دنى غالي: في منازل الوحشة احتدام البرودة


عالية ممدوح

1
لا يعود الخراب كافيا، ان لم يكن مترافقا للعنف والتزمت والاقصاء في رواية العراقية المغتربة دنى غالي وروايتها “منازل الوحشة” الصادرة عن دار التنوير للطباعة والنشر في القاهرة لهذا العام. ثيمات مثل هذه تفتح شهية المؤلف الناضج وهو يقوم بترتيب آلياتها، والتدقيق في سردها، وتجهيز النثر المتين حتى لو تضايقنا من بعض الرتابة التي طالعتنا في هذا العمل. راق لي تسميتها: احتدام البرودة. عائلة عراقية صغيرة؛ أم وأب وولد. يبدأ الخراب على مقربة من الباب الرئيسي حتى ينتهي بخصلات شعر الوالدة الذي ما ان تبدأ بقصه فنتصور انه يُجز من الجذور. بجانب هذا كان الاحتقار يشرع لنفسه انعطافات في تصرفات الاشخاص، ويبلغ عنه عبر مادة روائية شديدة الشجن وخالية من التهكم، لكنه يبني أنساقا ومذاهب البشر في ذاك البلد الذي كان يسمى في وقت من الأوقات باسمه، فهو الآن مجرد مكان روائي معارض. كل مؤلفة ومؤلف يكتب عنه، عليه ان يدخل معه في حدود صراع بنيوي وسردي وسجالي لكي نسمع نفيره العام، ثم ندع البلد يهذي على هواه، ويبقي الاعمال الروائية الجيدة تقوم بحروبها ومعارضاتها، وتوُلد دلالاتها في هدوء ومن اجود الأنواع كما اشتغلت عليه الكاتبة. كدت أنسى الإشارة الطبقية والسايكولوجية لثيمة أخطر عثرت عليها وبهدوء في جميع مظاهر الحياة للذين يتحركون أمامي خارج هذا البيت العراقي الصغير؛ الانحطاط.

2
“منتصف 2006. أتنصت وأتلصص عليه. لا. لست مخبولة ولم أكن مخطئة. أمسكته في محاولته الثانية للانتحار. هرعت وتشبثت به وطلبت منه بضعفي الغبي أن يجدَ لي طريقة للتخلص من حياتي إن كان مقتنعا بلا ضرورة حياته بيننا. صرخت به وأسرعت من دون وعي: هيا لنفعلها معا، ولكن أنا أولا إن كنت تنوي ذلك حقا. سلوان الابن يحاول قتل نفسه، وهذا كان صوت الوالدة وهي الراوية، والوالد أسعد يصرخ: “بيت مجانين، بيت مرضى، بيت موتى”. منزل واحد يكفي ضُرب بكل انواع العطن والتخريب، وتلقى جميع الدروس في توزيعه، لكنه رفض فتبدد وتفرق إيدي سبأ. في بيت نصغي لعزف بيانو مذبوح باصابع الأبن، نشاهد لوحات الوالد وفي لحظة غضب يبدأ بتحطيم الاطارات، ثم محاولة انتحار الابن المنتهك نفسيا وجنسيا كما انتهكت تلك البلاد من الباطن والخارج. كتب كثيرة تتساقط من على رفوف المكتبات الموزعة في البيت، فتبدو الثقافة وهي تنحط في بلد منحط. الزوج اسمه أسعد. غريب اسم التفضيل، وبدون أي سبب لذلك إلا السخرية. الراوية، الأم قارئة مثقفة وباسلة لكنها مشطورة بين بين. عائلة ذات مواهب تتعصب لفكرة الجمال من داخل دولة يطفح منها البغض والدمامة. “مرور موكب جنائزي لشهيد يتقدم الشماس الأهل، يتبعون نعشا بصمت وخطى بطيئة إلى الكنيسة خلف بيتنا”. إيقاع رتيب لشطف المادة اللغوية من الابتذال الذي يحيط بهؤلاء اللطفاء المثقفين الذين يصر كل ما حولهم على التحكم بهم، وبالتالي طردهم من النصوص حتى.

