المرأة، أو الجنس الأدبي

شربل داغر
نتحقق في غير بلد عربي من حصول مبادرات، بعد مؤتمر بيجينغ (1995) العالمي الرابع للمرأة، تدعو إلى مؤتمرات ومنتديات تعالج أسباب الخلل، التاريخي والحالي، بين المرأة والرجل: في لبنان يتم العمل في حملة وطنية من أجل مشاركة مزيدة للمرأة في السياسة، وهو ما يتم التحضير له في الأردن ومصر وغيرها؛ وفي مؤتمرنا هذا يتم التحقق من “الإبداع النسوي”، من خصوصيته، وبالتالي من الصور المتبادلة بين الرجل والمرأة في الإبداع عموماً، ومن صورة المرأة عن الرجل (وبالتالي عن نفسها)، وبالعكس.
ذلك أنّ في الصور هذه، (كما في التربية أساساً، في المدرسة والبيت) ما يعين “واقع” المرأة كذلك، لا أطيافها أو مراياها أو مدوناتها وحسب. وهو مسعى في التفسير نجده في كتابات العديد من الباحثين، سواء من الرجال أو النساء، ممن نظروا إلى مسألة المرأة على أنها مسألة تاريخية أساساً، ولا تقع في جنس المرأة أو في نوعها. هذا ما قاله مارلو- بونتي حين نظر إلى الإنسان على أنه “فكرة تاريخية”، صنعتها أعمال البشر قبل التدبيرات البيولوجية والتكوينية. وهو ما قالته سيمون دي بوفوار في صياغة أخرى، وهي أن “مشكلة المرأة كانت، ولا تزال، مشكلة الرجل”. وهو سبيل في النظر ينسب مشاكل المرأة إلى حسابات واقعة في تبادلات التاريخ المتراكمة، وفي الوعي كذلك (في وعي الإنسان لذاته ولغيره): هكذا جعلوا الإنسان “جسماً للدرس”، له وجوه مختلفة، وقابل للمعاينة والدرس، بما فيها درس خصائصه و تبادلاته مع الآخرين. وما يمكن أن نقوله في هذا السياق هو أنَ الرجل سعى في مدى التاريخ المعروف، وفي مساعٍ عديدة منتجة للوعي صادرة عنه في آن (بما فيها الصور التي يروجها الأدب عن الرجل والمرأة)، إلى تشكيل الرجل، إلى تأليفه، إلى جعله مكون النوع البشري، على أنّ المرأة هي “الآخر”، ولكن الطيفي.
هذا ما نتحقق منه من مجرد النظر إلى كتب تاريخية، أو إلى قواميس الأعلام، التي تصنف في هذه الثقافة أو تلك أسماء النساء اللواتي كانت لهن مساهمات لافتة في الصنيع البشري، السياسي أو العلمي أو الإبداعي وغيره. هذا ما نتأكد منه لو عدنا إلى الصور المتداولة عن الرجل، وتدور في غالبها على أنه هو “مكون الإنسان” وأصل النوع البشري، أو إلى الصور المتداولة عن المرأة، وتدور غالبها على أنها الجنس الإنساني… الناقص.

1 . المرأة، بل صورها
المرأة غائبة، مبعدة، أو هي، لو شئنا الأخذ باستعارة قديمة، لا تزال تخرج من “ضلع” الرجل، من دون أن تكون مساوية، أو مشاركة وفق مقادير متقاربة للرجل في صنع الكون والبشر. فعلى مدى قرون وقرون، منذ دخول البشرية في العهد البطريركي، كما يسميه علماء الإنسانيات، وعلى الرغم من التحسن في أحوالها وصورها في هذا القرن، تحديداً مع صعود وتأكد النزعة النسوية في العالم (1)، لا تزال المرأةُ “الجنسَ الثاني”، عملاً بعنوان كتاب سيمون دو بوفوار، على أنها الجنس المتدني، أو الناقصة عن أن تكون رجلاً في تكوينها البيولوجي، أو العاجزة بفعل تراكمات الهيمنة الذكورية عن أن تكون هي ذاتها، في ذاتها، كما يحلو لها أن تكون.
ومع ذلك ما توانى الرجل كاتباً عن الحديث عن المرأة، عن تصويرها، بل عن تبجيلها أو تجميلها أو رفعها في حساب القيم والرموز. إلا أن هذه الأحاديث تبدو أحياناً مثل مساع في السيطرة على من تخشاه وتجهله: بمقدار ما يسعى الرجل إلى تأكيد ذاته، يرتاب من قوة المرأة “الخافية”. وما يجهله الرجل لا يقوى على عرضه، وما لا يسمعه لا يستطيع منحه الكلام، والتكلم بألفاظه هو، وبمعانيه هو. ومع ذلك فالرجل لا يتوانى عن “عرض” المرأة، عن تقديمها في تمثلات مختلفة، من دون أن تكون هي، بل صوره هو عنها. ومنها صور تخفي المرأة وتبعدها فيما هي تعرضها؛ وهي صور تخنقها وتطمسها فيما هي تبجلها وتحبها وتجلّها. لا بل يمكن القول إن أكثر الصور تبجيلاً للمرأة (الأم – المناضلة-الشهوانية…) هي أكثر الصور تغييباً لها. وأول مظاهر الاستبعاد أو التغييب هو جعلها “عمومية”، واحدة من صور اجتماعية متوارثة ومنمطة؛ وهو جعلها في منظار ليس لها فيه أن تقول بل أن ترد على ما يعرض عليها. واستحضارها في هذه الوضعيات هو تبخيس وجودها، أو منعُها من أن تكون…امرأة، من أن تكون “آخر”، أي مختلفة وقائمة في ذاتها. ذلك أن المرأة في هذه الوضعيات لا تعدو كونها شبحاً، أو نسخة “متدهورة” عن الرجل، أو المتكلمة عند فتح الرجل للمناقشة، وإنطلاقاً من طرحه للقضايا. ولا تبدو بالتالي “الآخر” غير الناقص، الآخر التام والمختلف.
