عالية ممدوح
– 1-
؟ بوسعي الكتابة والتحدث عن كتاب “بوذية الزّن والتحليل النفسي” تأليف إريك فروم، د.ت سوزوكي وريتشارد دي مارتينو بترجمة غاية في الغنى والعمق لمحمود منقذ الهاشمي، الصادر عن دار أزمنة، عمان (الأردن) صاحبة الاختيارات الباهرة في النشر والترجمة بذكاء وإبداع صاحبها الروائي المميز إلياس فركوح. ربما، أظل وطوال ساعات وبلا توقف الكلام عن هذا الموضوع حتى يتوقف نبضي واستبقاء طعم الأفكار وتوسيع مجال الرؤية على Hن تتوسع ذاهبة إلى الأقصى في الروح. منذ زمن طويل وأفكار وفلسفات الشرق الأقصى تخطفني بصورة صوفية بجوار صوفية الأديان التوحيدية بشكل لا نظير له. فهي أفكار ذات ثراء إنساني
تدعك تتفحص وجودك بأسره وتلقي نظرة ثاقبة على ما مر وما أنت فيه وما عليك فعله. اتصلت بالصديق فركوح وقلت له، انه من الكتب النادرة التي لها قابلية اختراقك وتغييرك وبصورة أنت وحدك تدركها وتتمناها أيضا. كنت أدع الكتاب جانبا لضرورة طارئة جدا وسبب جوهري، كأن أذهب إلى المستشفى وأعود إليه كما أعود لحبيب يقبلني كما أنا. هذه هي شيفرة الكتاب تقريبا. إن تكون أنت، وتقبل هذا فيك، ان لا تلقي الدرس على غيرك قبل نفسك. الزّنZen ؛ “هو اتجاه في البوذية، وتعني نوعا من التركيز أو التأمل. هو الحالة الذهنية والدينية المتنورة التي يتم الوصول إليها بالوصول إلى صفاء الذهن، أو الجلوس في تأمل صامت”. لا أحد يمتلك اصطبار البقاء وحيدا لكي يتأمل أوضاعه وعواصفه ومواقفه. البشر يخاف كل ما له علاقة بالتغيير الذاتي والروحي لذلك يعتزمون الذهاب لتغيير الآخر. – 2-
لا أقدر الكتابة عن هذا الكتاب في هذه الحلقة، عليّ الاحتفاء به ولوحده. فهو كتاب اجرامي له طريقة مذهلة بالاكتراث بالحياة والوجود، بالحياء والفضائل والقيم، بفعالية الحب والعدالة وبدون مبالغات. وضعت هذا الكتاب بطريقي لكي أكتب عن شيء آخر. إننا نمر على شيء لكي نذهب إلى شيء آخر. هذه المراوغة التي تغذي وجودنا كله تستند إلى تجارب جمة. سوف أكتب عن هذا الكتاب كما لو كان منفستو للحياة الروحية الداخلية للمرء وفي جميع أنحاء العالم ومن أجل الاصغاء لهذا الكتاب فما عليّ إلا تأمل شيء من المستحيل انكاره، هو المرض. أول وآخر شيء يأخذ بخناقنا إلى النهاية المحتومة. إن مجرد الكلام عن المرض يصلح حال الدنيا من حولنا ؛ بمعنى، نستطيع الشك به وبرعبه ولو للحظات ونصرح ؛ علينا الزهو بالوجود والدنيا، وبالصحة بالدرجة الأولى. – 3-
انعدام الصحة عدو حقيقي للبشر. كيفما ألتفتُ تقابلني حيوات على وشك الزوال. صديق عزيز أصيب بأحد أخطر أنواع السرطان، بغتة، يصير المرء منخورا فيصبح المريض شخصا آخر لا علاقة له بالذي تعرفه قط، يصير نقطة انطلاق، لتفحص ذات الحياة، حياة نفس الشخص. لا نقدر على نبذ المرض، فبعضنا يتلقاه ككارثة وبعضنا كتجربة وجودية عاصفة. بلى، هو مأزق حرج لكنه بالتالي منهج للتحري داخل ذواتنا، هل نستطيع المقاومة؟. منذ تفتح الوعي ونحن في حالة مقاومة للموت، لا نوافق عليه. هذه أفكار بديهية، نتمزق إذا ما غادرنا حبيب أو صديق أو والد، يصير للموت طعما يدخل به انعدام المنطق. لا نوافق عليه لكننا جميعا نقع تحت تصرفه. كل عام وفي مطلع الربيع ترسل إليّ المستشفى العمومي بباريس استمارات طويلة