تمنح الكاتبة العراقية المرموقة عالية ممدوح نصها الجديد (الأجنبية)،(1)
وهو كتابها الثاني عشر، عنوانا فرعيا جديدا هو الآخر على الكتابة العربية؛ ألا وهو «بيوت روائية». وهو عنوان يطرح على القارئ قضايا التلقي. وهل هو بإزاء رواية أم نوع آخر من النصوص السردية التي امتاحت حدود الأجناس الأدبية؟ كما يطرح على الناقد مسألة الجانب التجنيسي للنص الواعي جدا بنصيته، كما سنرى. فهو نص ينشد التفرد، حيث لا يريد بأي حال من الأحوال أن يعامله القارئ، ناهيك عن الناقد، على أنه رواية، ولا يريد بوعي نصي معلن أن يكون سيرة. إذ تقول كاتبته: «لا أميل لأي عنوان تدخل فيه كلمة السيرة.
فهذه كلمة ما أن أسمعها تنطق من فلان أو غيره، حتى أصغي لنوع من الصفير يتجمع في قاعات مغلقة، ومن هناك يبدأ التغامز». (ص20) وهو التغامز الذي تولده عادة الرغبة في تبرير الذات ناهيك عن تمجيدها أو تصفية حساباتها مع الآخرين. فقد طال كتب السيرة في أدبنا الحديث شيء من تأثير السير والملاحم العربية باعتبارها سجلا لبطولات حقيقية أو مختلقة.
عتبة النص وإشكاليات التجنيس:
ومع ذلك فإن في كتاب عالية ممدوح من ملامح السيرة الذاتية، بمفهومها الغربي لا العربي، هذا الجانب التوثيقي الذي يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية دون مواربة أو أقنعة، سواء أكانوا أشخاصا أو أماكن أو أحداثا. وهو هنا ينهض على حجر الزاوية الذي يعتمد عليه فن السيرة، والسيرة الذاتية خاصة، وهو الإحالة الواضحة على الشخصية موضوع السرد، وليس على أي نوع من أنواع الاستعارة أو التلميح. وفيه أيضا منها التماهي بين الذات الكاتبة والمكتوبة، وتلك الرغبة في فحص أدق تفاصيل الذات وتمحيصها. وتلك الأريحية مع الآخرين، والتي لا تعادلها إلا الصرامة مع النفس. والواقع أن الصرامة مع النفس تلك هي التي دفعت المفكر الألماني الكبير ولهيلم ديلثي Wilhelm Dilthey لأن يصف السيرة الذاتية بأنها «أرقى أشكال بلورة فقه الحياة، ونقلها إلينا».(2)
وهو الأمر الذي يكرره أحد أبرز كتاب عصرنا الكبار، وهو ج م كوتسيا، ولكن بصورة أخرى حينما يقول: «إن مشكلة الاعترافات العلمانية، غير الدينية تمييزا لها عن الاعترافات أمام القس في الكنيسة، سواء في السرد أو حتى في السيرة الذاتية، تكمن في كيف يواجه الكاتب أو حتى كيف يتهرب من مشكلة كيف يعرف الحقيقة حول الذات، بدون الوقوع في خداع الذات، وكيف ينهي الاعتراف بنفس الروح التي تماثل في العلمانية، ما يعادل التطهر الديني الناجم عن الاعتراف الكنسي. لأن تحول الاعتراف من طبيعته الدينية إلى المجال العلماني يحتم قدرا من التحلل من طبيعة الاعتراف الدينية، لتنقله إلى المجال العلماني. ويمكننا هنا التمييز بين نوع من السيرة الذاتية التي يمكن أن ندعوها بالاعترافية، عن تلك التي تستخدم المذكرات، أو تسعى إلى تبرير الذات والاعتذار عنها، بناء على الدوافع المضمرة للكشف عن جوهر الحقيقة الكاملة عن الذات. فهي شكل مارسه مونتاني في بعض كتاباته، ولكن تحددت قواعده في اعترافات جان جاك روسو.»(3)
ونحن هنا في (الأجنبية) بإزاء كتابة تأملية تحليلية، أكثر منها سردية روائية من النوع الذي عودتنا عليه عالية. فلسنا هنا بإزاء رواية تكتب فيها ذاتها سرديا – كما فعلت في أكثر من نص – وهي تحيطها بأسرتها (النفتالين) أو بذوات أخرى من الصديقات (المحبوبات) أو حتى من رفاق رحلة العمر المؤسية في (الولع) أو (الغلامة). وليست قصة (غرام براجماتي) تسبر فيها أغوار حالة غرام وجودية لمغتربين عراقيين وهي تتأمل ذاتها، وتنفض عنها تواريخها، وإن كانت (غرام براجماتي) هي التمهيد الضروري لـ(الأجنبية). ولكنها كما سنرى سيرة ذاتية من طراز فريد على الأدب العربي، تتسم بصراحة مع النفس إلى حد الوجع، وبصرامة مع الوقائع إلى حد القسوة.