من الصور هذه صورة الأم طبعاً، التي طالما يناديها هذا الشاعر العربي أو ذاك، في قهوتها، أو في هزات سريرها، أو في حنوها على الفتى، من دون أن تصبح “الآخر” أبداً: هي أمه هو، والمتصلة بدمه هو. وهو ما نلقاه في صورها الروائية كذلك، حيث أنها طاهرة، مقدسة (إلا في بعض روايات بعض الفرنكوفونيين المغاربة)، ولا حياة لها ولا حكايات إلا بمقدار ما يتعلق السرد بوقائع غيرها.
وتعاكس هذه الصورة، ظاهرياً فقط، صورة “المرأة غير السوية”، أي البغي والمومس عند الياس أبي شبكة ونزار قباني وبدر شاكر السيّاب وغيرهم، أو صورة “مرتا البانية” وغيرها عند جبران خليل جبران. وهي صور لا تعكس حال هؤلاء النساء، ولا سيرتهن انطلاقاً مما عشناه وكابدناه، بل تبدو مدونة مواعظ وتنبيهات وأخلاقيات، “متفهمة” في أحسن الأحوال لتدهور حال المرأة، وخضوعها لقسوة المجتمع. أي أنّها نصوص تعيد، في صورة غير مباشرة، تأكيد القواعد الأخلاقية والسلوكية السارية في المجتمع، التي أنتجها الرجل ووضعها في حسابات وموازين وأنماط، يمكن تلخيصها في نمط: المخلصة –الخائنة، الذي يعين كيفية نظره هو إلى علاقتها هي به.
ومن الصور كذلك صورة المرأة–الرمز، التي تلصق بها أجمل الصفات، كما نراها في تجريديات أوصاف المرأة ونعوتها في شعرنا الحديث، والتي تحتل فيه أجمل الصور والقيم (الأرض، الخصب، التجدد…)، ولا تعدو كونها مرآة المتكلم العاكسة لذاته النرجسية، أو انعكاساً لتعيينات سارية عنها: يصفها ويغدق عليها أجمل التعيينات، على أن قوله يعود عليه بالخير العميم في نهاية المطاف، فلا نقول “كم هي جميلة”، أو “كم هي حبيبة”، بل نقول : “كم يحبها” و”كم يعشقها”، أليس كذلك؟ ألسنا نرى في استلهامات التصوف في النصوص الشعرية الحديثة، وفي مضامين الحب خصوصاً، صورة عن خيالات المرأة وأطيافها، حيث عشق المحبوب لا يعدو كونه “تجميلاً للذات” في لعبة معكوسة؟
فـ”الأم” ليست كائناً في ذاته، إذا جاز القول، بل هي – هو فيها. و”الحبيبة” ليست التي تهوى، أو لا تهوى، هذا أو ذاك، وإنما هي – هو حاباً لها (أو طالباً لحبها، أو متبرماً من رفضها له، أو ابتعادها عنه). هكذا تغيب المرأة في صور طيفية، عمومية، أو تحضر في صور عديدة، إلا أنها متشابهة ومتطابقة في عدد محدود من الصور النمطية، ما يدعونا إلى التشكيك بها، وإلى عدم تصديقها والتسليم بها. أي أنها، في نهاية المطاف، لا تعدو كونها صوراً تعكس تمثلات الوعي الذكوري (2). وماذا نقول عن صور المرأة لنفسها، وللذكر بالتالي؟

2 . المرأة موضوعاً وذاتاً
لا يمكننا الانطلاق سلفاً من أن المرأة كذات وكموضوع حاضرة في صنوف الإبداع العربية المختلفة، بل أطيافها كما قلنا. وقد يكون من الأسلم الحديث – وإن في لفتات سريعة، ولكن لازمة – عن عمليات التشكل هذه. فنحن نقرأ في الأدبيات القديمة عن نساء معدودات نظمن الشعر، أو قلناه في مناسبات مختلفة مثل الجواري، إلا أن التصنيف الأدبي ما حفظ لنا أسماء أدبية كثيرة مثل الخنساء ورابعة العدوية، ولقد كتبتا الشعر، على ما هو معروف، في غيرهما (في الأخ المفتقد، والله)، من دون ذاتيهما إلا في صور مواربة. وقلما وصلنا، لو أجملنا، عبارات شعرية مثل التي قالتها ابنة أحد الولاة: “وأمنح قبلتي لمن يشتهيها” (3).
هذا لا يعني أنه ما كان للمرأة فعل ما في تلك الجماعات والمجتمعات، بل يعني أن إقبالها وانصرافها إلى فعل صنوف الإبداع المختلفة ما كان متاحاً، ولا مرغوباً في تلك العهود (4)، وأنه كان يندرج في قسمة عمل تخص المرأة بأدوار معينة من دون غيرها، حافظة للرجل الأدوار “الخارجية” والمدعاة للتميز الشديد. والمساعي الأولى التي تحققت في هذا النطاق، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كشفت عن الممانعات هذه، وإن في أجواء غير صدامية. فدعوة المرأة للخروج من الحرم العائلي – التي دعا إليها رجال مصلحون ومعلمون للمرة الأولى -، وانصرافها إلى التعلم والكتابة، واحتراف مهن مختلفة خارج البيت انطلقت في أجواء “المثاقفة”، ومنها القبول بـ”التمدن” الأوروبي وأسبابه. وهو ما قاله المعلم بطرس البستاني: “الوطن بأهله، والنساء نصفهم، فلا تستقيم أموره ولا تنتظم أحواله ولا يبلغ الدرجة القصوى من المدنية ما لم يحصل هذا النصف على الكمال المدني”.