عريضة بها فراغات ومربعات وما علينا إلا تعبئتها. يسألون عن تأريخ أمراض المرء كنوع من الصيرورة الشخصية لحياة الفرد كقاعدة سلوك. فالمرض هنا، في الغرب جزء أساسي في الكائن البشري وهو تبرير للوجود ذاته. في العام 2003قضى ما يقارب من أربعة آلاف مسن ومسنة من جراء السخونة الشديدة التي لفحت فرنسا وأوربا كلها. المسن لا يشتهي الماء، بمعنى جسمه لا يحتاج إليه، وبذلك وجد المسن كالنائم في السرير أو جالس أمام التلفزيون وبأوضاع طبيعية لكنهم جميعا أصيبوا بالجفاف. ما حصل وقتذاك كان هو تأكيد للغطرسة والتعالي، ليس للغير وإنما بعضهم لبعض، هو تثبيت للفردانية المفرطة كقاعدة سلوك. أبناء وأحفاد هؤلاء المسنيين لم يقوموا بواجب الرعاية والاهتمام، غادروا إلى الاجازات كطقس لا يرد وهذا أمر لطيف لكنهم لم يتصلوا بالهاتف بذويهم حتى. هذا هو الحد الفاصل بين الموت والحياة، التخلي والترك، والذهاب إلى ما وراء حدود المعقول. شخصيا فكرت بسني، بداعي صيانة ما بقي من الذاكرة والوعي والعزيمة والعصيان بالدرجة الأولى.
– 4-
طرقت الباب على مدام مورينو جارتي في الطابق الأول من العمارة التي نسكنها. وقلت لها بحياد تام : هذا رقم هاتف ابني، في حالة وفاتي آمل الاتصال به. هزت رأسها غير مصدقة ما تسمع فأنا أبدو حيوية، مشاءة من طراز لا بأس به، نحيلة وأمارس تماريني الرياضية ويوميا. وإذن، إنني أؤثر الدنيا بكل سفالتها على ذاك الزائر الذي يعلن نهاية العمل والنشاط. قلت لها على ما أذكر جملة صحيحة لغويا بها مبتدأ وخبر وفعل الموت في الوسط فلماذا أندهشت يا ترى؟ ابني هو الآخر وضحت له الصورة كتبت له وصيتي وأرسلتها إليه. لم أتوسع بالأمر فالموت هو العلاقة الأقوى ما بين الخالق والمخلوق البشري. في يوم معين من فصل الربيع ندخل تلك المستشفى الحكومي وتجرى التحاليل بدءا من هدب العين التي تعاني من أمراض عديدة كلها تعود للذل العربي المستديم مرورا بالتمزق الرئوي نتيجة التدخين الطويل الأمد، والذي توقفت عنه بعد التي واللتيا وانتهاء بأمراض لا ترى بالعين المجردة : كغياب الطمأنينة على سبيل المثال. في فرنسا، التي تحسب من أرقى الدول الأوربية بعد الدول الاسكندنافية في الضمانات الصحية والاجتماعية. هنا يحظون على الوقاية كقاعدة صحيحة في جميع الحالات. فهم يصرفون الملايين من أجل الضمانات والتي لم تدخل الخصخصة حتى اليوم، عكس الكهرباء والغاز اللذين تضاعف سعرهما منذ انفصالهما عن الدولة المركزية وشرائها من قبل شركات خاصة. يتضايق الصديق أحمد ابو دهمان من حديثي عن الموت والوصية، كما الصديقة الناقدة يمنى العيد حين أخبرتهما بذلك. أتصور، حين أتحدث عن موتي أُذكر الآخر به، الغافل عنه أو العكس المنهمك بالبحث عن مخارج ما في الكتابة أو الإيمان أو أو. قال ابو دهمان ويمنى كلاما جميلا عن مكتبتي وكتبي، عن شقتي ذات الأمتار النارية التي احتملتني ووافقت على هذياني وتمردي و..تتواصل الدنيا ويختلط المرض بالعافية والعدو بالصديق لكني كنت أريد القول؛ ان الغرب في العموم لا يضخم أي شيء وعليه يعلمنا ان لا نبالغ نحن أيضا. ندخل المستشفى كالعادة، ونجري جميع الفحوصات ويجاهرون لنا بالرغم من انهم لا يعرفون “ابو نواس” حين قال: تسأليني عن سقمي
صحتي هي العجب.
نوفمبر 2006