الروائية والمفكرة الفرنسية هيلين سيكسو الحفر عميقاً في «بصمات الجذور»


عالية ممدوح
1
” إننا نمتلك تحت تصرفنا أعظم شيء في الكون، اللغة. إن ما يستطيع المرء أن يفعله باللغة.. اللامنتهي. وربما لهذا لا يكتب الكثيرون، لأن الكتابة
مرعبة، لأنها حالة من التجلي “. سطور من كتاب بصمات الجذور للشاعرة والفيلسوفة والمسرحية والناقدة والاكاديمية الفرنسية ذائعة الصيت هيلين
سيكسو. يطلقون عليها القابا شتى، لكن ربما اغناها: حارسة اللغة: “أعتقد بأن الكتاب الواعيين هم الحراس، ليس للجمهورية وحسب، انهم حراس لأجل
إثراء اللغة، لأجل حريتها ولعدم تغريبها أو الإبقاء على محافظتها”. في اطروحتها للدكتوراه المنشورة في العام 1968 تحت عنوان: منفى جميس
جويس. هي الكاتبة المنفية في فرنسا، قامت على فضح جويس العنيف للمناورات والتحليلات السياسية والايديولوجية “. قدمت هذه الكاتبة ذاتها عبر
نتاجها وكأنها طالعة للتو من تحت الأنقاض، هكذا شاهدتها أول مرة في العام 1996 في جامعة سانت دني، وفيما بعد دونتٌ مراحل الصداقة الثمينة
التي ربطتنا بدءا من مقدمتها عن النفتالين، إلى رواية المحبوبات المهداة إليها، وليس انتهاء بكتاب الأجنبية الأخير. كٌرمت بتعيينها في جامعة باريس
السابعة كاستاذة كرسي لقسم الأدب الأنكليزي. كتبت في النقد الأدبي، الفلسفة، الرواية، الشعر، السيرة والنصوص السينمائية، والمسرحية، حتى انها
دونت نص اوبرا، وقدمت بعض أهم الأسماء اللامعة من الفنانيين التشكيليين فأصدرت هذا العام كتاباً ساحراً حاشداً بالحوارات والرسائل المتابدلة
والتحليل الشعري لأعمال ولوحات وجداريات الفنان العالمي الجزائري عصام عبد الصمد، وبعد ان قدمته في معرضه الأخير ودعتنا، نحن مجموعة
من الأصدقاء من الكتاب والمفكرين والنقاد إلى محترفه الآسر من مارس هذا العام. في شهر أكتوبر من هذا العام 2014 فازت سيكسو بجائزتين
متتاليتين، الأولى جائزة اللغة الفرنسية وقدرها عشرة آلاف يورو وقد استحدثت منذ ثلاثين عاما وتمنح لشخصية أدبية، فنية، علمية تساهم في تجسيد
جمال اللغة الفرنسية. جرت المراسيم في مدينة بريف لاجابارد في مقاطعة كورسز الفرنسية. وهي تمنح عن طريق ترشيح مجموعة من الاكاديميين
الفرنسيين الذين يدركون : “إنها استهلت أسلوباً في كتابة السيرة الروائية أثّر في كتاب وفلاسفة ونقاد أدب”.