فبعد دعوات المعلم بطرس البستاني وقاسم أمين ورفاعة الطهطاوي إلى تعليم البنات، وبعد انتساب بعضهن إلى المدارس، شهدنا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر نشأة عهد نسائي في الكتابة العربية لم ينقطع، بل نما وتطور حتى أيامنا هذه. من الرائدات الأوائل نقع على أسماء عديدة: وردة اليازجي (1838-1924)، الصحفية والشاعرة، وزينب فواز (1850-1914)، المعروفة برواياتها خصوصاً، وهنا كسباني كوراني (1870-1898) الصحفية، وروز حداد (1880-1940)، صاحبة مجلة “السيدات والبنات”، ولبيبة هاشم (1882-1952)، منشئة مجلة “فتاة الشرق”، وعفيفة كرم (1883-1925)، صاحبة مجلة “المرأة السورية” وواضعة عدد من الروايات وغيرهن.
هذا ما يمكن قوله في الفنون التشكيلية كذلك، وإن تأخرت البدايات إلى عشرينيات القرن الجاري (أي العشرين): قد تكون المصرية عفيفة توفيق أول طالبة عربية تذهب لتحصيل دراستها الفنية العالية في أوروبا، إذ سافرت في العام 1924 إلى إنكلترا في بعثة لدراسة التصوير، ثم لحقت بها طالبات إلى أن تأسس في العام 1938 “المعهد العالي للفنون الجميلة للمعلمات”. وتأخرت البدايات هذه أكثر في البلدان العربية الأخرى (5).
غير أن مسار التطور تأكد، وعرفنا مشاركة متعاظمة للمرأة في جميع صنوف الآداب والفنون: فلا يخلو إبداع عربي حالياً من مشاركة النساء فيه، وهي مشاركة باتت “اعتيادية” إذا جاز القول، تقر بها المجتمعات العربية كلها على اختلافاتها في المحافظة. ويزيد من “اعتيادية” هذه المشاركات أن الأديبات أو الفنانات يقبلن على هذه الممارسات من دون أن يكن ابنة لأديب (مثل وردة اليازجي)، ولا أخته (مثل عفت ناجي ونزيهة سليم…)، ولا زوجته. يقبلن، إذن، على هذه الممارسات ويمتهنها في “وقت كامل” (لا في أوقات الراحة)، مثل الأديبة غادة السمان أو عدد كبير من التشكيليات العربيات، وينصرفن إليها على أنها من الخيارات الوجودية والفنية في آن.
وقد تكون الأديبة مي زيادة (1886-1941) هي التي وعت قبل غيرها وتنبهت إلى الحساسية النسوية، وجعلت منها علماً دالاً على فعلها وكتابتها ومواقفها. هذا ما يصح في كتاباتها ومواقفها وحياتها، إذ بادرت في “المحروسة” إلى كتابة باب ثابت بعنوان “يوميات فتاة” بأسماء مستعارة عديدة: (شجية، خالد رأفت، ايزيس كوبيا، عائدة، كنار، السندبادة البحرية الأولى…)، وحملت اليوميات شجونها الرومنسية، كما نتحقق من ذلك في ما كتبته في يومية الثلاثاء 7 آذار/ مارس 1911: “ساعات النهار تسير ببطء، على أن الشمس لم تشرق اليوم. إنها تختفي وراء الغيوم، وتتلفع بدثار من الأسرار، الجو رمادي الأديم، والأفق متشابه الألوان في جميع جهاته، والأرض مغتمة حسرى، والمطر على وشك الإنهيار. هذا الطقس يلقي على نفسي غشاء من الإكتئاب والتخدر… عندما يكون الجو رمادياً كذلك يكون وجداني، إني أوثر الشمس بازغة تبهج العالم، والسماء أوثرها صافية في زرقتها السنية. والنور أن يغدي النبات ويحيي الأزهار أفضل عندي من أن أرى الرياحين منكسة الورود، والورود ذابلة الكؤوس تحت دفق المطر”. كما سعت كذلك إلى مقارعة وتفنيد العديد من الآراء المتخلفة عن المرأة: “كم قالوا إنها (المرأة) لا تصلح إلا للخدمة البيتية والزينة الجسدية، وها هي مصلحة كبيرة ومفكرة عاملة. وكم قالوا إنها حيوان جميل وشيطان لطيف، وها هي ملك كريم يحاول إفهام الرجل أن في الحياة عنصراً سامياً هو كل الحياة. وكم قالوا أنها كاذبة خبيثة وأن الصدق والإخلاص بعيدان عنها بعد الشمال عن الجنوب، وها هي آخذة في تهذيب نفسها وملاشاة العاهات التي شوهتها في أزمنة العبودية. وكم قالوا إنها مترددة حائرة ذليلة لا تقوى على توليد فكرة ولا تحتمل المسؤولية، وها هي عزيزة النفس شديدة الحرص على الاستقلال، منحنية بحرقة على معاني الحياة العميقة” (6).
كما استوقف مي زيادة دور بعض النساء الرائدات، فخصصت لهن كتباً تعريفية بهن، مثلما فعلت مع باحثة البادية في العام 1920، ووردة اليازجي في 1926، وعائشة التيمورية في العام نفسه. وجعلت مي في غير مقالة لها من صوتها صوت المرأة وفق تضمينات تجمع بين النضال والرقة في آن: “أتكلم الآن بحرقة كأني صوت المرأة الصامت منذ أجيال، وتستمعون إليّ بإشفاق كأنكم نفس الرجل المشتتة منذ إبتداء الدهور. والنفس الكبيرة المبعثرة تستجمع قواها للإصغاء، والصوت الخافت الذي لم يتعود إلا همس الطاعة وتمتمة التمرد المبهم، يرتفع الآن آتياً من بعيد من عمق الدهور السوداء، من أقصى أقاصي الخليقة العجيبة آتياً من القبور، من البحار، من عناصر الحياة جميعاً صارخاً: أيها الرجل! لقد أذللتني فكنت ذليلاً، حررني لتكن حراً، حررني لتحرر الإنسانية” (7).
