المسافة كلما ينأى العراق كلما أني أقترب، كلما أغادر مكان يبدأ الوطن، عندما أغادر الوطن يبدأ العراق. وكأن العراق جمرة موجودة في كبدي، إذا بقت احترقت، وإذا.. دفعتها برة فيه آثار تدل عليها: نخلة، غابة من النخيل، صوت السَّيَّاب، الرافدين. صورة العراق مخيطة عندي بهذه القامة البهيّة النديّة اللي أيضاً الأميركان بكل دناءتهم حاولوا أن يصرموها.. يصرمون النخيل من.. من الجذور، كما يفعلون الآن الإسرائيليين مع الزيتون.. أشجار الزيتون، يبدو إنه الأشجار دائماً تعادل البشر، فلما لا نستطيع أن نجتث البشر علينا أن نجتث الأشجار.
لم أستسلم للغربة، استسلمت.. لعراقيتي، هناك مدن ممكن تسبب لك جنون أو انتحار أو.. بلدي سبب لي غرام مقيم. غادرت العراق وسحبته إليَّ، يعني هو.. هو أنا فعلاً جغرافياً بعيدة عنه، لكن لم يزل دجلة الأبيض البهي الذي لا نرى حدوده، هو ونخيله وعلاقاته والسمك اللي يتلاطم والكبير اللي.. تشيليه توقعين فعلاقة فيها التباس وفيها تناقض وفيها إرباك. قد إيش تحبين العراق، قد إيش بتسبيه قد إيش بتشتميه، من شدة غرامك بدك تسبيه بدك تشتميه، ليش.. لماذا أنا هنا؟
يعني أنا يومياً أسأل نفسي هذا السؤال: ليش أنا هنا؟ أنا عندي أجوبة ولا أملك الجواب، يعني عندي أجوبة بس مو هي هاي الأجوبة، يعني هي.. هي أجوبة مراوغة، هي أجوبة احتال بها على حالي، احتال بها حتى أكتب لواقع يوازي.. يوازي العراق، هل كتبت العراق
مثل، لا.. لأن الواقع ما بيسوى فرانك، بدك تكتبي بتخليك أنتِ، وأي التباس بينك وبين المدن مهم للفنان. بس أنا أعتقد بعض القادة العرب يعتقدون إنه الأوطان أهم من الأبناء.. من المواطنين، لأ هذا الكلام أولاً غير صحيح.. الوطن.. الوطن ليست.. ليس هو معمار أو شبكة مواصلات أو.. الوطن هو إحنا.. إحنا بكل.. والأوطان ليست معصومة من الخطأ إطلاقاً، الأوطان تخطئ وتهلك وتقتل وتدمر، ونغرم بها ونقبلها على.. نقبلها بس مفروض.. مفروض نحلل استبدادها، نحلل قداستها، ما لازم نسقط تحت فخ إنه هي مقدسة ويجب أن نغفر لها كل..
المعلقة:
والأهل، عالية ممدوح، هل أصبحوا هم أيضاً سكان ذلك الوطن الافتراضي، أم بقوا مواطني وَهْم الطفولة الجميل؟ أنتِ التي كتبت عنهم تقولين: “كل الذين أحببتهم تركوني، كل ذلك الوقت الذي لا ذنب لكَ فيه إلا أنه مر بسرعة وثاب إلى رشده، وقال: إلى هنا فقط لا تجيؤوا ورائي ولا تلحقوا بي”.
عالية ممدوح
عالية ممدوح:
أذكر من طفولتي بأيدي الحجارة وأركض ورا الناس، أريد أضرب أحد، كل واحد كان يتوعدني أو يتوعد كمية التمرد والشقاوة والوقاحة، الوقاحة بالمعنى العدواني، كانت بأيدي الحجارة وأركض وراه.
