عالية ممدوح
كان بمقدور خاتم الزواج، زواجي أن يظّل صامتاً عشرين، أو ثلاثين سنة مقبلة من دون أنّ أفكر بالتفرّج عليه ثانية. ولمراعاة حسنْ السلوك، وفي لحظة خاطفة، سحبتُ يدي اليسرى التي امتلأت بالغضون، وكأي قرويّة، أصلحت ملابسي لكي تناسب الشخص الذي التزم الصمت. ورأساً وضع الخاتم نفسه في خنصري. لم يكن خاتم زواجي موجوداً في جارور البراغي والأقفال الصدئة، وأدوات الطعام من الشوك والسكاكين غير المستعملة. حين كان الرجل على قيد الحياة، كنت أستطيع الوصول إليه في خطوات إذا شئت، أو يتطلب ذلك تبديل طريقي لذاك البلد والبيت، وتلك اللحظة الطويلة، الطويلة التي ما زالت توخز حياتي. وضعته، كما نقول بالعراقي في جزدان من قماش الكتان السميك المشجر المسور بحاجز بنيّ اللون ينتهي ببكلة رقيقة على شكل قفل من العاج. هناك عاش وحيداً ولعقود مع قلادة وأسوارة من الذهبْ عيار واحد وعشرين قيراط. نعم، ذهبْ عراقي صاغ سليم، متراص بتلك الصورة التقليدية لقلائد الذهبْ في الريف أو المدينة. ذهبْ لا يمتلك أي مظهر احتفالي، ولا يكترث بالاستخدام يوماً من قبل صاحبته. ذهبْ، لم يكن متعة قط، لكنه واحد من مفاهيم وظيفية وإجرائية قد يجري الإفصاح عنها، أو حجبها وتهميشها، أو إهمالها والتعتيم عليها لقصد معين، بالتالي لكي يمكنها البقاء في السياق، سياق الإحالة إلى قيمته الغرضية فقط.
ذهبْ، ليس في حاجة إلى تحليل معملي أو نفسي، وتستطيع جميع المرجعيات الفقهية والفلسفية والسياسية ضبط حركته وتفكيكه حينْ الطلبْ. فالذهبْ لا يطيع أحداً، وأهله يجهدون أنفسهم كالمصارعين، وهو هادئ لا يتمكن أي أحد منه. خاتمي جد بسيط، عادي وزهيد الثمن، ويستحسن أن لا تفيض المخيلة بما يؤذيّ، ولكن بأية ضمانات؟. اليوم لا أعرف كم أحتاج من الخْبال وبعد عقود لكي أحصر ملكيتي العراقية من الذهبْ الخالص، فأرفع- الخاتم- فقط من مكانه الأمين، وأعارض به بلدي ونحن وحدنا، هو وأنا، وفي عناد حلو لا ينتظر أحدنا نصراً ولا خسارة. فأنا لم أضع قط تلك القلادة أو الأسوارة، لا في العنق ولا اليد. كنت وما زلت أنتقم من الذهب البراق فأضعه على زنود بطلات رواياتي وهن يخشخشنّ به عندما يجلسنّ أمام المفكرين الماركسيين والقوميين، أو المدراء العامين. ويوم أُشغف بنص شعري أو روائي أردد بصوت عالٍ: إنه عقد من اللؤلؤ. أجهل مقتي للون الذهبي، هل بسبب حيثيات أصول عائلتي المتوسطة كما هي سلالات تلك الطبقة السائدة في تلك البلاد؟. أم، إذا جاز التعبير ذاهباً بي لذلك «الاستنطاق لأرشيف الأركيولوجيا» التاريخية لمرويات الأديان والمدونات السردية ومسرحيات الكتاب… و…
فالبحث عن مناجم الذهبْ يخبر عن تصدعات وخلل من تاريخ الانحطاط والابتزاز والاستغلال الطبقي في جميع صيغه القانونية والقضائية والوجودية لشعوب الأرض كان وما زال في الكثير من دول العالم. وإذاً، حضرتْ تلك اللحظة، وأنا أستطعم سحب الخاتم حيث شاهدته في قعر ذاك الجزدان وقد بدا لي أكثر جدّية عن ذي قبل، وهو يتنصت إلى حركة أصابعي، فأرفعه عالياً وبعيداً عن الباقين: احرجني حضوره ولوحده وهو يقف إلى جانبي، فأضع القلادة والأسوارة على طاولة الصائغ الأرمني اللبناني الشهير، مسيو أرغو في شارع الذهب في عمان، وأنا بصحبة صديقتيّ، الروائية والمترجمة العراقية إقبال القزويني وفريال داوود، لكي يقدّره أمامنا، وخارج التورية والاستعارات جميعاً.
هذه هي «الأغراض» التي لا تستدعي التعليق أو الشرح. خاتم الزواج ليس نوبة نوستالجيا لم أحبذها يوماً، لكي أرقد فوقها فأفقس بيوض الندامة، ولا هو نوع من الوفاء المتأخر ل – ذهبْ – العراق الذي تصرف به أهله فشرعنا بالحدادِ عليه ليوم الدين. تطلب الأمر مني في ذلك المساء انتباهاً تاماً لذلك الرجل إياه، وهو يخاطبني بهذا الخاتم، ويردد، ونحن أمام بعضنا بعضاً، وفي عصر آخر، وفي تلك العاصمة إياها، ونحن نتلعثم من داخل لساننا الخاص. فأحبه اليوم بأثر عقوقي وشططي أكثر من غرامي القديم غير المحتمل، وهو يقول بصوت ما زلت أعيش تحت وطأته: خذي، هذه أمور جد بسيطة قد تنفعك يوماً وأنت، وأنت. وأنت في… وفي أو، أو…
* مقطع سردي من كتاب «النقص» المعد للنشر.