صوت نادر في صفائه، على الرغم من أخلاقيته، ويضاف إلى نضال رائدات، مثل هدى شعراوي في مصر، محضن صوت المرأة بعدها الإنساني والأدبي اللازم. ولعلنا نجد في “جنون” مي، كما قيل، في ما أصاب جسدها وعقلها من امتهان وعسف وظلم (8) تعبيراً قاسياً عن صعوبة الشرط النسوي، ما كانت مي تقدر أهوالها تماماً في خلجاتها الرقيقة وصيحاتها الإنسانية. نسوق هذا الكلام، لأننا نرى أن صوت مي زيادة الشجي والمبكر صرخة في واد، وإن نجد بعض توقيعاته الحيية في شعر فدوى طوقان تحديداً. ذلك أن صوت ليلى بعلبكي في “أنا أحيا” يتأتى من مجال آخر ذي تضمينات “نسوية” متجددة، ذات مصادر وجودية.

3 . المرأة المتمنعة
ليلى بعلبكي في “أنا أحيا” (1958) جعلت من المرأة، من “امتناعها” عن تأدية أدوارها التقليدية، ومن نقد صورها الرائجة والمنمطة، غرضاً لكتابها، الذي لا نعرف أقوى منه في نوعه، على الرغم من توافر كتابات نسائية عديدة منذ ذلك العهد (9). يمكننا ذكر العديد من الأعمال الروائية والشعرية التي جعلت بعد هذا الكتاب من نقد الشرط النسائي، ومن سرد المكبوت والمقموع النسائي، تحت سلطة الذكر العربي، سبباً للإفصاح والإبلاغ بالتالي، مثلما نلقى ذلك في كتابات نوال السعداوي وغادة السمان وحنان الشيخ ولطفية الدليمي وفوزية أبو خالد ورجاء عالم وفوزية رشيد وغيرهن. وهي مساع مختلفة تنزع إلى مساع في الإبانة والفضح والنقد: تنتقد الذكورية العربية وتفضح سلوكياتها، وتؤسس وفق مقادير مختلفة لما شرعت به بعلبكي، وهو أن يصبح للمرأة “نرسيسيتها” في تكوين الصورة (وهو ما يفعله الرجل منذ أساطير آدم وأنكيدو وعوليس).
لم تفقد هذه الرواية، على الرغم من انقضاء أربعين عاماً على كتابتها، شيئاً من فجائيتها، من عنفيتها، وإن بدت مفتعلة في بعض الأحيان ومطلوبة لذاتها. وإذا كانت الرواية تحيل في بعض أحوال شخصياتها السياسية إلى زمن مضى (عبد الناصر والحرب الباردة وغيرها)، فإنّها تشير في السرد إلى أحوال أخرى تبدو لنا غريبة، أو باتت صعبة أو مستحيلة التصور، اليوم، في بعض بيروت على الأقل: لينا، في التاسعة عشرة من عمرها، تدرس في الجامعة الأمريكية، ابنة عائلة ميسورة، تباشر في أقسام الرواية الثلاثة في مبادرة العالم الذي يحيط بها، وهو عالم يعرض لها صوراً وتحديدات عن أدوارها الممكنة، وعن صورها السارية، تتصادم معها وترفضها. أنثى متبرمة، حانقة، متربصة بكل ما يصدر عن غيرها من بشر وأشياء، فتبدو الرواية فضحاً وكشفاً لمعايشات وعلاقات يومية، في العمل والبيت والجامعة والشارع والمقهى وغيرها من أمكنة الاختلاط، ونتحقق فيها من أن لينا تمتنع عما هو مرسوم لها، بل تمتنع أحياناً، كما في قصة غرامها بمناضل عربي، حتى عن العيش، عن لذتها، طالما أن المعروض لها في الحياة لا يوفر لها “أنويتها” هي، وكما تراها هي.
لهذا نقول إن لينا تؤسس لنرسيسيتها السردية بمقدار ما تنصرف إلى مواجهة ما يقدم لها، على أن “حياتها” (والمعلنة مثل شعار في عنوان الرواية) هي الإمتناع عن الحياة، والتنكر لما يعرض لها: مقاطع طويلة تتحدث فيها لينا عن رغبتها في صديقها، وهي معه في المقهى، من دون أن يتحقق شيء من ذلك، سوى ملامستها لجرح في صدره في إحدى السهرات: عدم الإختلاط بين الجنسين مستمر، إذن، ولكن لأسباب أخرى، تختلط وتلتبس فيها الأسباب النسائية بالأسباب الإيديولوجية. لينا تجد دائماً في واقعة إجتماعها مرة تلو مرة بحبيبها، لا في أسباب مسبقة، ما يمنعها من مباشرة الإتصال الجسدي به. هذا ما لا يتحقق للينا أبداً، لا مع هذا ولا مع غيره، وهي في ذلك تبدو “برية” إذا جاز القول، متمنعة في أقصى معاني الامتناع، إلا أن هذا الامتناع يبقي الجنس، بل اللذة، في دائرة الرغبات والمكبوتات بالتالي. كما نجد في اختلافات، واقعة في النزعة والموقف، بين لينا وحبيبها ما يفسر، ولو في صورة غير كافية في السرد، الامتناع هذا.