وهذه الصرامة من أهم خصائص الكتابة السيرذاتية التي تقوم فيها «الذات الراوية لقصتها أثناء فعل الكتابة بدور الذات المراقِبة المتفحصة، وموضوع البحث والتذكر والتأمل في آن. وهذا يستدعي التعامل مع السرد باعتباره هدفا متحركا على الدوام، أو مجموعة من الممارسات ذات المرجعية الذاتية المتحولة التي في تعاملها مع الماضي تتأمل الواقع والهوية».(4) ويوشك هذا التعريف للسيرة الذاتية الغربية أن ينطبق كثيرا على ما تقوم به عالية ممدوح في كتابها هذا. فنحن بإزاء ذات راوية لا تتخلى أبدا عن مراقبة ذاتها ومساءلة دوافعها، ولا عن تمحيص الواقع وتأمل الماضي، والوعي في الوقت نفسه بطبيعة السرد المتحركة والمتحولة معا. فالكتاب نفسه ليس إلا دليلا على هذا الوعي لدى الكاتبة، خاصة إذا ما ربطناه بمسيرتها السردية التي تشكل، في مستوى من مستويات تأملها النقدي، حفرا مستمرا في طبيعة السرد المتحولة. وهو كما يقول أحد أبرز منظري السيرة الذاتية في الأدب، فيليب ليجيون Philippe Lejeune سرد مستعاد، تفعل فيه الذاكرة والذات المتأملة فعلهما. حيث يعرّف السيرة الذاتية بأنها «سرد نثري مستعاد يكتبه إنسان حقيقي عن تجربته الخاصة، ويركز فيه على حياته الفردية، وقصة تكوين شخصيته».(5)
وتتقاطع السيرة الذاتية مع الكثير من الأجناس الأدبية الأخرى؛ لكن ما يميزها هو توفر كل هذه العناصر الأربعة مجتمعة فيها: سرد نثري، عن حياة فردية أو قصة تكوين شخصية، يتوحد فيه الكاتب مع الراوي و/ أو الشخصية الرئيسية، وهو سرد مستعاد يتماهى فيه الراوي/ السارد مع الشخصية الأساسية. بينما يتوفر أحدها أو أكثر وليست مجتمعة في أجناس أخرى مثل المذكرات واليوميات والرواية الشخصية والسيرة والصورة الشخصية وقصيدة الحياة الذاتية أو حتى المقالة. وإذا ما طبقنا هذه الشروط الأربعة على نص عالية ممدوح سنجد أنها جميعها حاضرة فيه. فنحن بإزاء سرد مكتوب بضمير المتكلم، ومن النوع الذي يدعوه جيرار جينيت بالبوح Autodiegetic أي سرد الذات أو بوحها لذاتها أو عنها، والذي يتوحد فيه الراوي مع الشخصية الأساسية من حيث الصوت السردي، فالسارد/ الكاتب/ الشخصية هي كلها لنفس الشخص. وليس من سرد ضمير المتكلم المشابه له والمختلف عنه، والذي يوظفه الروائيون كثيرا في رواياتهم، ويدعوه جينيت بسرد التشابه أو المحاكاة Homodiegetic حيث لا يتماهى فيه الراوي بضمير المتكلم مع الشخصية الرئيسية/ وإنما يحاكيها بتبني صوتها.
ونص عالية ممدوح بأكمله سرد مستعاد ينطلق منذ منتصف التسعينيات، لحظة استثارة هواجس الخوف القديمة كلها حينما تلقت استدعاء من السفارة العراقية. ويتواصل قدما في زمن ما جرى بعد هذا الاستدعاء، ثم يتراجع في الزمن إلى أبعد كثيرا من نقطة البداية، وإلى بيت النشأة القديم في الأعظمية، ثم يتقدم ليتراجع من جديد. وكأن التذبذب في زمن السرد، وهو ابن النزعة التأملية، هو شارة عمليات التمحيص المستمرة للذات وصياغتها فيه. ذلك لأن السيرة الذاتية – كما يقول مايكل سبرنكر – «لا تتحقق إلا في نطاق الكتابة التي تتضافر فيها مفاهيم الذات والأنا والمؤلف وتنمحي الحدود بينها في عملية انتاج النص».(6) وهذا ما يدفع بعض منظري هذا الجنس الأدبي إلى الزعم بأنه «جنس غربي بامتياز لسرد الحياة، وأنه على الخصوص شكل مسيحي لكتابة الذات. لأنه يتطلب فهما تاريخيا تعاقبيا للزمن، وليس الفهم السرمدي الدائري القديم له، ويستلزم مفهوم الفرد ككيان منفصل عن الكيان الجمعي، وينهض على اعتبار الفردية أرقى منجزات الحضارة الإنسانية. ولهذا فإن السيرة الذاتية هي فعل إعادة تركيب وحدة حياة ما وتفردها عبر الزمن».(7)
هنا يضع المنظرون يدهم على ما دفع عالية ممدوح إلى طرح التجنيس العربي للسيرة الذاتية عن نصها والتملص منه، حينما تحدثت عن الصفير الذي يتجمع في القاعات المغلقة ويولّد التغامز. لأن الفصل بين الذات الفردية والكيان الجمعي لم يتحقق في ثقافتنا العربية بنفس الدقة والوضوح التي تحقق بها في نظيرتها الغربية. فما زال الكاتب يستخدم السيرة الذاتية في تأطير صورة متخيلة أو متوهمة، إن لم تكن مختلقة، للذات التي لم تقطع بعد حبلها السُري مع الجماعة. ولا تزال تزعم تمثيلها لها، أو بالأحرى لأفضل ما فيها، فهي وريثة الشاعر/ لسان القبيلة وسر فخرها. وما زال القارئ يقرأها بنفس العقلية وقواعد التلقي، وهذا هو سر التغامز: بداية العقل الشكّي الذي لم يفصل بعد الفردي عن الجمعي، ولم يتعلم بعد أهمية احترام تفرد الفرد وخصوصيته في واقع لا تزال للسلطة المركزية/ القبلية أو الأبوية فيه سطوتها. ولكنه يتشكك، وعن حق هذه المرة، في إمكانية أن يمثل هذا الفرد الجماعة في واقع مضطرب ومتحول دوما. كما أن مفهوم الزمن المضمر في جل الكتابات السيرذاتية العربية لايزال بدرجات متفاوتة أسير التصور السرمدي القديم للزمن وفق تصور والتر بينامين، والمتسق مع فكرة مركزية السلطة، والذي يبدو فيه الحاضر مشروطا بالماضي، ومستهدفا لتكراره. ولا تزال معه فكرة البطل/ النموذج الذي يمثل الجماعة مسيطرة على فعل الكتابة وعلى عملية تلقيها معا.