علاقاتي بوالدي كانت علاقة فعلاً مربكة، هو كان إنسان طيب جداً وعُصابي، وهذا الكلام سيثير حفيظة إخوتي في.. في بغداد فيما إذا سمعوا هذا الكلام، بس كان طيب إلى حد كبير، وكان محافظ لأنه كان معاون شرطة، فكان.. فكانت ملابسه الرسمية.. يعني المهنية كانت تلعب دور في إقلاق راحتنا، فكل.. كل هيمنته تأتي ليس من شخصه، ولكن من سلاحه فهو شخص يعني.. التباس في العلاقة استمر كجزء من التباس بالعلاقة مع الآخر، اللي هو ليس بالضرورة الرجال، العلاقة بـ.. مع النساء كانت أشرس وأعنف.. ليس هذا ليس صحيحاً إنه إحنا علاقاتنا مع الآباء أو مع الرجل هي أخطر من العلاقة مع النساء، لأ.. النساء كانوا القوة المهيمنة والمسيطرة و.. و الجبارة، كانت.. كانت جدتي امرأة جبارة، يعني كانت شبه طاغية بسيطرتها.. علينا. فطفولة بها المعنى وجدة تقرأ الكتاب المقدس.. القرآن الكريم وتقرا الصلوات وتنفخ.. تنفخ علينا حتى يحمينا من الشيطان، هي لا تدري إننا إحنا الشياطين يعني بمعنى من المعاني.
عندما أتحدث عن العراق الآن يخطر ببالي إخوتي وجدتي، إخوتي اللي صار لي سنوات لم أرهم، الآن طبعاً كبروا ونتراسل أو نتهاتف بالتليفون، وجدتي التي تعادل.. يعني هي تعادل العراق، يعني عندما أتحدث عن العراق أو أن أتحدث عن الأهل أملك خزان من الأشواق، وأخاف أن لا أحد يستحقها، وهنا أقسى شيء ممكن أن تشتاقين كثير ناس بس تتصورين ما حد يستحقها، لأنه أنتِ لم تعودي حية أمامهم.
العالم في العراق تغيَّر، أنا لا أريد أن أرى هذا العراق المتغير، فأخشى على أشواقي الكبيرة أن لا أحد يستحقها من الذين بقوا، لأني لا أعرفهم الآن. أنا أفترض فرضيات وأتحايل على أشواقي أن أتمنى ما زال هناك أناس من أهلي وأصحابي يستحقون هذه الأشواق.
أنا أتحدث عن عراقي أنا، عراق الستينات أو عراق السبعينات أو عراق.. عراق الفردوس المتخيل بالنسبة إليَّ، فأكيد ما راح أتحدث عن العراق الحالي، هأتحدث عن العراق الـ.. أيضاً.. الافتراضي، اللي أنتجت له ثلاثة روايات هي تستطيعين تقولين عليها “ثلاثية”، هي كلها.. كلها العراق.
المعلقة:
والكتابة، عالية ممدوح، كيف افترسها كل هذا العنف، فشقق ثيابها وجعلها جملاً تدوِّي وترعد وتعوي كسماء مثقلة أو كذئب جريح؟
عالية ممدوح:
أنا كاتبة.. من خلال قراءات الآخرين عن شغلي مازال العنف حاضراً، لأني أعتقد.. لأن مازالت أكتب عن العراق، العراق مدجَّج بالعنف.
أنا أعتقد العنف هو رد على الحياء، العنف الذي مسجل في.. أو مدون في شغلي، في رواياتي تحول إلى عنف موجود بعد مازال موجود العنف، لكن تهذب، أخذ أشكال أخرى من.. يعني صار أكثر رصانة، صار أكثر عقلاً.. عقلانية، لكن بعده لدينا كمية خطيرة من العنف إذا لم نستطع أن نوجهها إلى الخارج فيبج أن توجه إلى الداخل.. هذا الداخل.. يطلع بطرق معينة: رقص عنيف، غناء موجع بشجن تراجيدي لا مثيل له، شعر خطير أيضاً مهم جداً عل كل.. على كل تاريخ العراق الشعري، فيبدو لي إنه الموقف.. الوقف الأخلاقي –كحياء و ليس الخجل كمرض “فسْلجي”- هو موقف أخلاقي. هذا العراق اللي أنا أعرفه، هاي الأصحاب العراقيين
أتحدث عنهم عن عراقي.