2
الجائزة الثانية باسم الكاتبة الملهمة مارغريت دوراس، وقدرها 15000 يورو، وذلك لتكريم عمل أدبي، مسرحي، سينمائي، وقد بدأت تمنح منذ العام
2009 لتكريم مجموع أعمال شخصية أدبية أو فنية. هذا العام منحت لكتاب سيكسو الجديد ” ماتت هومير ” وكان عن أمها، ايفا كلاين، اليهودية
الالمانية التي نجت من المحرقة. كانت تسمح لي بزيارتها ومشاهدة تلك الغيبوبات المتوالية فقد كان سنها 102 حين غادرت، وكأنها كانت تدربني
على مجالدة ألم من نحب ونفقد، على الغاء المسافة بيني وبين هذا الموت لجميع من غادر من أفراد عائلتي، فلم يبق لي الا كتابة حيواتهم كنشيد أخير
“فلا يمكن لشيخوخة شخص عزيز إلا ان تكون شيخوختنا نحن أيضا”. استوحت سيكسو من حياة أمها المنفية والتي كانت تعمل مولدة في الجزائر،
وجميع أفراد أسرتها كتبا وروايات شتى في منجزها الإبداعي. لقد أصيبت الأم بمرض جلدي نادر لا يصيب إلا الاشخاص في التسعين من العمر مما ”
أدى إلى عناية كانت هيلين تتولاها فكتبت: “سأكون هذا الجلد غداً. وحين أرسم أمي فإنني أرسم أيضا جلد العصر، جلد القرن العشرين الذي يبدو
عظيما عن بعد لكنه متواضع جداً”. الكتاب الفائز هو تكريم به الكثير من الفكاهة وتكرار الألم : “عندما ارهقتني أمي من فبراير إلى أيار صارخة في
كل لحظة “ساعديني، هيا ساعديني. كنت أرد عليها بحزم قائلة: اخبريني ما الذي استطيع ان اعمله لك، حالا سأعمله. كانت تجيب: “لا شيء” وهذا
الكتاب هو كل اللأشياء التي عملتها”. بعض الصداقات الكبيرة بين البشر، وصداقتنا هكذا، كانت وما زالت تفتح أمامي أسئلة كونية حول ثيمة الصداقة
غير المنجزة بعد، ليست هناك صداقة الا وهي في طور التأسيس والترميم، والتي تذكرني دائما ومعها بتواضع النبلاء الفرسان الذين يضيئون ما
حولهم وذواتهم، في التوجه سوياً الى النبش في فكرة الموت لدى الكائن البشري وفي جميع الاديان، وقراءة ذلك في وجه تلك الوالدة في جميع الزيارات
لها. فالموت مشروع فريد لتهيئة وتأثيت فعل الحياة ذاتها، فكنت اخرج من دارتها الانيقة وانا في طور نقاهة حتى لو جاءت متأخرة.
3
حصلت على جائزة بريكس ميدسيس المرموقة عن روايتها الأولى؛ “في الداخل” 1969 “وهي تمثل نصا سرديا ذاتيا كما يقترح عنوانهاعن موت
ابيها وتأثير امها وجدتها وعلاقتها مع اخيها”. تزوجت في أثناء اعدادها لاطروحتها، وانجبت ولدين وبنتا. احدهما كان معاقا فتوفي مبكراً. كتاب ”
ضحكة الميدوزا” الصادر عام 1976 دوى صيته شاهقا وفجر اسمها على الصعيد العالمي كمنظرة لمرحلة الرواد، ووصف بالعمل الملهم الفريد
والمؤثر. وجدت سيكسو رابطا “بين الكتابة والرغبة، الأحلام والطفولة والنشوة. وهي تطالب النساء بالتفكير في تاريخهن على نحو مختلف ليس
بمعنى الجذور، وانما بالاصطلاح اللغوي. لابد للنساء ان يخترعن تاريخاً آخر يكون خارج روايات السلطة واللامساواة والاضطهاد “. قدمت
والمخرجة العالمية اريان منوشكين من على مسرح الشمس الكارتوشوري والذي كان موقعاً عسكرياً فحولته المخرجة والفريق المتكون من الممثلين
ومن جميع الجنسيات الى علامة فارقة في المسرح الشعبي العالمي. قدم اعمالاً أحدثت نقلة مميزة في كتابات سيكسو ولاقت حفاوات جماهيرية ونقدية
باهرة. “فالمسرح وبوضوح امكانياته يبعث رسالة اخلاقية، سياسية أشد كثافة وأكثر فورية وتكثيفاً من النص الروائي”. يتسم اسلوبها بكونه ذا طابع ”
استعاري وبعد شعري فلسفي مكثف بحيث تبدو كتاباتها مثل غابة من النصوص يتعذر تصنيف خريطة لها”. انجزت أكثر من اربعين كتابا وما يزيد
على عشرات المجلدات من المقالات والمحاضرات والندوات. عندما نلتقي اقول لها: أشعر أنك مجموعة حيوات وعبر انجازاتك الفذة، فمن هي الأكثر
تجليا فيك؟ ترد مبتسمة:
“إنني امنح نفسي حق الشاعر، والا لما كانت لي جرأة أن اتكلم”
كانت صورها وجاك دريدا، والروائية البرازيلية كلاريس ليسبكتور الأكثر توزيعا على أرفف مكتبتها، وحين أقف محدقة مليا كانت تجيب قبل أن
أسأل: “هذه الروائية لها مكانة استثنائية ليسبكتور في فضاء مرجعياتي، أنها فريدة في نظري. أنا لا اقارنها بأحد. وهنالك شخص يملك مكانة فريدة
واستثنائية هو جاك دريدا. فمن أول لقاء معه كانت المحادثة ذات طابع أدبي وفلسفي جرت فيما بيننا في سنة 1963 في مقهى بالزار وهكذا ظلت
وإلى الأبد. أحسست مثل ضرب من المعجزة “.
***
في روايتها: “الحب ذاته في صندوق البريد: تكتب؛ ما من شيء أكثر حميمية من الحب، من المكان الذي يحتضنه. لكن ماذا نفعل بالحب؟ أنه بالتأكيد،
سؤال حياة أو موت. لكنه سؤال كوني. وهو السؤال الذي يلاحقنا أينما اتجهنا، ويغلف المشهد بأكمله”. الطريف والمحزن ان ميلادها يصادف يوم
الخامس من حزيران. قلت لها: هذا أسوأ يوم في تاريج جيلي والاجيال اللاحقة بهزيمة العرب امام الدولة العبرية. ردت ضاحكة:
دعينا من الارقام والمناسبات فالصداقات الجميلة بين البشر هي التي تصنع السنين، وتثري الأيام…

http://www.alriyadh.com/1005289