هي “فردية” كما يحلو لها تعيين نفسها في الرواية، وهو “إيديولوجي”، كما تحدده في غير موضع في الرواية: “لا يحق لي جمع نفسي مع بقية النساء، فأنا واحدة من عشر، من مئة، من مليون. أما أن أكون واحدة مع عشر، مع مئة، مع… فهذا خطأ أرتكبه”. أو تقول في موضوع آخر: “وأنا لست سمراء، ولست شقراء. لا يهمني كل الرجال. ولا تغريني أية درجة ثقافية. وعبثاً أنقب في نفسي عن صلة بهؤلاء الأشخاص. فأنا اعتدت وجودهم حولي، أحتك بهم ولا أحسهم.أنظر إليهم ولا أراهم. إنهم عندي تماماً كالأشجار، والأنهار، والنجوم، والحجارة. أشياء لا تناقش، لأنها من صنع غيرنا، ولأنها معدومة الحركة لن تؤثر على الخفقان المتجدد فينا” (10).
تقول لينا نرسيسيتها في صورة سلبية إذا جاز القول، أي أنها تعبر عما يصدمها في العالم كما يديره ويقترحه الذكر، فيما لا نقع إلا لماماً على صورتها هي لهذا العالم ولما تطلبه فيه. وهو تجاذب نلقاه في هذا الأدب، بين فضح العالم الذكوري وبين قول الذات، منذ هذه الرواية. ويجد هذا التجاذب في التباين بين نوعين في الأدب، الشعر والسرد، ما يعززه: فالسرد ينصرف أكثر إلى فضح المستور في حياة العائلة العربية وبين الجنسين، فيما ينصرف الشعر أكثر إلى قول الذات، العاشقة خصوصاً، أو الوجودية، عند من استسغن خصوصاً قصيدة النثر ووجدن في مبانيها ما يناسب قولهن أكثر من غيره من الأنواع الأدبية. فالإبانة التي يطلبها السرد تناسب الكشف عن المخفي وعرضه بالتالي، وتراكيب الشعر الحاذقة وإشعاع دلالالته الملتبس تناسب أكثر إيماءات النفس الخفية.
باتت المرأة ذاتاً وموضوعاً من دون شك، ولها صور لا أطياف، وإن تعددت الصور وتعاكست وتداخلت بين الرجل والمرأة، أو بين الأنا والآخر، وفي ذلك ما يقودنا إلى طرح أسئلة أبعد وأعمق تطاول “الإنسان” بين بيولوجيته وتاريخيته. فلقد سبق لسيمون دو بوفوار أن كتبت، في العام 1949، في كتابها “الجنس الثاني”: “المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك”. وهو قول شجع على طرح قضية المرأة، وعلى فتح مناقشات تصب في صميم الشرط الإنساني، والمسألة الثقافية: ما الإنسان؟ ما أثر الثقافة في تشكيل تكوين الإنسان؟ وهي أسئلة لا تزال مطروحة على الأدب النسائي، كما على الفكر العربي.
وهي أسئلة نستعيدها، ونحن ننتبه إلى أن المرأة “تصير” امرأة أكثر فأكثر في الكتابة العربية، ولها صور لا أطياف، على الرغم من أن بعض الصور لا يعدو كونه صور المرأة وهي ترى إلى نفسها في المرأة التي يمسكها الرجل.
هذا ما يجعلنا نقول إن مباشرة المرأة الكتابة لا تبدو بديهية في غالب الأحيان، وليست معطاة سلفاً، وإن يبدو لنا أن إقبال النساء العربيات على الكتابة والفن عموماً يتزايد في صورة مطردة، وما كان نادراً في فترة ما بين الحربين بات “اعتيادياً” في النصف الثاني من القرن الجاري (أي العشرين)، وإن كانت الزيادات هذه لم تبلغ بعد سيطرة الرجل على ميادين الإبداع. كيف لها أن تتشكل الهوية، كيف لها أن “تُدون” – وهو تدوين غير كتابي وحسب، بل فعلي في الزمن.
للمرأة صورتها، بل صورها، التي لا تختصرها صورها الصادرة من الرجل، والمحددة لها به. لها صور، من دون أن يكون لها – كما هو عليه الحال في صور الأدب – غير أصول ولادة وطفولة، بل لها عيش يتعدى نشأتها، ويتحدد في أطوار أخرى حين تتهيأ وتتشكل خصائصها في غير صعيد.
ختاماً، يمكننا أن نثير أسئلة عديدة تؤدي واقعاً إلى تبين ما هو سياسي جذري في هذه الدعوة، وما هو إنساني تعبيري: فالدعوة الجذرية تطالب بقسمة للعالم، بل بقسمة اللغة أحياناً (11)، أو بإعادة ترتيب جديد له يقضي بأن يكون الحاصل الإبداعي متوازناً، متناصفاً، كما هي عليه قسمة المجتمعات بين عدد الرجال وعدد النساء. وهي دعوة قد تجد بعض أسبابها الواجبة في السياسة – وإن كانت توجب علاقة تماه وتمثيل محكم بين “الجنس” والفكرة -، إلا أنها تتطلب في الإبداع مناقشة، تبعد من حسابها الأعداد والأرقام وسياسات التوازن. أما الدعوة الأخرى فتبدو أكثر واقعية، وتعمل على أن للمرأة تناولها المخصوص لذاتها ولغيرها وللعالم، وهو تناول يؤدي إلى طرح مدونات وتعبيرات أخرى عما نعنيه بـ”الإنسان” عموماً، فلا يقتصر على صيغه الذكورية وحسب.