المعلقة:
غادرت عالية ممدوح سماء العراق طائراً يهاجر من مكان إلى آخر، إلى أن حط به الرحال في باريس، فهل وجدت مستقراً لها هنهنا، أم أنها محطة أخرى مؤقتة على درب هجرتها الطويل؟
عالية ممدوح:
باري هي آخر.. آخر الأمكنة إلى حد الآن. لا أدري ماذا.. يعني سيحدث بعد خمسة دقائق مثلا، بس إلى حد اللحظة باريس هي مكان جميل، لا أسميه منفى، يبدو إنه المنافي قد تحتاج بعض الوجاهة أو مساحة من البطولة أني لا أملكها. بس حتى هذا المكان.. أو البقعة اللي نصور فيها الآن هي بقعة أيضاً افتراضية، لأن البيت ليس بيتي، هو بيت إحدى الصديقات غادرت وأعارتني إياه. وكلما أطلع على السِّين تبدو لي.. يبدو لي السين نهر محايد صغير، حتى أسماكه صغيرة وما مُشبِعة، حتى عشاقه أشوفهم نحيفين، لا شيء يشبه العشق العراقي، غرام العراقيين اللي يكسر الضلع هنانا الغرام خفيف وبرَّاني، فباريس بالنسبة إليَّ مكان أيضاً افتراضي، إلى حد الآن مكان أيضاً افتراضي، إلى حد الآن لم أحدد علاقتي فيها، لم تأخذ شكلاً نهائياً.
باريس مدينة كأنه أصحابها خيوطها بالدانتيل، وهي مدينة لم تسحقني، فيه مدن تسحق البني آدم، تستطعين القول إنه أنا في.. في الهامش وفي القلب، هي مدينة تسمح لكِ أن تكوني على الهامش وتسمح لك أن تندمجي إلى آخر خصلة في شَعرك.
باريس مدينة تشبه المعزوفة الموسيقية، لها حدود.. يعني بصرياً وجمالياً ومعمارياً ترين حدود هذا الجمال، إنه أني أمشي تقريباً يومياً ساعة ساعتين، كل شيء في هذه المدينة يستوقفني يعني المعمار معمار بالدرجة الأولى، تدريب ذوقي على رؤية الأشياء مجدداً، فيه هناك بديهيات في البصر، هذه المدينة تعيد تربية بصرك، تعيد تربية معارفك، يعني الفاترينة اللي تشوفها اليوم بعد 10 أيام تتغير، المحلات.. الأثاث تتغير.
أنا في حالة تعلم معرفي لا نهاية لها، وهي مدينة لا تعاديك، هي فاتحة ذراعيها إنها تعلمك، بدون أن تصفعك تقول لك أقف بدي أعلمك، لأ.. هذه مدينة تعلمك وهي تغني، يعني أنا لا أحب أن يفهم من كلامي هذا الغرام بالمدينة، ولكن أنا مغرمة في باريس.
المعلقة:
عالية ممدوح.. كيف تمتلكين مفاتيح مدينة تعاندين لغتها أو تعاندكِ هي وتمنع عليكِ؟
عالية ممدوح
عالية ممدوح:
أي وضع مخلخل ما يخليكِ تذهبين إلى الأقصى في الأشياء اللغة علاقات متينة مع الأشياء.
كل عشرة سنوات كنت أحاول أن أندمج في بلد وأفشل، كما فشلت في تعلُّم الفرنسية، حاولت وفشلت، حاولت وفشلت، لكن أدبرِّ حالي في الشتيمة الفرنسية، أدبر حالي مع البوليس، أدبر حالي مع المستشفيات، أدبر حالي.. أسمع الأخبار، بس فيه عجز نفسي للتواصل.. الـ dialogue بينك وبين الآخر. البلدية تدفع رسوم جد زهيدة أن تتعلمين الفرنسية، بس الكسل الوجودي اللي عندي والـ.. العمر.. الشيخوخة اللي أنا فيها الآن ما تسمح لي.. ما تسمح لي أتعلم تعلم اللغة.. اللغة مثل الحبيب، يجب أن تذهبي معه إلى آخر الشوط، فليس.. يعني.. الحبيب لا يقبل أن يشارك معه لغة ثانية. اللطيف بالموضوع إنه لغتي العربية تحسنت كثيراً في فرنسا، أخذت مسار طويل من الـ.. من الترميم، من التعدي، ومن الرشاقة، فيبدو حتى المنافي تهذب وتطور قاموسك اللغوي.
