نبعث على الحسد، نحن

عالية ممدوح
– 1 –
لا شيء نافعاً في الحروب، لا السكوت ولا الكلام الماسخ، ولا الارغام على سماع الخطب التي تخشبت وصارت لا تطاق. القشعريرة، والرعدة وكل هذه الابادات الفاجرة وما علينا الا التحدث وبدون انفعال أو شطط، علينا ان نحاول كيف نتعلم ذلك، الكتابة عن الحرب، حروبنا كلها، الحرب على بلدي العراق، الحرب على لبنان، الحروب المستمية على ما بقي من فلسطين، علينا ان نستدل على سبل أخرى للكتابة والمحاسبة والاحتجاج، علينا ألا نستحي مما يثمر بصورة يانعة جدا في

داخلنا، مما نشعر به من الحقد والبغض والحالة الطبيعية لمبدأي الانتقام والثأرية من الولايات المتحدة والدولة العبرية. الآن، هذه هي الظاهرة الإنسانية، بمعنى، هي حالة لا تستيقظ فينا فجأة، هي موجودة وما علينا اليوم الا تلميعها واستقبالها لنتقوى بها على ما بقي لنا من شهور أو سنين أو ساعات فقط. هنا لا أجدني الا وأنا أنظم خطوط حروبنا منذ الوعي الأبيض كمراهقة حتى شقاء الذاكرة بوعي مسخم، ما ان تحدث تلك الحرب، لا أذكر رقمها بالطبع لا الأولى ولا الثانية الكونيتين فلم أولد وقتذاك، لكن كنا نسمع إطلاقات نار وأحدهم يقول لنا هيا لا تتحركوا، لكننا نتحرك من فوق السياج لكي نشاهد حروبنا نحن العراقيين بالدرجة الأولى. ننظر إلى خلف ولا نقدر على الاستدارة إلى أمام. لم يكن الغد دائما في متناول أيدينا. جدتي تقول: غدا تأخذين الشهادة الجامعية وتصيرين كذا وكذا. تبتدع الجدة اساليبها في الدعاء، لا أعرف من أين كانت تجلب تلك الادعية والصلوات وهي تنفخها في الهواء مباركة بها للملك العراقي الصغير الذي كانت تسميه المظلوم. صلواتها كانت خلابة لكنها بلا نفع، قتل ذلك الشاب الجميل، ملك العراق فيصل الثاني. كان لطيفا ووسيما يشبه من سوف أحبه في إحدى السنين.
– 2-
منذ الثمانية وخمسين والحوض العراقي يغص بالجثث، لكن الاحواض العربية لا تفتأ هي أيضا تغرق بالدم. يمكن، كنت أقول لنفسي، نحن شعوب تفضل الألوان البراقة، رواسب الاحمر والرماني والشوندري والارجواني الفاقع من تيبس الدم وتحجر القلوب. حرب ال 56 كنا صغارا جدا وكانت لنا لكنة قومية ولثغة ناصرية. كنا نعمل جهدنا ان يكون لنا منجد أو معجم يحتوى على كلمات نارية تشبه لون الزعفران الذي أحب لونه في طبخ الأرز بالدجاج. وكان أحمد سعيد موجودا أيضا، جدتي لم تحبه، كانت أرقى منا فكريا بالطبع، تقول عنه، هو يصرخ ويحكي كثيرا وأنا لا أحب الثرثارين. هتاف يصل عنان السماء، ضد اسرائيل، هه، وبلا أقواس، وعبد الناصر يغيّر عقارب الساعات العربية، على الزمن القومي، طوى العبيد ثيابهم الكالحة ورددوا وراءه: أرفع رأسك يا أخي.
-3 –
والدي لا يحب رواية القصص لكنه أيضا لا يحب عبد الناصر عكس جدتي، أما عمتي فقد كانت تفضل كل المعارك التي تتم تحت الأرض فهي أسلم. تقاربنا أنا وهي في العام 1967. قالت، سوف اطفىء الشموع أنت تتداعين ولديك امتحانات البكلوريا، ألم تشاهدي النجوم بالسماء وأنت تدرسين بالسطح العالي ؟ أجبتها، بلى، كان عدد القتلى والشهداء والضحايا من كل البلاد التي خاضت الحرب أكثر من نجوم السماء العراقية التي كانت وقتذاك صافية جدا، ونحن، كلنا، طلبة الثانويات والجامعات كنا في المقدمة نقود تظاهرة وتقودنا أحزاب البعث والاستقلال والحزب الشيوعي العراقي. كانت هزيمة السبعة وستين فياضة واثقة تزداد عمقا وعرضا، دخلت حجرات الأطفال وكبّرتهم حالا فشاهدنا الشيب يغطي الرؤوس والجبهات تتغضن. لم ينج أحد من تلك الهزيمة وإلى كتابة هذه الكلمات. مازالت تستلقي بين صدورنا وتفرش لنا ممرات العمر الذي أنتهك بالقهر والاذلال الشديدين.