ومن هذه الأسئلة أيضاً ما يتصل بكون المرأة “قضية” واقعة في تبادلات المجتمع وصراعاته، من جهة، وبـ”اللحظة” التي تعيشها الإيديولوجيات ومناهج العلوم الإنسانية، من جهة ثانية. ففي الوقت الذي يؤكد فيه “النسويون” على التمايز البيولوجي للمرأة عن الرجل تتخذ البحوث العلمية، ومنها البيولوجية (في بحث الجينات خاصة )، وجهة أخرى تسعى إلى دراسة “العابر للجنس” ((Transexuel، أي فيما يتعدى الضدية الثنائية بين الرجل والمرأة وفيما يتدارس غير مفكر مسألة “موت الإنسان”، وتفكك دراسته كوحدة كليانية متماسكة، تعود بنا القضية النسوية إلى فكر جوهراني، ماهوي، يقوم على تأكيد حصول التمايز في الجنس، في ما قبل الفعل، إذا جاز القول. وهو ما يمكن أن نلتمسه في المدونات المختلفة: فدراسات النقد الأدبي تتمنع في صورة متزايدة عن إلحاق النص بكاتب (وهو ما يعني “موت المؤلف” في معنى ما)، وبضمير متكلم واحد، بل تجعله عرضة ونهباً لأصوات متخالفة، فيما يتحدث بعض النقد النسوي عن لزومٍ وتحدد قائمَين بين صدور النص عن امرأة وبين تعبيره المتمايز عنها.
قد تكون نزعة الدفاع عن البيئة، ومنها “أحزاب الخضر”، هي الدعوى “الصاعدة” في النزال الإيديولوجي الحالي، وتراجعت بذلك الدعوة “النسوية” بعد غيرها مثل قضايا السود والأقليات، وبعد الطبقات والنضالات الإستعمارية، إلا أنها لا تزال دعوى ناشئة في بلادنا، وهشة المبنى كذلك، وواعدة بالتالي.

الهوامش
1 : يعود هذا الإهتمام إلى حقبة الستينيات، وإلى الحركات النسائية في الولايات المتحدة الأميركية، مثل “حركة حقوق المرأة”، التي تلتها حركة أكثر جذرية في العام 1968، “حركة تحرير المرأة”، التي توصلت إلى خلق تيار ما لبث أن أصبح عالمياً، ويلخصه شعار “المساواة”، أو تصحيح الخلل المتراكم.
وأدت الحركات هذه إلى تصحيح قوانين وقواعد (في الحقوق، والتمثيل …)، وإلى تعديل سلوكات إنسانية وإجتماعية في التعامل بين الجنسين، أو مع الأطفال، وإلى تفكير مزيد في الوضعية الإنسانية، في ما يجعل الرجل والمرأة مختلفين ومتشابهين في آن (والذي أدى أحياناً إلى الحديث عن “جنس عابر للجنسين”)، وإلى مناقشة الصور المتناقلة عن الرجل وعن المرأة، وعنهما في التمثلات الأدبية والفنية والإيديولوجية وغيرها، وإلى قراءات تاريخية وفنية تصحيحية أعادت الإعتبار إلى فنون قديمة أو مهمشة حالياً مثل التطريز والخدمة البيتية وغيرها، وإلى أنواع أدبية مثل المراسلات واليوميات وخلافها، وإلى إعادة النظر في التاريخ البشري على أنه تاريخ “ذكوري” منذ العهد البطريركي … كما أدت الحركات هذه إلى إنتاج مدونات مختلفة تؤكد النظرة هذه: هذا ما يفسر انتشار الصحافة النسائية وقوة ذيوعها، كما يفسر تبلور نزعات فنية وأدبية وسينمائية تجعل من الشاغل النسائي غرضاً تعبيرياً وهماً إيديولوجياً لها.
2 : نتحقق من تمثلات الوعي الذكوري كذلك في صورة شهرزاد، التي سرت في أدبيات أوروبية، إنكليزية وفرنسية، ثم في الأدبيات العربية، والتي تفيد أنّ شهرزاد في “ألف ليلة وليلة” بطلة “نسوية” عربية… مبكرة، وهي تأكيدات ترى إلى المرأة في “حيلتها” و”دهائها” وحسب؛ عدا أن التأكيدات هذه تتغافل عن كون شهرزاد نجحت في أمر واحد، في ختام قصصها في الليالي المشهورة، وهو حفظ رأسها من الموت، والعود من جديد إلى وضعها السابق، “السوي”، ولكن ضمن التقاليد الذكورية. ومن المفيد قوله في هذا السياق أن التأكيدات هذه راجت، بعد ترجمة هذا الكتاب إلى لغات أوروبية، وأظهرت تقززاً وولعاً أوروبيين في آن بوضع “الحريم” – الوضع المحرم في العلاقات الزوجية الأوروبية.
3 : أغفلت كتبٌ قديمة مثلما أوردت ذكر نساء عربيات قرضن الشعر في العهود الإسلامية المتعاقبة، إلا أن هذه المشاركات شملت بعض الشهيرات من سيدات القوم، مثل سكينة والولادة ورابعة العدوية، كما شملت الكثير من الجواري خصوصاً. وما يجدر الإشارة إليه هو أن إقبال الجواري على قول الشعر يندرج في دورها التقليدي، “البيتي”، ولضمان ملذات الرجل المختلفة، بما فيها لذة سماع الشعر وغنائه وغيرها.
