عالية ممدوح
1
في منتصف العام 1983، وبعد مضي أقل من عام على العيش في مدينة الرباط، كان اسم المرنيسي يواجهني كالحصة الغذائية الواجب وضعها في
سلة صيدي للرحلات التي كان علي القيام بها، وأنا أتقدم بين مكان وزمان وقامات وأسماء الطبقة الثقافية المغربية الباهرة ومن الجنسين. بعض تلك
الآراء كان يضعها في الأوج من الحفاوة، هي العائدة حديثاً من الولايات المتحدة بعد نيلها درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، والبعض كان يسكت وهو
يسمع توهج اسمها بين لساني. في حي – أكدال – الهادي كنا نتجاور ودون علمنا. اتصلت بها هاتفياً ولمرات، ولا أحد يجيب. فسألت الصديق الراحل
الأديب ورئيس تحرير العلم اليومية عبدالجبار السحيمي: ترى، كيف السبيل إلى عنوان المرنيسي؟ حالا قدت سيارتي إلى جهة بيتها. كتبت لها سطوراً
حميمية ووضعتها في صندوق بريد شكله أنيق ومصبوغ بلون حنيّ مفضل عندها، كبير ووحده وعليه اسمها ! في الموعد إياه وبعد أيام حين فتح باب
المصعد كان الطابق كله يفوح بأريج الصندل والمسك. فتحت هي الباب. كانت تشبه مخلوقا طالعاً آسراً ظهر للتو من كتب فاس وأسرارها، ما أن تمد
يداً حتى تتفتح التذكارات الصوفية فتدّوخ !. كانت زاهية من أول خصلة في شعرها المفروق المصفف كنجمات السينما في أربعينات القرن، خليط نادر
من الدفء الإنساني والرفعة الأنثوية والوقار المرح.
2
اليوم أنا معنية بها كصديقة غادرت، أما كتبها فقد كتبت عن بعضها ولهذه الصحيفة أيضا. اشتغلنا على حوار شائك، رفضت الموافقة على بعض
أسئلتي، فترددت في نشره، فقالت حين التقيتها آخر مرة في باريس: يا العراقية المجنونة، دعيه يتخمر لعل إحدانا تتغير! صالونها على الطراز المغربي
باذخ وأنيق. بدأت تخاطبني بالأنجليزية أولا. ظلت المحادثة هكذا وكأنها تحاول إبداع طريقة مغايرة للتعارف. بغتة، رفعت يدي وقلت بصوت فصيح:
أقسم أن عربيتي لا تعاني من سقم ما، أطلقت ضحكة مجلجلة وهي تجيب: هي لغتكم أنتم أهل المشرق صعيبة عليّ. هل تفهمين الدارجة المغربية؟
وأموت عليها، أجبتْ. كنت تلميذة مجهولة لتلك العالمة. حرصنا سويا على المرافقة إلى أكثر أمكنة المغرب هذيانا بالفتنة. رافقتها إلى أعياد البهجة
والجدبة في أكثر الساحات مجهولية لي، تجلس بجوارها رفقة من النساء المغربيات والعربيات، أو نقود كل بعربته حين يكون العدد كبيراً. تجيد
الإصغاء ككاهنة، أما إذا تحدثت فكانت تختطف القلب. تتذوق الكلمات العربية الفصحى التي نتفوه بها وتعيدها بطفولة ومتعة. متفتحة، فتصغي لأدق ما
يمكن أن تبوح به المرأة للمرأة. مكمن قوتها في الإرادة على الالتفاف عليك وأنت في حضرتها وكأنها تقول لك: أنت صاحب المكان وأنا الضيفة. كانت
متواضعة بصورة متفردة، بمعنى أن التواضع يتوغل فيها فيبدو هذا النعت ناقصاً.
3
كانت تبعث بالاطمئنان في النفس. صحيح تضع المسافة المطلوبة لأنها امرأة منتجة، فتردد دائما عند الاتصال لأخذ الموعد: كنخدم بالزاف، آني خدامة
من الوجه والقفا.
كانت تسيل المعاني والأفكار من كُم قفطانها المغربي الذي لا نظير له على جسد قوي رياضي مشدود وضخم. سافرنا سويا إلى احتفالات أصيلة
فأخذتني إلى بيت الفنان المدهش فريد بلكاهيه الذي رحل العام الماضي. كانت دارته تخلخل الفؤاد في سحرها. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى أسواق طنجة
وكان محمد شكري بانتظارنا. بقي الناس يخرجون من دكاكينهم للسلام أو الفرجة أو الاثنين معا. فتختار الأبهج من الألوان الذي يشي بالسعادة والشغف،
التفت صوبي قائلة: أنتي يا عراقية تعالي جربي هذا القفطان. حين جربته شعرت أنني ولادة وهي تتمشى في جنائن غرناطة. قالت: عليك به بدلا من
ثيابك وكأنك في ميدان معركة !!
4
كانت تقرأ سياسات المنطقة العربية في المشرق بعيداً عن سطوة اليافطات الثورية، فحبها لبلدها فلت من تعاريف الأيديولوجية المؤطرة. لا تعطي
الدروس ولا تضع بعض البشر داخل أقواس. كانت لديها محاضرة في أحد معارض باريس فدعتني. اضعتها ثم عثرت علي وسحبتني إليها فتصورنا
وتحدثنا معا. مفكرة حية بذاتها، بأسرار جسدها وتعقيد وبساطة المرأة، ومن خلال نفسها ذهبت إلى جميع الإناث. فأرادت أن تقدم، ودون مبالغة طبقاً،
هي الطاهية البارعة، يفتح الشهية من خبز الأولين الطيب وسحر الآخرين فيختلط شراب الجنة بالعشاء الأخير، ولا يكتمل إلا بالحب حتى لو كان
يائساً فقايضته بالحرية فقط.
السبت 23 صفر 1437 هـ – 05 ديسمبر 2015م – العدد 17330