عالية ممدوح
1 ثأرت مصر لعراقيتك المذلة المهانة ، ثأرت للعراق المحتل ، الموجوع ، المنهوب ، الخائر ، المنتهك والمحتضر . ثأرت مصر لتلك العراقية الخسرانة ، المهزومة ، الجزعة ، الافلة ، السوداوية ، التشاؤم لديها واقع حال وجينات وراثية . الحدث لا يروى ، وعلينا أن نجد اسما له . إجرائيا ، اننا لن نجده قط . لقد رمى علينا كل شيء ، ولم يضع أية ثانية من زمنه ، وتركنا وراءه . إنني أنظر لجميع ما حولي ، كله وبدون استثناء فأراه غير حقيقي ، لا يشبه ذاك الذي ترسب في رأسي ، أشتبه به ، ربما ، لكنه لم يعد هو ، ذاك الذي كنا نراه في «» الجانب الآخر من المرآة «» . بغضت فعل الماضي التام ، والماضي المركب ، وذاك الناقص. خجلت أيضا من فعل المضارع المتحرك في الثانية وهو يذهب في سرعة الضوء إلى الغد . كيف يتوفر للفنان ، للكاتب والشاعر ، وعلى وجه التحديد ، والذي من جيلي وسني أن يتوفر على رواية موضوعها يخلق أمام الكون ثانية بعد ثانية، رواية هي أثمن من الحياة ، حياتنا السابقة ، القديمة ، العتيقة ، التي تعفنت من الانتظار والمعارضة ، المعارضات المسوسة لجميع الفرقاء واللافتات ، والأيديولوجيات . كان الخلق أمامنا يتقن فن الوجود ، وفن التدوين ، يعلمنا فن السرد الجذري ، فالحاضر الروائي تجري أحداثه على مقربة من الجمال والبهجة ، من الفكاهة والسخرية ، من قواعد اللغة العربية ، والتي لا علاقة لها بالعروض والمجاز ، بالتفعيلة التي يتفانى بها بعضهم ، أو بالنفور من قصيدة النثر ، بكلمات طازجة ، شابة لم نقلها من قبل ، ولم تخطر ببالنا ، بالهتاف الطلق ، بالعامية غير المنتحلة من اي أحد ، والذاهبة إلى كل واحد فينا .
2
لا تراجع في إخراج هذه الرواية وهي تدون أمام ما لا يُدرك تماما . الروائيون احرار، انهم تحت انظارنا ، ورعبنا عليهم منّا ، وبالدرجة الأولى. فالمغني الذي لا نعرف اسمه بعد يتلمس حباله الصوتية فيعثر على حنجرته وينجز الأغنية حالا في الميدان ، في اللافتة التي لم تكتب إلا ما لا يسمى فعلا ، لافتة كانت تفاجأ بتشكيل صيرورتها وتنادي علينا بيسر ومزاج رائق ، ولا تعطي دروسا ، تماما ، هذه هي خصال هذا الزلزال المصري . عثر الشبيبة على الادوات والآليات وهم يتلمسون الطريق فارتعب كتبة تاريخ العصر ما بعد المصري ، وهم يحاولون لو يُحسنوا طرح الأسئلة مجددا قبل الشروع في كتابة المقدمة . في سني اليفاعة لم يعرف جيلي النت ، الفيس بوك ، والهاتف الجوال ، أما ذاك ، الهاتف الأرضي فكان يقفل في أوقات كثيرة كإجراء وقائي لحفظ الأخلاق الحميدة . جيلي ، لم يسعْد من منظور تاريخي وفكري ، سياسي وثقافي إلا بذاكرات مثقوبة بأنواع من القهر والرصاص ، بالقمع وبتزوير نذور الأبطال وحيواتهم التي قضت بلامبالاة خبيثة من سدنة أحزابهم ، بذاك اللسان الذي مازال يتلعثم ، وبالخديعة التي كانت تمر خلسة فصارت عقيدة ، بالبشاعة التي تسيج كل زقاق وحي ، في السحنات ذات القسوة الفاجرة ، والأذية المدربة ، في النهب الذي تحول إلى نوع من القضاء والقدرْ المقدس ، في نهرين مخنثين ، وبيارق ذليلة .