4 : لا يمكننا القول، لو عدنا إلى كتابات الجاحظ، وليس إلى حقوق المرأة وحسب كما نتمثلها في قرننا هذا، إن مسألة النظر إلى المرأة، والإختلاط بها، ومحادثتها – أي عدم الفصل القاطع بين الجنسين – مبتوتة فقهياً، أي محرمة كما يسارع إلى القول بعض “أمراء” التأويل في أيامنا هذه، بل هي محل تفسير واختلاف، بين البشر أنفسهم، وإذا كان هناك استثناء فقد شمل أزواج النبي “خاصة”، كما يؤكد الجاحظ: “فلم يزل الرجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتى ضُرِب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة (…). ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن للرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام (…). ثم إنّ النساء إلى اليوم من بنات الخلفاء وأمهاتهن، فمن دونهن يطفن بالبيت مكشفات الوجوه، ونحو ذلك لا يكمل حج إلا به (…). لو كان النظر والحديث والمداعبة يُغار منها، لكان عمر (بن الخطاب، إثر زواجه من عاتكة ابنة زيد بن عمرو، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر) المُقدم في إنكاره؛ لتقدمه في شدة الغيرة. ولو كان حراماً لمنع منه؛ إذ لا شك في زهده وورعه وعلمه وتفقهه (…). وهذا الحديث وما قبله يبطلان ما روت الحشوية من أن النظر الأول حرام والثاني حرام؛ لأنه لا تكون محادثة إلا ومعها ما لا يحصى عدده من النظر. إلا أن يكون عنى بالنظرة المحرَّمة النظر إلى الشعر والمجاسد، وما تخفيه الجلابيب مما يحل للزواج والولي ويحرم على غيرهما (…). ثم لم يزل للملوك والأشراف إماء يختلفن في الحوائج، ويدخلن في الدواوين، ونساء يجلسن للناس (…) ثم كن يبرزن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزينُ به، فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابه عائب (…). والدليل على أن النظر إلى النساء كلهن ليس بحرام، أن للمرأة المعنسة تبرز للرجال فلا تحتشم لذلك. فلو كان حراماً وهي شابة لم يحل إذا عُنِّسَتْ، ولكنه أمر أفرط فيه المتعدون حد الغيرة إلى سوء الخلق وضيق العطن، فصار عندهم كالحق الواجب. وكذلك كانوا لا يرون بأساً أن تنتقل المرأة إلى عدة أزواج لا ينقلها عن ذلك إلا الموت ما دام الرجال يريدونها. وهم اليوم ينكرون هذا ويستسمجونه في بعض، ويعافون المرأة الحرة إذا كانت قد نكحت زوجاً واحداً، ويلزمون من خطبها العار ويلحقون به اللوم، ويعيرونها بذلك، ويتخطون الأمّة وقد تداولها من لا يحصى عدده من الموالي. فمن حَسَّنَ هذا في الإماء وقبَّحه في الحرائر! ولمَ لَمْ يغاروا في الإماء وهن أمهات الأولاد وحظايا الملوك، وغاروا على الحرائر. ألا ترى أن الغيرة إذا جاوزت ما حرّضهم الله فهي باطل، وأنها بالناس لضعفهن أولع، حتى يَغَرْنَ على الظن والحلم في النوم. وتغار المرأة على أبيها، وتعادي امرأته وسُرِّيَّته” (“رسائل الجاحظ”، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، المجلد الثاني، في الصفحات: 149، 151، 152، 154، 156، 157 و158.
ويقول الجاحظ في رسالة أخرى، “رسالة النساء”، مجموعة في الكتاب عينه: “ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل: إن النساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتين، أو بأكثر، ولكنا رأينا ناساً يزرون عليهن أشد الزراية، ويحتقرونهن أشد الإحتقار، ويبخسونهن أكثر حقوقهن. وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال”: م.ن.، المجلد الثالث، ص 151-152.
5 : ومن الفنانات المصريات الرائدات: زينب عبده واسمت كامل والكسندرا غبريال، ثم كوكب يوسف وإنعام سعيد وعدالات صدقي، اللواتي أصبحن مدرسات للفنون، بعد عودتهن، وفنانات، ولمع منهن: زينب عبده وكوكب يوسف. ومنذ العام 1938 تأسس في القاهرة “المعهد العالي للفنون الجميلة للمعلمات”، ومن أبرز خريجاته: جاذبية سري، نازك حمدي وتحية كامل وغيرهن. وممن لمعن بين الفنانات: أنجي أفلاطون، وتحية حليم، زينب عبد الحميد، عفت ناجي وغيرهن.
أما في سوريا فأول فنانة هي رمزية الزمبركجي، التي تتلمذت على أيدي المصور توفيق طارق، وكانت أول معلمة للتربية الفنية في ثانويات دمشق، وإلى جانبها معلمة أخرى، نعمت العطار. أما الفنانة منور موره لي، فدرست في استانبول، وكانت أول فنانة سورية متفرغة؛ وإقبال قارصلي التي تميزت بإنتاجها الكثير؛ ومنى اسطواني أول فنانة درست الفن في أوروبا، في أكاديمية روما منذ العام 1963، وأنشأت صالة عرض “الصيوان” مع غياث الأخرس.
ولعبت تمام الأكحل، إلى جانب زوجها اسماعيل شموط، دوراً في الحركة التشكيلية الفلسطينية. وفي الأردن: فخر النسا زيد، والأميرة وجدان وسهى شومان ومنى السعودي وكثيرات. وفي العراق: نزيهة سليم (أخت جواد)، التي درست الفن في باريس في العام 1951، وسعاد العطار (الأشهر بينهن)، وليلى العطار وليزا فتاح وغيرهن. وفي الجزائر: بايه، الأشهر بينهن. وفي تونس: صفية فرحات. في المغرب: الشعيبية، وفاطمة حسن، ولطيفة التيجااني وغيرهن. وفي لبنان: سلوى روضة شقير، معزز روضة، إيفيت أشقر، جوليانا ساروفيم، ايتيل عدنان، سيمون فتال، سيتا مانوكيان وغيرهن.
6 : مي زيادة: المؤلفات الكاملة، ج 2، ص 34.
هذا التقليد، اعتماد أسماء مستعارة في البدايات الأدبية، لجأت إليه، بعد ذلك، الكاتبة إميلي نصر الله وغيرها.
7 : مي زيادة: م. ن.، ج 2، ص 36 .
8 : راجع حكاية احتجازها القسري لشهور في مستشفي للأمراض العقلية، في ضاحية بيروت، في كتاب صادر حديثاً: “خالد محمد غازي”: “جنون امرأة: مي زيادة”، دار النهار للنشر والتوزيع–القاهرة، 1996.