– 4-
حرب ال ثلاثة وسبعين كانت حالة ملحة بعد الاستنزاف وموت ذاك القائد وحضور السيد الذي أقسم ان يزور القدس حتى لو تداعت – هذه – التي تسمي نفسها – الأمة المجيدة. أضيئت الأنوار وعبر الجيش المصري كأمهر العابرين إلى الضفة الأخرى وفغرنا أفواهنا من ذاك العبور وابتدعنا كلمات وعبارات جديدة، لكن، تلك الثغرة المهيبة لم تبعث فينا الفخار… الخ . كان نصرا ملتبسا وبه من سوء فهم لا أدري ماذا يسمونه في علم السياسة، لكني اعرف ان سوء الفهم هو سبب كوارث الكون والبشرية والعشاق أيضا. الآن نسيت ماذا حدث بعد ذلك، هي حفنة سنين، ترى، ماذا بعد ان نفرّغ صناديق الارواح والذاكرات سوف نصل إلى اجتياج بيروت واحتلال أول عاصمة عربية، بعدها صار احتلال العراق خارج جميع الهزائم العربية التي تمتد على مد النظر كما يقول وديع الصافي. وقتها كنت بباريس، بعدما تركت بلدي في ذات العام وذات الشهر، حزيران/يونيو 1982 وإلى اليوم .كنت وابني ووحدنا والأرض تحت قدمي هشة ومهزوزة. لا شيء صلباً في باطني الا أنا وكان رئيس تحرير جريدة «الرياض» قد لبى النداء، ندائي. وإذن، هي حربي هذه المرة لكن حروبنا وحروبهم مازالت تلاحقنا.
– 5 –
نشاهد جثثا تتطاير من العمارات والشقق في احتلال أول عاصمة عربية – بيروت – . هناك تجانس بين اللاعبين، شارون ومن سيفتك بهم في صبرا وشاتيلا. كنت قررت ألا اكتب عن حروبنا، فدائما لدينا غصة، ودائما لدينا حرب ودائما لدينا نصر مبرمج وخسارات تسبب الضجر من اسرافها الشديد. لماذا ومنذ وعيت وإلى اليوم وأنا في هذه السن أفغر فمي وكأنني على وشك الموت مرددة ؛ أجل لا يعقل هذا الذي يحدث، القصص إياها، والدولة العبرية. وعيت أنا وهي هي وهذا النزيف قبل تناول الفطور وبعد الذهاب إلى المقبرة. أجل نستتنكر أشد الاستنكار، صرنا شعوبا مستنكرة فقط، نوقع نبصم نشجب نزدري نشمئز نتوجع، نموت ألما، والمواضيع ذاتها فلسطين، وفلسطين تتعرج في طريقها إلى العراق، وما أن تصل حتى يصير العراق ماضيا ثم ندخل لبنان من قبيل اكتمال البيعة . بلدي لا تكفيه الصلوات ولا موسيقى القرب ولا معارض صور الهولوكست العراقي (الفلسطيني) اللبناني ولا معلقات العرب الأولى. بلدي تحول إلى شيء قبيح بغيض وبشع، مطّين، موحل محظور علينا الاطلالة عليه حتى. مواضيع تفتح على بعضها لاكتمال الذل والعسف. أجل، هو الاحتلال لكن هذا يجاوره التعصب والضغائن والطوائف وملوكها وكل شيء يضحك علينا.
٭٭٭
وددت لو كتبت موضوعا عن اللاحرب، عن موطني العراق وهو يجلس وحيدا في ظهره صواريخ الامريكان ومن أمامه اللصوص والعملاء والجواسيس. وذاك لبنان الذي يقطع لحمه كما هو لحم السيد المسيح وسيدنا الحسين. تعبت، تعبنا من الحروب، منذ اليفاعة وحتى اليوم أسمع بيانات المقاتلين وأشرب قهوة الصباح المرة، أتلو صلواتي لكي يمنحنا النصر في وجبة العشاء.
لا أستطيع الاسترسال في سرد القصص فالذي يحدث في لبنان وفلسطين والعراق يمسك بسلاميات يدي قائلا، كفى، يكفي، حروبنا تبعث على الحسد، اننا نُحسد، محسودون على ما نحن عليه من خصوبة حربية وهي كثيرة حسبما أظن، أليس كذلك؟
الخميس 23 رجب 1427هـ – 17 أغسطس 2006م – العدد 13933

http://www.alriyadh.com/179598