3
كانت افكار شخصيات هذه الرواية تقدم لنا دروسا دون وعظ عبيط ، عصفت بالاستعراضية والتفاهة ، بالروتين القاتل على اشكال التكلف والتسويف ، غطرسة وإشعار الاخر بالدونية . ظهرت قوة الأفكار في الأغنية العفية ، والشعار الفصيح ، بالمواكب الراقية ، والاكتاف الرفاقية النظامية . ظهرت الأمة رشيقة ، أنيقة ، فواحة ، سعيدة ، وعاشقة لمصر ، لم أر شعبا يشغف ببلده كالشعب المصري ، أظهر المصري غضبا حنونا وبلا يأس ، بوعي مخيف وبلا فذلكة . كانت هناك { رقة ثورية ، نوعا من ضوع عطري يصل في أقصى مشاهده لتلك الكتل البشرية ، لذاك الهذيان الشبابي في العرق ، في محاولة العين وهي تلتقط الدمعة من عيون من يجاورها ، من سرور يوخز ، وحرية تعدي . في غصة اللسان وبحة الصوت . رواية تعطي لكل مقطع معنى ، وكل فرد ، بطل / بطلة تقوم بدورها الراضي والمرضي عليه . لم أحسد أحدا قدر من كان في قلب الميدان ، دونت ذلك لجميع الصديقات والأصدقاء في القاهرة ، كان نشيجي يصل مسامعي وأنا اضحك وأبكي وأصرخ وأقفز في وقت واحد، فأرى كل واحد من على الشاشة فريدا في موقعه في الرواية ، في الفصل ، في الميدان ، في التاريخ والجغرافية ، في كتب التربية والتعليم ، وآداب السلوك البشري ، في الساحات الثورية العامة ،في الخصوصية المصرية ، وبذاك الوعي الذي قلْ نظيره .
****
على مدى عقود ولليوم ، ما افقرنا لهذا النوع من الشغف ، من الحب بلا سباق ، بلا اساطير وخرافات . نحن لا نحب بلدنا ، لا نقوى على هذا النوع من الحب ، لا نجرؤ عليه ، لا نستطيع ، لا نقدر ، الحب بلا بداية ولا نهاية ، الحب بلا ختام ولا تنهدات ، بلا حجاب ولا اقنعة ، حب دنيوي يحترم الموتى ولا يزدري الحياة . على مدى سنين ونحن لا نتذوق اي فرح فوري بسيط ، ربما ، خارق ، كما هو حاصل في الأرض البهية . نريدها مسرة سائلة ، تسيل على الخدود والرقاب والثياب . منذ دهر لم نقهقه بهذه الدرجة من الجمال والاتقان . حضرت وجوه الأصدقاء الأجمل في حياتي ، فهذا نصرهم الجليل ، الحقيقي والوحيد الذي انتظروه طوال حياتهم . وجه الناقد الكبير فاروق عبد القادر ، الذي قضى حسرة ويتما وكربا ، وجه الشاعر أمل دنقل ، قضى ولم يصالح ، وجه الشاعر محمد عفيفي مطر بستاني الشعر العربي الحديث ، وذاك الجميل ، الأحب إلى قلبي ، الروائي الذي كتب { الروائيون نبوءة فذة المقام ، ما زالت لليوم ، غالب هلسا ، الذي طُرد وشرد ، سجن ونفي ما بين مصر والعراق ، بيروت ودمشق وعمان حيث دفن ، وغيرهم الذين لم تحضرني الأسماء والالقاب والعناوين . هذا جيل شغف بالثقافة والأدب والكتابات الجذرية ، وهو يضمد جراحه ، وهو يدّون السطور الأولى من رواية الروايات : لمصر ، للعراق ، ولفلسطين … و..
الخميس 14 ربيع الأول 1432 هـ – 17 فبراير 2011م – العدد 15578
http://www.alriyadh.com/605461