وبرغم نفور كتاب عالية ممدوح، أو رفضه المعلن لتصنيفه كسيرة ذاتية، فإننا كلما محصنا مسألة التجنيس الأدبي له سنجد أن جل شروط السيرة الذاتية تنطبق عليه. ولكنها سيرة ذاتية مغايرة بنية ورؤية وتكوينا، وهي كلها عناصر أساسية في هذا النص، لما اعتدنا عليه في السيرة الذاتية العربية، وهذه من أهم فضائل هذا النص وأبرز إسهاماته التجديدية. لأن محتوى البنية فيه وهو مدار هذه الدراسة وشاغلها الأساسي، وما تشي به من رؤى ودلالات، لا يقل أهمية عن أي من القضايا أو الموضوعات التي يطرحها. وهذا هو سر اهتمامي بتمحيص تلك البنية ودراستها. لأنني لا أعرف لهذا الكتاب سلفا في الكتابة العربية غير كتاب عبدالحكيم قاسم البديع (قدر الغرف المقبضة)؛ وهو كتاب يستعصي على التصنيف هو الآخر، وإن كان من السهل اعتباره رواية تجريبية. فهو كتاب يعي تجريبيته ككتاب عالية وإن أخفى عبدالحكيم قاسم في نصه كل الأسماء الحقيقية، في نوع من إزاحة النص المبكرة بعيدا عن التماهي مع الأماكن التي كُتب عنها أو الأشخاص الذين شهدوا بعض أحداثه. على العكس تماما مما تفعله عالية ممدوح في نصها الجديد المثقل بالوقائع والتوثيق، إلى الحد الذي استحال معه غلاف الكتاب، في نوع من التناغم مع عالمه، إلى أمشاج من الوثائق والأختام والبصمات، التي يتعلق معظمها بموضوع النص الأساسي وهو الترحال. الترحال في المكان وفي الزمان وفي أغوار الشخصية الأساسية على السواء، كما هو الحال في نص عبدالحكيم قاسم.
والترحال أيضا من أبرز سمات نصوص السيرة الذاتية. لأن كل سرد للهوية يستخدم الرحلة أو سيرة المسار النصية، وهي رحلة في المكان أو الزمان أو السياق، لأنه سرد تحوّل من حالة إلى أخرى، وارتحال من مكان إلى آخر، ومن موقع مجازي إلى موقع استعاري مغاير، سواء أكان الارتحال حقيقيا أو مجازيا. لكن نص عالية يوشك أن يكون نقيض نص عبدالحكيم قاسم الذي يختار لبطله «عبدالعزيز» اسما مغايرا لاسم الكاتب. ويقدم لنا نصا يحكمه قدر الزنزانة المبهظ، وهو يطارد كل الغرف المقبضة فيه. ويقدم العالم كسجن رازح لابد من تحطيم أسواره.
أما نص عالية فإنه يطرح الذات باختلافها وتمايزها و«أجنبيتها» عنوانا له، ويجعل التملص من «قدر الغرف المقبضة» موضوعه الحقيقي، والتحرر من أمراس كل ما يبهظ النفس ويحدد أفقها هو سر استبداله البيوت الروائية بالغرف المقبضة، وانفتاحه على عالم أوسع. عالم يوشك أن يشمل العراق كله، وأن يطرح بطلته في الوقت نفسه كاستعارة لكل ما جرى للعراق، وكنموذج للمواطن الإنساني الجديد في القرن الحادي والعشرين. قرن ملايين المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، والذين اغتربوا في أوطانهم في كل مكان، وقد استحالوا إلى جزء أساسي في فسيفساء العالم الذي يموج دوما باضطرابات لا تنتهي. وهذا الجانب الاستعاري، أو تلك الطاقة الرمزية للنص، هي التي تشده بعيدا إلى حد ما عن السيرة الذاتية التقليدية، وتطرحه في أفق الأعمال الروائية التي تتحول إلى استعارات لأماكن أو ظواهر إنسانية عامة.