3
أقرأ وأقفل الكتاب عبثا والحطام من حولي وأنا في قلبه، وهذه الرواية كما في بعض الأعمال العراقية الناضجة، تصلح ان تكون وحدة قياس لمرجعية الغصص والهول، لا لمرجعية هذه الطائفة أو تلك الايديولوجيا. حين قرأت فصلا من رواية العراقي ضياء الخالدي “قتلة” سحرت بذاك الذي لا مناص منه: الكتابة عن؛ استحالة الحياة إلا بالتخصص بالقتلة. ومنذ بعض الوقت وأنا اتابع ما بدأ يشتغل عليه القاص والكاتب العراقي الجميل محمد خضير فيما اطلق عليه: رواية التغيير في العراق، كانت ستكون روايات عراقية لا حصر لها وبأسماء لم نقرأ لهم من قبل، قابلة للاهمال كما
غيرها من اعمال لولا هذا الجهد والعزيمة الخلاقة لخضير، سنعود لهذا في قادم الأيام. دنى غالي نظرت إلى البلد من داخل وخارج الطب العيادي وبهذا جميع اشخاص هذا العمل، إما ان يترصدهم الجنون، أو هم في الطريق إليه، أو أنه يرافق اعمالهم وسلوكهم. لا ادري ان كانت الروائية في البلد في اعوام 2006 إلى 2008، اعوام الانقضاض الطائفي الذي عاد ثانية وبلذة تتفشى وتتشفى على الجميع. “لم يكن يعنيني أن تتسارع الأيام وتتباطأ، أن ينضب النهر، أن يسرق أثر، أن تهرم بناية عريقة أو تهدم، أن يحتل مسرح أو يحرم كتاب، أو تغلق صالة سينما، وأن تفرغ متاحف الفن بأكملها وأن يموت علامة أو شاعر بصمت، أو أن نعي فداحة ان نستستلم إلى حقيقة أننا منقسمون إلى…..”.

4
سلوان الابن هو الأكثر انطواء وسكوتا. منح الرواية شعاع الألم الصافي الذي لم يتراجع ولا ثانية لكنه لم يشوش الابصار على قدر هلاكه. سلوان، هو ذات الاسم الذي اخترته لأحد المتعاونين العراقيين مع المخابرات الامريكية قبل وبعد الاحتلال في روايتي غرام براغماتي ، وها أنا أرى الاسم ثانية وهو يلوي عنقي قائلا؛ انه هالك، لكنه يقدر على احتمال قهر البلاد والعباد: “كل ما حفظه سلوان سيختفي. كدت اختنق. مدن بأكملها غرقت تحت الماء اندثرت تحته بكل معالمها. ابني، هذا المخلوق التعسِ الضعيف الذي سيبقى معذبا أن لم يرحم نفسه. هذا قدره، هذه طبيعته، خلقته، هذا هو قدرنا يا أمي”. والدة لا تلعب بالالفاظ ولا تفكك وهم انتهاك ابنها. هنا يتوحد الابن والبلد في اشراقة صوفية تتعدى حدود التأليف والابداع، انها لا تقوم بتأويل الاحتقار، ولا تنفجر بوجه القارئ بتحليلات المعنى الأقصى لفعل الهتك. هي تحاول ان ترج البلد والوالدين والمرجعيات بأسرها ولا تقلب الادوار. الروائية دفعت بالولد إلى عمان فكان الانفطار على سلوان جعلني انتحب بصوت خفيض. رمت الحاضر الرسمي الشائن وراء ظهرها وهي تودع الزوج الذي لم يسعدها أيضا وهو يغادر إلى الاردن أيضا. تخلصت المؤلفة من عصابية النوستالجيا فصمدت وحيدة ولم تقم بابتزاز نفسها ولا القارئ وهي تنتقل من المجهول إلى المعلوم الذي سيقال: إن الأدب وفي هذه الكيفية هو هذا الواقع الثابت، وما مزاج الروائية الناري إلا تكريس للموهبة وهو الذي يغري بالقراءة.
***
الطريف الفاجع اننا أمام عائلة يسارية خرجت ربما، من جبة الحزب الشيوعي العراقي، لكن العمل الروائي هذا، يا للجمال، لا يحمل أية يافطة ايديولوجية. كيف رخص الشيوعي اليساري جبينه وفرط بماء وجهه، صمت أو أُخرس أمام سطوة جميع ما يحصل وللساعة فدخل السيستم الطائفي. كتبت دنى غالي صفحات 52 و 53 عن حالة وجد ساحر. عندما يكون الكرم من المرأة أعمق وأثرى من كرم البلد. سلوان يبدأ بكتابة يومياته في عمان وهذا بدء الشفاء. أسعد يلح بطلب اوراقه المتروكة في حقيبة لكي يعاود الكتابة. وما ان يبدأ فضول الراوية / والزوجة بقراءة بضع صفحات حتى يبدأ ليل الغواية بين الزوج وجارتهم. وبدءا من صفحة 204 إلى 207، أي ختام الرواية، أقرأ سردا إيروسيا نضرا معذبا، وملهما، لا يسرف في التعدي على فعل الخيانة، ولا يحذر من خيال الزوجة التي تطيق غيرها ولو إبداعيا. تحضر المتعة مع الجارة هادئة، والشهوة مباغتة وتجرف مما بقي من فراش الزوجية البارد.. هي، هي الحياة، وكل هذا الصرير من الغضب النبيل الذي أخذني بأكملي إلى عمق وجمال هذه الرواية.

السبت 21 ذو الحجة 1434 هـ – 26 اكتوبر 2013م – العدد 16560
http://www.alriyadh.com/878521