9 : من أقواها محاولة الكاتبة العراقية عالية ممدوح في منتصف الثمانيات، في رواية” حبات النفتالين”.
10 : عدت إلى الطبعة الشعبية الأولى، منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت، 1964، ص21 وص 24.
11 : تسعى بعض الدراسات العربية إلى التحقق من كون مسألة التمايز بين الجنسين، وتأكيد سلطة الرجل، ناشئة في النصوص، بل في اللغة أساساً، في بناها التجريدية كما في استعمالاتها وصيغها. هذا ما قاله بعض النقاد العرب في كتابات متأخرة، مثل القول بأن “بنية اللغة بنية مذكرة”، أو مثلما فعل ناقد عربي آخر إذ تعقب غير لفظ اصطلاحي في العربية، واجداً فيها تأكيداً للرجل وتهميشاً لدور المرأة، حتى حين تكون مساهمة أساسية، مثلما هو عليه الحال مع نازك الملائكة على سبيل المثال (كإعتماد اللفظ المذكر، “الشعر الحر”، بدل التسمية المؤنثة، “قصيدة التفعيلة”).
إلا أن هذه الأقوال والمساعي التفسيرية ما خلت من تسرع، ومن تدبيرٍ بل إنزالٍ لمبدأ “التمييز” في جسم اللغة في صورة مبرمة، يظهر فيها كثير من التلفيق وجلب الأمثلة المنتقاة والمعدودة وغير المسندة كفاية. فالرجل – إن كان هو حقاً واضع اللغة الوحيد – لم ينشئ اللغة “ضد” المرأة، وإن استعملها في كيفيات مخصوصة أفادته في تأكيد خطابه، لا صوره وحده، له ولغيره وللعالم. ولقد صاغها – إن صاغها وحده – لحاجات تصدر عنه وتتعداه في آن، بدليل أنها بتصرف غيره. وجعلها تنصاع لمشيئته، إلا أنها قابلة لغير مشيئة. هو الأكثر استعمالاً لها، فتبدو خاصيته وحده في تعبيراته العليا والعظمى.
ومع ذلك يمكننا القول إن الحديث عن “جنسية” اللغة أمر ضروري، ذلك أن بعض النقد النسوي، ومنه آراء وكتاب للكاتبة زليخة أبو ريشة، أو لنقاد عرب ذكور (جورج طرابيشي، عبد الله الغذامي …)، يتحقق على عجل من أن التمييز واقع في اللغة، من دون أن يميز بينها في نظامها العام وبناها التكوينية، وبينها في استعمالاتها.
لا يمكننا القول في صورة جازمة إن بنية اللغة “مذكرة”، وفي صورة متسقة: فهناك في البنى التكوينية للغة العربية (مذكر/مؤنث، جمع مذكر سالم/جمع مؤنث سالم …) ما يضمن “حضوراً” للمرأة، “مساوياً” للرجل. إلا أن الأمر لا يبدو على هذه الحال في مجمل البنى التكوينية، “المولدة” للغة في استعمالاتها كلها: فالفعل الماضي المذكر في العربية قائم في تكوينه، فيما يحتاج الفعل الماضي المؤنث إلى أداة، إلى حرف مزيد، هو تاء التأنيث، لكي يقوى على الفعل، لكي يتاح له أن يقوم بما يقوم به المذكر في صورة طبيعية وسوية، إذا جاز القول. غير أن هذا الأمر – وإن بدا تمييزياً في بعض نواحيه -، لا يختلف عن “تدبيرات” أخرى لجأ إليها الواضع اللغوي، مثل اعتماد أدوات مزيدة، مثل “سوف” و”السين”، لتحقيق الفعل المستقبل. هذا ما نتحقق منه في تأنيث الأسماء كذلك، إذ يحتاج اسم الفاعل إلى تاء كذلك لكي يصبح ممكن الوجود وقابلاً للتحقق.
العربية ليست مذكرة، وإن كان بعض تكويناتها يحتاج إلى تبين ومساءلة، بدليل أنها خصت المرأة بأدوات خاصة بالرجل وأخرى بالنساء، مثل الياء للمضارع المذكر والتاء – دائماً وأبداً – للمضارع المؤنث، وهو ما لا يتحقق على هذه الصورة “العادلة”، لو شئنا التمثيل والمقارنة، في الفرنسية والإنكليزية: فالفعل في صيغة المتكلم والمخاطب هو عينه للذكر كما للمؤنث.
إلا أن الأمر مختلف في استخدامات العربية، مثلما نلقاها سواء في المعاجم أو في الكتب السارية، الأدبية أو المدرسية. فلو فتحنا النبذات التعريفية لأي مدخل معجمي لوجدنا أن الأمثلة تحيل إلى صيغ المذكر وحدها، كما لو أنها الصيغ “الشرعية” أو “الطبيعية”. ولو فتحنا الكتب المدرسية لوجدنا صوراً عن المرأة تلحقها بأدوار تقليدية دوماً من دون غيرها، ولا تنقل صوراً أخرى عن أدوارها الجديدة والمتأكدة في الحياة العربية المعاصرة (“ماما تطبخ في البيت. بابا يعمل في المكتب”…). ولو أقبلنا على قراءة الكتب الأدبية لوجدنا غير كاتب عربي يسوق صيغاً تحضر فيها المرأة في صور تعكس إلحاقها به (“ارتمت بين أحضانه”، “أمسكها بيده ومشى”…)، وهو ما يحتاج إلى تبين أشد.
(مؤتمر بعنوان: “خصوصية الإبداع النسوي : قضية للنقاش”، عَمان، 23-26 آب 1997، منشور في أعمال المؤتمر، ص ص 103-118، منقحة ومزيدة).

https://www.charbeldagher.com/cd/index.php/nakd-eladab/dirasat-fi-aladab/253-2014-02-27-10-47-07