أفق التلقي والميثاق والفضاء السيرذاتي:
وما يعزز طاقة النص الرمزية تلك أننا بإزاء كتابة واعية بذاتها وبدورها؛ كتابة يتضافر فيها السرد مع التأمل والتحليل، وتتراكب فيها الأزمنة واحدا فوق الآخر، وهي تبحث لنفسها عن مكان في تلك البيوت الروائية التي يشير لها العنوان الفرعي. كتابة تعي نصيتها بقدر ما تعي أو بأكثر مما تعي مرجعيتها، حيث تؤكد: «ولا أود أن يكون السرد هو الذي يتغلب على الحكاية وهي غير قابلة للاندغام في رواية أو سيرة» (ص12) أو «وهذا في الأصل ليس غرض تأليف هذا الكتاب» (ص 13) ثم تقدم وعيها بطريقة عملها: «إنني أعمل بعدة طرق: أحاول أن أطوّع السيرة داخلها أو جعلها موازية لما يحدث داخل النص الذي أجهل تماما ماذا يوجد داخله إلا بالذهاب إلى أقصاه .. إنني انتهك أصول السيرة ولا أحرس أية تلميحات يمليها مزاج القارئ الخفي الذي انتظره في كل صفحة، وغالبا سيحضر لأنني أفكر فيه أيضا». (ص20) أو «هذا كتاب حاولت أن أجعله يرتدي أزياء مختلفة ما بين السموكنج والجلباب». (ص 20)
وهذا الوعي بنصية النص هو الذي يجعلنا بإزاء كتابة تحليلية تأملية تدعونا إلى التفكير فيما وراء ما يتبدى فيها. فهي تعي أهمية القارئ، ولكنها لا تغازله، بل تثق بحضوره النهائي إذا ما جوّدت الكتابة واحتفت بها. وهذا ما يجعل الكتابة عندها ترياقا لما يعج به العالم من أوجاع: «أزعم أن التأليف هو الذي أصلح حالي، وحال صحتي، وتقويم تأتأة لساني الشخصي، أفضل من جميع تجارب الحياة والمعيش اليومي المدجج بالكثير من السفاسف والترهات». (ص 21) وكأنها تدرك هنا ما أكدته دراسة بول جون إيكين Paul John Eakin بناء على منهج التحليل النفسي وتدوين الملاحظات العيادية حول الذات ما بعد الحداثية، من أن الذات تعاني من الإعياء والتوتر، ومن الإخفاق في تحقيق سلامها الداخلي حينما تضطرب قدرتها على السرد والبوح. وأن هذا يؤثر بالتالي على هويتها الشخصية، وانسجامها مع ذاتها.(8)
ويردنا الوعي بأهمية القارئ إلى جانب آخر من جوانب التنظير للكتابة السيرذاتية وهو ما يدعوه فيليب ليجيون Philippe Lejeune بالتعاقد أو الميثاق السيرذاتي Autobiographical Pact الذي يتناول فيه القارئ المضمر في السيرة الذاتية وأهميته في عملية توليد المعنى في كتابة السيرة. لأن هذا القارئ يدلف إلى النص بناء على تعاقد مضمر بأن الكاتب والراوي والبطل أو الشخصية الأساسية في النص هم في حقيقة الأمر شخص واحد. ويميز ليجيون في هذا المجال بين السيرة والسيرة الذاتية من ناحية، وبين السيرة الذاتية والسرد القصصي من ناحية أخرى. ويولي ليجيون عناية خاصة للصيغة اللغوية لـ«أنا» النص، وكيف أنها تأخذ موقف القارئ في الاعتبار (راجع المقتطف أعلاه الذي يرد فيه ذكر القارئ في ص 20) كنقطة انطلاق في تعاقد بين الكاتب والقارئ يفترض أن هوية الاسم: اسم المؤلف المدون على الغلاف، واسم راوي الأحداث والوقائع في النص، واسم الشخصية المحورية التي يدور حولها النص هي هوية واحدة. لأن العلامة الأساسية المميزة للسيرة الذاتية عنده هي هوية الاسم المحدد تلك. «فما يميز السيرة الذاتية ويعرّفها بالنسبة لمن يقرأها هو في المحل الأول تعاقد واضح حول الهوية التي يجسدها الاسم: اسم المكتوب عنه وهو في الوقت نفسه اسم الكاتب الذي أنتج النص»(9) لكنه لا يستبعد أن القارئ الحقيقي قد يتبنى استراتيجيات مغايرة للقراءة، تختلف عن تلك المضمرة في هذا التعاقد، وأن كثيرا من السير الذاتية المنشورة قد لا تنطوي على هذا التعاقد أيضا. وهو ما يجعل أفق التلقي أحد العناصر المؤثرة والفاعلة في هذا الجنس الأدبي.
