عالية ممدوح
1
في اليوم المصادف الثامن عشر من كانون الأول من العام 2015، وفي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، أحسبني عدت فتية، وأن الفتوة بمعنى ما، حصيلة حضارية لا علاقة لها بالسن المتقدم. كنت مشيت ساعة، فأنا ما زلت مشاءة حتى وصلت تلك الدائرة في الحي الرابع من باريس كما وصلها العشرات غيري. كان عددنا يقترب من الثمانين، حضرنا للإعلان الرسمي عن فرنسيتنا بصورة إجرائية الخ. الفتوة حال نطقها أسمع وجيب قلبي، فأتطابق مع تعددي الثقافي واختلافي الألسني. فتصير تعابير الوجه واليدين والشفاه والعينين في الحالة القصوى من التواد. نقف سوياً في طابور ملون من الرجال والنساء والأطفال، من الأديان واللغات والأعراق. تماما، كنا نبتسم في وجوه بعضنا للبعض، ولو حضر فريق من علماء الاجتماع أو.. أو لتوصلوا إلى خصائص من المساواة في الضيم والفرار واللاتحمل من تلك التي تدعى، الأوطان الأولى. حضرت صديقتي الجميلة، الإعلامية والمترجمة المصرية نادرة الديب، فقد كان من حق كل مواطن سيغدو فرنسياً أن يصحب صديقة. وقفت أمامي مشرقة وهي ترتدي ألوان العلم الفرنسي بدلا عني، هكذا مرحا في الشال والسروال والجاكيت، على العكس من ألوان ثيابي التي لا تدخل فيها إلا المكابدة العراقية التي ستنتهي بعد قليل.
2
معلقة، سأبقى هكذا ما بين عراقيتي النافرة والنفورة مني، ومنا، التي تستمتع أن يبقى ظهرنا للجدار وأسناننا تصطك، والسم يصير ملح الحياة. التمرين على اهتراء العراق في التضاريس والتاريخ واللغة واللسان والأزياء والأغاني والفنون، كأنه هو الشكل الصحيح الذي تتطلبه المرحلة، المراحل التي دارت على هذا المخلوق، وهو يقلص السنين لكي تظهر حوافزه عارية فترافقه وتعريه إلى ما صار عليه اليوم من زيف وموات، فأقتضى التنويه لاختفائه بالعام واليوم، فلم يعد وجوده مسلياً حتى !! . كنت في حالة شجار دائمة معه، أكثر من الحب الذي يتبادله المواطن مع بلده، وكانت شجاراتنا هي أعلى درجة من درجات غرامنا ببعض !! والحال، هو الذي يعقد الأمور، فكلما يحاول المؤلف أن يتشاغل عنه بتأليف عمل آخر، قائلا، عسى أن يكون مخطئاً، يبادر وطواعية فيسلمنا التعليمات بدقة: ليس أنا إلا مشروع وهم يُسلم للموت، فأنسخ عن رأي أبي اقراط “أبو الطب” وأنا أراه في احتضار متواصل، “أن المرض ينتج عن اضطراب أربعة أخلاط في الجسم: الدم والسوداء، والصفراء، والبلغم” أما مرضي أنا فلم أجد له الاسم المناسب، كالعراق.
3
[ بذرة غامضة لكتاب آخر غير الرواية، أقضي فيه وطري حين يتدافع البلد وفرنسا في الكبد، ليس بديلا عن العراق، فلا بلد يأخذ مكان آخر قط، لكني أنا ما عدت إلى جانبه، ومن النادر ألا أسرّب مقاطع من تلك الآلام التي لا أستطيع إلا التلذذ بها كأي مريضة عراقية لا تتماثل للشفاء، ولا يجوز لها ذلك. أدخل مع الداخلين ونصعد إلى الطابق الثالث. المصعد شغل للحبالى والأمهات. القاعة فسيحة والكراسي بلون عشب مريض فاهي، أو تعالج ولم يشف!. أمامنا مسرح صغير ولوحة مربعة وعليها شعار الجمهورية: الحرية المساواة والإخاء، وعلى جنب تمثال الأيقونة الفرنسية إياه. اشتاق هنا وأنجذب إلى هذا الشعار ولكن بلا حاشية من هناك. فأنا أصلا بلا وطن منذ ومنذ.. فوق كل كرسي ورقة ملونة عليها كلمات النشيد الفرنسي. منذ أيام وأنا أصغي إليه واردده مع المغنية الفرنسية ميراي ماتيو. لم أتذكر ولا كلمة من نشيد تلك البلاد فقد كان يتغير، مرة يصير حافي القدمين، ومرة يرتدي ثوبا خارجياً وكأننا في سيرك. كلمات النشيد الفرنسي عتيقة وبها نفّس عنصري فقد كُتب منذ الثورة الفرنسية وفيه كلاما استفزازياً حتى جاء الرئيس كاليري جسيكار ديستان فأجرى تعديلات كبيرة في المضمون وتم حذف الكثير من المقاطع.
4
بعد فيلم قصير عن باريس التي ما زلت أرى ابنيتها مشغولة كالدانتيل فكنت متصالحة وجدانيا معها في الثقافة والفنون والمخيلة والمفاهيم حتى لو كانت لغتي الفرنسية مضعضعة، لكنها كانت تنمو من المناجاة والتعليم الذاتي. فليست هناك لغة مستقرة نهائيا فهي تبحث عن مراجع من الصداقة والثقافة والطهي والحب، ليس عقوقا للعربية وإنما انتشاء بالقلب المتأجج بالمعارف الحقيقية. يفلح بلدي ألا أقع في خطأ المبالغة أن أكون في الضد، ضده، فقد علمني جوره دقة المعنى طالما يبخس حقي ويبدد كرامتي وينهب ويبيع إرثي وبتقدير ممتاز.
السبت 6 ربيع الأخر 1437 هـ – 16 يناير 2016م – العدد 17372
http://www.alriyadh.com/1119802