجت وشاعت في السنوات الأخيرة فكانت بعض الروايات تُنتج أصلا لإلغاء سوء الفهم بينها وبين الغرب والترجمة، أو الاعلام الجماهيري الذي يفضل هذا النوع من العادية والركاكة، وبالتالي التبجح أن هذا هو الشكل الاعتباري للسردية الحكائية في حدود ما تم تغييبه بصورة منهجية لقامة ثقافية لدولة كانت تسمى العراق بجميع مواكبها وأسماء كاتباتها وكتابها، ووصولنا إلى حقبة الانحطاط لطبقة السياسيين وازلامهم في الاعلام، وعفونة ما يلائمها من النظام الطائفي والثقافي في هيئات لا تحتاج إلى استعارات سياحية منذ وقبل الاحتلال وعلى كافة أنواعه. ترى كيف واجه المبدع الجاد صوته وسط الكرنفالات هناك وهنا؟ البعض عاد لارتداء ثيابه الاصلية فظهر على سجيته الأولى، أو اولئك الذين عصفت بهم العزلة فكتبوا نصوصهم المتأخرة التي ربما، ينتظرها جيلاً لاحقاً.
هذا الكتاب الأخاذ سيرة ذاتية للعقل البشري المعذب، بأسماء الكتاب الذين اكتووا بالعذاب واليأس: “أنا كاريننا ضحية لطاغية ضيق الأفق”. “أما كافكا، فهو ضحية لطاغية ضيق الأفق”. تولستوي وهومير ذهبا لتفسير الذهاب للحرب معا هكذا: “ما هو محرك الحرب إذا لم تكن هيلين أو الوطن”.
السبت 8 ربيع الأول 1437 هـ – 19 ديسمبر 2015م – العدد 17344
http://www.alriyadh.com/1111338