وإذا ما اعتبرنا هذا التعاقد بمثابة النواة النحوية الأساسية لجنس السيرة الذاتية the basic grammar of the genre of autobiography فإننا سنجد هذا الشرط متحققا بالفعل في (الأجنبية)، لكن النص يطرح بتحقيقه له مجموعة من الأسئلة الإشكالية حول الهوية كمفهوم بشكل عام، وحول الجدل بين هوية الذات الكاتبة والذات المكتوبة، الذات التي تكتب نفسها أو بالأحرى تعيد تأليفها وخلقها من جديد. فنحن هنا بإزاء عملية رمزية أقرب ما تكون إلى عملية إنجاب الأولى للثانية، التي مهما خرجت الذات المكتوبة من رحمها، ومن رغبتها في أن تكون هي المنجب الوحيد لها، فإنها كما في الإنجاب الفعلي لا يمكن أن تكون متطابقة معها كلية، أو نسخة طبق الأصل منها. ليس فقط لتفرد الكائن البشري، سواء أكان كاتبا أو مكتوبا، ولكن أيضا لدخول العديد من العناصر في عملية الانجاب أو التأليف تلك، من الذاكرة الانتقائية، وهي بطبعها خؤون، إلى الخلط الدائم بين الذات كما هي في تحققاتها وخيباتها، وكما تتصور نفسها، أو كما تريد أو تشتهي أن تكون. فالكتابة السيرذاتية تنطوي على مزيج من التذكر، والنسيان بالطبع، مما يجعلها إذا كانت صادقة كتابة فسيفسائية في المحل الأول. وهذه الفسيفسائية هي ما تجسده تلك الفصول الكثيرة القصيرة المتعددة كقطع الفسيفساء في لوحة جدارية أو أرضية، تمتد في (الأجنبية) على مدى أكثر من مئتي صفحة، وهي تجمع أشلاء الذات الممزقة، تستهدف اكتشافها وبلورتها، بقدر ما تستهدف التعبير عنها وإعادة خلقها.
وتزداد إشكالية هذا التعاقد تعقيدا إذا ما أدخلنا إلى ساحة الجدل مفهوم «موت المؤلف» الذي طرحه رولان بارت، وتأكيده على أن كل كتابة «تنطوي على تدمير الصوت، وتبديد كل نقط الانطلاق الأصلية».(10) أو غيره من المفاهيم النقدية الجديدة التي تقلل من قدرة المؤلف على السيطرة على النص، وتؤكد أن الكثير مما يرد فيه، ويشكل نسيجه، ويشارك في انتاج ما به من لغة ورؤى وقيم وتصورات، إنما تمت صياغته سلفا في الثقافة التي يصدر عنها. لكن دور المؤلف في السيرة الذاتية مهم ومحوري ولا يمكن أن ننحيه جانبا لنركز على النص وحده، كما يدعو بارت. لأن كل تركيز على النص يردنا إلى المؤلف، الذي يحمل النص اسمه ويكتب سيرته، والعلاقة بالاسم، أي علاقة الكاتب أو أي شخص باسمه، هي أقرب ما تكون إلى مرحلة المرآة عند لاكان، لا تخلو هي الأخرى من الإشكالية. ونص عالية من أكثر النصوص التي تحيلنا إلى عالية المؤلف بقدر ما تخبرنا عن عالية الإنسان/ الراوي/ البطل/ موضوع السيرة. وهو أمر يدعونا لاستدعاء مفهوم آخر من مفاهيم التجنيس في السيرة الذاتية.
لأن إشارة عالية ممدوح المتكررة لمؤلفاتها في متن هذا الكتاب، بدءا من مجموعتيها القصصيتين (افتتاحية للضحك) و(هوامش إلى السيدة ب) مرورا بمعظم رواياتها السابقة، تتطلب منا العودة إلى ما يسميه فيليب ليجيون بالفضاء السيرذاتي The Autobiographical Space (11) وهو الفضاء الذي تخَلّق لدي القارئ سلفا عبر أعمال المؤلف السابقة على كتابته للسيرة الذاتية؛ والذي يحتل عبره هذا الكاتب الواقعي مساحة ما في وعي القارئ. فنحن بإزاء ذات فرضت على القارئ عبر أعمالها السابقة وجودا، واحتلت مكانة على خريطة معارفه الأدبية بها، قبل أن تتقدم بهذا العمل السيرذاتي وتحدثه عن نفسها. وهذه الذات تكتسب وجودها الواقعي من خلال انتاجها السابق لتلك الأعمال التي تنتمي في حالة كاتبتنا لجنسي القصة القصيرة والرواية. وهو «أمر لا يمكن الاستغناء عنه في تخليق الفضاء السيرذاتي» (12) كما يقول ليجيون. و«يستمد هذا الكاتب بالنسبة لغالبية القراء حقيقته الواقعية من قائمة أعماله التي غالبا ما يدونها في نهاية سيرته الذاتية، وهي الأعمال التي تكسب هذا الكاتب هوية اسمية Identity of Name لدى القارئ، تسعى السيرة الذاتية لمماهاتها مع الراوي والشخصية المروية فيها.»(13) هذا التماهي ضروري بل أساسي للسيرة الذاتية، حتى لو كان كاتبها يستخدم اسما أدبيا أو اسما مستعارا، كما هي الحال مع عدد من الكتاب الغربيين. وحتى لو تشكك القارئ في مدى مشابهة ما يقرأه لما يعرفه عن كاتب السيرة الذاتية أو كاتبتها، فإن هذا الشك لا ينتاب هويته/ها أبدا.
