الـكـتـابـة والـوحـــدة

عالية ممدوح

ـ 1 ـ
كل كتاب يصل يد ناشرتي يثبّت وحدتي. أول ما أبعثه أبدأ بالتجوال ثانية وعاشرة في الوحدة التي تخصني وحدي، وجٌدت من أجلي، ألمح شروطها على جميع ما حولي؛ في الثياب المتقشفة، الأدوات القليلة المستخدمة، والعلاقات التي تصل إلى حدود العزلة. كل كتاب دونته هو بمعنى ما هزيمة للوحدة وتكريسا لها. وحدتي لا أعود إليها فهي في داخلي، أخدمها حسب، وتخدمني لكي أبقى مجهولة أمام نفسي. أظل هكذا، ولا أحسب كم ينتظرني اللقاء بها، فلا نتعالى على بعضنا فهي تدري إنني أوقفتٌ حياتي لها، وهي تترك لي بعض الحيز لكي أزداد تلاشياً فيها، والشروع في الذهاب لحالي أكثر. ولدتُ عبرها وحواليها وبجميع ما انتجت، وأنا أقص وأسرد الغصص والمصائب، وهي تصغي بدون تشاوف، تحميني من طنين صوتي وأحميها بإعادة تأهيلي، فتبسط علي

جناج الرحمة، وتصدر لي أوامر الهدوء والصمت فاطيعها في الحال. أتغذى منها وأهتف لها في سري: لو لم أمتلكها وأعيش في كنفها فماذا كنت سأفعل وأنا لا أطيع سلطة اللاوحدة. كل كتاب انتهى منه اسميه كتاب العتبة الأولى، ما زلت في تلك العتبة، لم أصعد درجة واحدة، وأتوق أن لا أنزل أيضا.

ـ 2 ـ
حسناً، لا عليك أن تفكر بكتابك الجديد، بسقف الأسئلة الذي يتضاعف لحظوياً، بعدم قياس حالك مع أي أحد، فجميع قياساتك مع ذاتك ومنذ الكتاب الأول وإلى الصفحة الأخيرة. وأنت لا تدرين هل استقامت خطواتك إياها وكانت صحيحة في ذلك العمل أم في هذا، أم ماذا؟ الكتاب الجديد في علم الغيب، نقول، إننا نكتب لكننا نتحاشى الاسترسال فقد ينفضح أمرنا.. دائما الجديد له نكهة الانخطاف، مغامرة لا يمكن التكهن لوقائعها الدامية أو الساخرة. المخطوط في كل لحظة، لا هو أنت ولا هو ذاك، وأعني به أنت الآخر، القارئ السري المحتشم الاستفزازي والمتطلب أكثر منك. المخطوط هو المرض الذي لا يقهره دواء، وهو الصحة الهشة المستعدة للموت من أية هبة هواء فاسد. آه، أشتغل، أشتغلت ثلاثة أعوام على المخطوط منذ ومنذ وأنا أصعد الحافلة أو قطار الانفاق، وأنا ألتقي بالصديقات والأصدقاء، وأنا أشتغل فيه، أمنعه من التلاشي داخل أصواتنا أو أصوات ممثلي السينما التي ادوام فيها. المخطوط يمتد ويتسع، ويستلقي وحده في حجرة رأسي، يصير عجينة تلتصق بالاصابع أو تعيق التنفس في المرئ فأختنق بشخصياته فلا أعود قادرة على التنفس الصحيح، فأبدأ بالمحو والشطب. كلا أبدأ بالشتم. أسب أصابعي والحبر الأسود وأسناني التي تصطك من الحنق من ذاك الشخص أو من تلك، من أثاث بيتي اليتيم والسقيم. أشتم الدفء والزمهرير، المغني والأغنية.

ـ 3 ـ
أظن أنني أشتغل ضمن حدود النقص، هو الناقص الذي لا يكتمل، أو هكذا يتراءى لي التأليف، فأنا شخصيا لا أعرف إلى اليوم متى يكتمل، أو، هل أكتمل ما بعثته يوما، أو ما هو بين يدي، والذي أرفض ارساله إلى الناشرة، أجل رفضت وهي لا تعلم.. لا أزعم أن هناك كاتبا في العالم قال يوما لنفسه: عال، هنا انتهى الكتاب. فالكتاب، أي كتاب نقوم بتدوينه ونشتغل عليه وطوال سنوات عمرنا “أتحدث عن حالي فقط” هو ارتياب مستمر. الكتابة هي القدرة على أن تشك في جميع أدواتك، وكل ما كتبته أصلا من قبل، ولذاك الذي بين يديك. كنت أحتضر وأموت وأصرخ في البرية وأقهقه قليلا ولا أسلم المخطوط إلى… نتقاتل بالمعنى الحرفي للكلمة لكي نكتب جديداً. نتسلق أنفسنا ثانية وثالثة، نبحث ونتشاجر ونتحاب مع أقصى ما في داخلنا ومخيلتنا، في الحميمي والفردي، في الذاتي والشخصي الذي يقول العام وحميميته واحتجاجه. أصدق إنني أشتغلت على مخطوطة بعشرات الصفحات، ولقد أنجزت، لكنها لم.. وكنت أحب ما أكتبه بوصفه احتجاج على الانحطاط والتكاذب. أصدق إنني لم أكن مكفهرة السحنة لكني لم اتهكم ما فيه الكفاية. كنت أريد أن أطلق ضحكا عاليا وأنا أكتب الفقرات والفصول، حين ترتدي الشخصيات ثيابها وعندما تكشط جلودهم المؤلفة، فأنا في الحياة العامة أميل للفكاهة الحنونة.
+++
في تلك البلاد كان البعثيون والشيوعيون، والآن الطائفيون والمتزمتون والتكفيريون لا يعرفون الضحك. كتبت ذلك في الغلامة. الوجوه عابسة والسحنات نفورة والكروش أكبر وأضخم من الأوطان. تحفظت على مخطوطتي الناجزة ووضعتها جانبا، في سجني الشخصي المؤقت، وبدأت باللاكتابة، فهي فعل علينا أن لا نتحاشاه، فهو يقود إلى أسرار جديدة في الذات وبالدرجة الأولى.

السبت 14 شعبان 1437 هـ- 21 مايو 2016م
http://www.alriyadh.com/1504900