المعلقة:
والآخر يا عالية هل لعب دور مرآة أعادت إليك صورتك بوضوح، أم أنه شوه ملامحك رامياً عليها غلالة التمييز العنصري؟
عالية ممدوح:
الآخر هو ذروة الاختلاف، وكل اختلاف هو حرية، هو.. استنفار لقدراتي الفكرية والعقلية والنفسية لقبولك لاستنهاض شغلات في دماغي في مخي لحوار معكِ، أيّ حوار معك.. أنت (س) من الآخر، فرنسية أو غربية أو طليانية أو إيرانية أو غيره، هذا استنهاض لذاكرتي، لمعارفي، لحدود إنسانيتي، لحدود بشاشتي الإنسانية والبشرية. فأعتقد كلما يتضاعف هذا كلما تزيد مساحة الحرية من حولنا أي صدام مع الآخر تطلع عروبتي، عملياً الفرنسي لم أر منه –أنا شخصياً- أي جو أو ملمح عنصري شخصي فيزيائي Physically.. أبداً إليَّ أنا شخصياً، لكن هذا ظهر مع ابني، ابني أسمر، عيون سود، شعر أسود، دائماً عليه علامة استفهام. كمناخ يُشم منه العنصرية.. نعم، أنا لأ.. يعني أنا عندما ضُرب العراق نزلت
سيدة تُدعى “دانييل” من الطابق السادس طرقت الباب عليّ، قالت لي: “عالية.. أنا مستعدة أن أحميك في قريتي، أخاف الفرنسيين ممكن أن يؤذوكِ”. هذا لن أنساه هذا الموقف وهي مجرد جارة.
المعلقة:
ومياه الزمن –عالية ممدوح- في اتجاه أي مستقبل تروح اليوم؟ هل تجري في روحك على هدأة، أم أنها مازالت تعتكر بوحول الذاكرة والحنين إلى ماضٍ بعيد؟
عالية ممدوح:
ما أشوف لبعيد إلا من خلال الكتابة، يعني إنه خطواتي القادمة كمشاريع كتابية، كلما نتقدم بالعمر ينتهي الـ.. يعني أنا أحكي لك عن تجربتي، ما فيه مستقبل كثير، يعني اللي راح أكثر من اللي جاي، لذلك المستقبل الوحيد هو: كم أنتج؟ كم أتحايل على المستقبل؟
نعيش في الماضي ونعيش في الذاكرة، رغم إنه الذاكرة خائنة، ورغم إنها تجري في مياه الغير، وممكن يدخلوا لها أوشاب و.. وحشرات وشغلات، بس تعيشين في ذاكرة عجيبة هي هذه اللي تشكل جزء من عندها مستقبل، يعني أنتِ تخططين من ها الذاكرة اللي فيها ماضي وفيها الغير.. كل الغير.. كل الأكوان، لأن أنت.. أنت فنانة، أنت كاتبة، أنت.. تشتغلين على الذاكرة، فأنت.. ممكن تجلبين كل ما ممكن إلك، هو يعود.. هو المستقبل. يعني مستقبل عملياً بالأجندة أنا لا أملك هذا، يعني أنا يوم بيومه، يوم فيوْم، يوماً بعد آخر.
الغريب إنه أتذكر.. أتذكر إنه أنا كنت صبية، يعني إنه أنا كان عمري عشرين أو خمسة وعشرين كأنها القيلولة، مرت كقيلولة، الشيخوخة اللي بدي أعيشها.. أعيشها و ألعبها، يعني ندخل أنا وإياها داخلة بلعبة،أنا.. أناغيها، أداعبها، أستقبلها بلا مبالاة.. فيه عندي درجة من الهزؤ معاها، بس هي طويلة، يعني العمر هنا مضروب بعشرة هناك، ها الكمية من المعارف، كمية من الأشياء التي لا تنتهي، اليوم أتمنى أن يكون أكثر من 365 ساعة، بعدد أيام السنين، لا تنتهي، يعني لا.. أنا أشتري الكتب أقول: عندي كتب، يعني عندي وقت راح أقرأ، عندي زمن قادم سيحضر، لكن.. دائماً أنتِ محكومة بـ.. بوقت محدد، يعني لما.. محكومة بالموت.
أني يومياً أحتال على الموت، أحتال عليه بالكتابة، أحتال عليه إنه بالمكياج، أحتال عليه بالأزياء، أحتال عليه بالمشي، أحتال عليه بالحب الغير.. الذي لم يتحقق، يعني كلها هي حيلة، يعني هي نفس لعبة الدنيا هي حيلة نحتال فيها على صديقنا الجميل.. هو الموت.
أنا ما عندي.. ما عندي.. ما عندي إشكالية إطلاقاً، يعني كلما أنام بالليل.. من.. أصِّبح ثاني يوم.. عجيب شو ما ماتت لسّه؟! يعني شيء غريب.
أتصور إني عشت كثيراً وعشت طويلاً.