الصوت واللغة وإشكاليات الهوية:
ذلك لأن ثمة الكثير من الاستراتيجيات النصية المتشابهة بين الرواية السيرذاتية، والسيرة الذاتية، حيث تستخدم كلاهما نفس الأساليب السردية، ولكن المعيار الأساسي في الفصل بينهما عنده هو مسألة الهوية التي يتوحد فيها الفضاء السيرذاتي مع المؤلف/ الراوي/ الشخصية الأساسية في النص، وفضلا عن هذا كله التعاقد السيرذاتي نفسه، الذي يتحقق عنده بطرق مختلفة حتى لو لم يعترف الكاتب/ة في صفحة العنوان، كما في حالتنا الراهنة، بأن النص هو سيرته/ا الذاتية. لأنه، كما يقول ليجيون «ليست هناك درجات من السيرة الذاتية، إنها الكل أو لا شيء»(14) ومن هنا كانت هناك وسائل الإضمار المختلفة التي تنوب عن التصريح التجنيسي في العنوان، والتي يتخلق عبرها التعاقد السيرذاتي. وهذا في الواقع ما قامت به عالية ممدوح في كتابها. ليس فقط من خلال تخليق الفضاء السيرذاتي المعمور بالعديد من الإشارات إلى أعمالها السابقة والاشتباك معها في جدل حواري يعزز هذا الفضاء، ولكن أيضا من خلال تحقيق شروط التماهي الثلاثة في النص بين الراوي/ الشخصية الرئيسية في النص/ والكاتبة.
لكن لماذا نرهق أنفسنا في التعرف على كل شروط السيرة الذاتية المتجلية في النص، اللهم إلا من قبيل الدراسة النقدية التي تعطى هذا النص الجميل حقه من الدرس الأدبي، والكاتبة نفسها تقول لنا دون مواربة «هذه ليست رواية يشغل التخييل فيها الحيز الأكبر. هذه حياتي تنبثق أمامي بدون توريات أو استعارات» (ص113) وهذا في حد ذاته من أدق تعريفات السيرة الذاتية التي تنبثق فيها الحياة أمام القارئ والراوي معا دون توريات أو استعارات. فالسيرة الذاتية هي فن كتابة الذات بلا نزاع. وحينما نتحدث عن الذات فإننا نجلب إلى أفق الدراسة كل إشكاليات الذات والهوية في الفكر الحديث. وقد سبق أن نشرت دراسة مطولة عن هذا الموضوع بعنوان «رقش الذات لا كتابتها: تحولات الاستراتيجيات النصية في السيرة الذاتية»(15) وهي دراسة اهتمت بالكشف عن أن كل تغير في تصور الذات الكاتبة لهويتها الفردية أو القومية يرافقه تغير في استراتيجيات كتابة هذه الذات لسيرتها الذاتية، لأن استراتيجيات الكتابة وبنيتها جزء لا يتجزأ من هذا التصور نفسه، وأحد تجلياته الأساسية.
وسوف أكشف في تناولي لكتاب عالية الجميل هنا عن سلامة هذه الفرضية البحثية، وعن أن تغير استراتيجيات الكتابة عندها هي أحد تجليات تغير مفهوم الذات والهوية العربية في القرن الحادي والعشرين. لكن ما أود التوقف عنده أو الإحالة إليه هنا منها هو تعدد نظريات الذات Theories of Identity or Theories of the Self أو الهوية. وهي نظريات متشعبة إلى أقصى حد، نحتاج إلى معرفتها كي نتعرف على ماهية الذات التي تكتب نفسها في النص السيرذاتي، كي نتمكن من الوصول إلى تصور معرفي دقيق عنها. وإذا ما تجاوزنا بداءة عن النظريات التبسيطية التي تعتمد على الجانب العضوي في الحياة الإنسانية، من أصول بيولوجية: طبيعية وعرقية وجينية، وهي النظريات التي تغازلها عالية ممدوح في نصها في «بيت القرد العاري»، وأحيانا بصورة تهكمية من تحولات هذا القرد الظاهرية، والتي لم يؤثر أي منها في عقله وضميره. وتكشف لنا بطريقتها المراوغة كيف أن مثل تلك النظريات البيولوجية أو العرقية، هي أساس الكثير من النزعات والرؤى العنصرية السقيمة، فإننا سنجد أن هناك أربعة أنواع أساسية من تلك النظريات.
وتنطوي هذه الأنواع الأربعة على قواسم مشتركة مهمة: أولها أن الهوية عندها جميعا صيرورة اجتماعية نفسية ثقافية، وليست معطى بيولوجيا. وثانيها أنها كصيرورة تتحول وتتبدل وتخضع للعديد من المؤثرات التي تساهم في تبديل تصورها لذاتها ولوعيها بالآخر، وثالثها أنها تنطلق جميعا من المراجعة الجذرية لتصورات الذات الإنسانية المركزية الثابتة التي قامت عليها النهضة الأوروبية، وأحيانا القطيعة الكلية معها. فقد انبنت أفكار النهضة وعملية الاستنارة الأوروبية على أساس عقلاني ديني في وقت واحد. ينطلق من الفكر الديني المسيحي الذي يؤمن بأن الله خلق الإنسان على صورته، وبالتالي فإن ثمة شيئا إلهيا نورانيا في الإنسان، الذي جاء المسيح – الابن – ليحرره من الخطيئة الأصلية، ويخلصه من أوزارها.
وهذا التصور هو أحد مسلمات النزعة الإنسانية Humanism التي تعود بداياتها الأولى إلى نص كنسي كتبه جيوفاني بيكو ديللا ميراندولا بعنوان «دفاع عن كرامة الإنسان»(16) عام 1486 وبني عليه البارون كوندرسيه فيما بعد «مقال عن تقدم الروح البشرية» عام 1794 والذي صاغ فيه خلاصة فكر الثورة الفرنسية عن الإنسان والنزعة الإنسانية بعدما تخلص هذا الفكر من آثار عصر الرعب الذي دمر فيه الجيروند واليعاقبة بعضهم البعض. لذلك يمكن تلخيص فكر الاستنارة الفلسفي الذي بدأ مسيرته منذ ذلك الوقت، وساد الفلسفة والفكر الغربيين في أن الإنسان الذي خلق على صورة الرب، يكون جديرا بإنسانيته عندما يستطيع أن يتحرر من أي سلطة إلا سلطة العقل والمسؤولية، لكي يكون ما يريد. أو كما يقول البارون كوندرسيه: «إن الشمس ستشرق فقط على الأحرار من البشر على هذه الأرض، الذين لا يخضعون لأي سلطان إلا سلطان العقل، أما الطغاة والعبيد والقساوسة وصنائعهم من المنافقين فلن يوجدوا إلا في مسرح التاريخ».(17)
هذا الإنسان الحر الجدير بأن تشرق عليه الشمس، ويقصد كوندرسيه هنا شمس الاستنارة العقلية الجديدة وشمس الحرية، هو الإنسان الجدير بإنسانيته، وهو عند فكر النزعة الإنسانية تلك جوهر خالص ثابت ومطلق بمعنى من المعاني. ألم يخلق على صورة الرب؟ لكن المشكلة في هذا التصور، وهو تصور نبيل ومثالي بلا شك، هو أنه ينطلق من فرضية أساسية ومستحيلة معا هي المساواة المطلقة بين البشر، وتمتعهم جميعا بالحرية التي بشرت بها الثورة الفرنسية، ومازال قسم كبير منهم لا يعرف حتى الحروف الأولى من أبجديتها، بعد أكثر من قرنين من تعميدها لقيم الحرية والمساواة بالدم في شوارع باريس. ولايزال عمود ميدان الباستيل الشهير شاهدا على نهر الدم الذي سال في ثلاثة أيام دون توقف. ناهيك عن بزوغ عدد من الاسئلة الإشكالية حول افتراض وجود جوهر إنساني ثابت رغم اختلاف الثقافات والظروف الفردية منها والاجتماعية. ألا يتعرض هذا الجوهر للتغير والتبديل؟ وما هي العوامل التي تغيره؟ هذه التساؤلات هي التي أجهزت على الكثير من أسس النزعة الإنسانية القديمة، ودفعت إلى بزوغ تفكير جديد في مسألة الهوية وطبيعة الذات الفردية، تعددت بمقتضاه نظرياتهما وتشعبت إلى أقصى حد.
فإذا ما عدنا إلى الأنواع الأساسية الأربعة من تلك النظريات التي احدثت قطيعتها المنطلقية مع النزعة الإنسانية الإطلاقية القديمة تلك: وهي النظريات الاجتماعية التي انطلقت من التصورات الماركسية وما انبنى عليها من تراكمات، والنظريات النفسية التي بدأت مع اكتشاف سيجموند فرويد للاوعي واستمرت حتى جاك لاكان وعبر كارل يونج، والنظريات البنيوية اللغوية من سوسير إلى ليفي ستراوس التي لفتت النظر إلى دور اللغة في صياغة تصوراتنا لأنفسنا وعلاقة بنيتها ببنية الذات التي تتشكل فيها وهويتها، ونظريات جنيولوجيا الذات الحديثة والتراكمات الاركيولوجية التي صنعتها والتي بدأ الحفر فيها مع ميشيل فوكو ولم يتوقف حتى جوديث بتلر وسلافو جيجيك. أقول إذا عدنا إلى هذه النظريات جميعا، وقد سبق أن فصلت الحديث عنها،(18) سنجد أن أقدرها على إرهاف فهمنا للذات التي تكتبها (الأجنبية) هي أولاها. حيث تلعب العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دورها في صياغة الذات الفردية ومحيطها الاجتماعي على السواء. وحيث يمتزج التاريخ الشخصي بالتاريخ الاجتماعي والسياسي في تكوين بنية مشاعرها.
فإذا كان البشر هم الذين يصنعون التاريخ، فإنهم يصنعونه – كما يقول لنا ماركس – «وفق قاعدة من الظروف التي ليست من صنعهم» والتي صنعها لهم السياق الذي نشأوا فيه، والميراث الذي آل إليهم من الأجيال السابقة، والطبقة التي ينتمون إليها، والنظام الاقتصادي والسياسي الذي يخضعون له، إلى آخر هذه العوامل. وبذلك وضع ماركس بذرة تشظي Fragmentation الذات الإنسانية وتحولها من معطى ثابت إلى صيرورة متحولة. وأجهز على النزعة الإنسانية القديمة التي تقول بوجود جوهر إنساني له قدر من الثبات، لأنه مستمد من الجوهر الأعلى أو المطلق، وله القدرة على تسيير التاريخ.
وكانت زعزعة ماركس لهذه النزعة الإنسانية هي التي استقطبت هجوما شديدا على تصوراته للذات الإنسانية، ركز على أهمية دور الفرد الذي تلغيه الحتمية التاريخية التي تنطوي عليها الماركسية. لذلك جاءت بعده تنويعات اجتماعية على نظريته تعيد للفرد دوره دون التقليل من أهمية الشروط الاجتماعية. كان من أهمها تنويع جورج هيربرت ميد الذي عاد في عشرينيات القرن الماضي إلى التصور الهيجلي عن الذات الاجتماعية Social Self وصاغ فكرة الذات المتفاعلة مع السياق الاجتماعي المحيط بها؛ وهي في المحل الأول ذات حوارية تمارس حوارها الدائم مع هذا السياق على المستويين الذاتي الداخلي الذي اعترف فرويد بدوره في تكوين الوعي، وعلى مستوى التفاعل مع الآخرين والتعامل معهم.
فالذات عنده حوارية اجتماعية وأفقية معا، لا تعتمد في صراعها مع الآخرين على التراتبات الرأسية وحدها، وإنما على البنية الأفقية الموقوتة بمراحل الذات الزمنية المختلفة من ناحية، وبعلاقاتها مع الآخرين في السياق الاجتماعي من ناحية أخرى. لكن أهمية إسهام ميد، شديدة الصلة بنصنا هنا، تكمن في أنه برهن على أن علاقة الذات بذاتها وتعاملها معها Intra-personal communication تعتمد على البنى والأنساق التي تعلمتها هذه الذات من علاقاتها مع الآخرين Inter-personal communication (19). بمعنى أن السياق الاجتماعي يساهم في صياغة أشد الأمور ذاتية، مثل حوار الذات الداخلي مع ذاتها. لأن الذات تتعلم بوعي وفي مراحل مبكرة من تبلورها، أهمية السيطرة على هذا السياق أو التأثير عليه، ويتخلق من هذا التفاعل وعيها بهويتها.
تشظي بنية البيوت الروائية وتجميع الذات لها:
وإذا عدنا بعد هذه الوقفة النظرية أو التنظيرية إلى النص، سنجد في بنيته ذاتها تناظراته الخاصة لتشظي الذات الذي نظّر له ماركس ولتحولاتها كصيرورة اجتماعية تاريخية من ناحية، ولحواريتها التي أرساها ميد، من ناحية أخرى. وإن كانت الحوارية تتم هنا بطريقة مراوغة؛ لها علاقة بطبيعة الكتابة النسوية واستراتيجياتها الخلاقة في القلب والإبدال. وليس تشظي الذات في (الأجنبية) موضوع النص الظاهري، لأننا ظاهريا بإزاء ذات قوية تعي تفردها وتدافع عن نفسها وتماسكها، ولكنه الموضوع المضمر في بنيته نفسها. فبنية النص، كما تقول لنا عتبته الثانية، أي العنوان الفرعي، تضع المكان في المرتبة الثانية مباشرة بعد الذات «الأجنبية»، وتمنحه أولوية على الزمان التي يتمتع في هذا النص بسيولة مثيرة للاهتمام، تحتاج إلى دراسة مستقلة للتعرف على محتوى بنيتها التي تتصادى بلا شك مع بنية النص المكانية من ناحية، وتتيح للذات السيطرة على الزمن وإعادة ترتيبه بحرية من ناحية أخرى. وتتوزع الأماكن هنا، وقد حولتها الكتابة إلى وحدات فسيفسائية تتكون منها الجدارية الكلية، على امتداد مساحة جغرافية شاسعة. تمتد من العراق شرقا حتى كندا في أقصى الغرب، وإن جعلت باريس مركز ثقل تلك الخارطة المترامية التي تتوزع فيها أمشاج الذات التي يسعى النص لاستنقاذها من براثن الدمار الذي يحيق بوطنها، وبالعالم من ورائه.
إذن فنحن بإزاء بنية مكانية متشظية تلملم الذات الموزعة فيها عبر بيوتها نفسها. لكن دعنا ندخل تلك البيوت الروائية من أبوابها. فنحن هنا بإزاء «بيوت» كما يقول لنا العنوان الفرعي، والبيت هو المكان الذي لا نسكنه فحسب، ولكنه المكان التي نسكّن فيه تواريخنا وصبواتنا وهواجسنا وقلقنا ومشاعرنا وكل ما يتصل بالحميمية والسكن، كما علّمنا باشلار. وهو أيضا مملكة المرأة في الثقافة العربية وملكوتها ومستودع أسرارها، تحيله إلى جنة لو أرادت، وتقلبه إلى جحيم متى شاءت. ولكن هذه البيوت الواقعية منها والاستعارية «بيوت روائية». يلعب فيها الخيال الروائي بالرغم من واقعيتها الشديدة، بل التوثيقية أحيانا، ونسبة الكثير منها إلى أصحابه، دورا أساسيا في فتح النص على أفاق استعارية وتأويلية خصبة. فالنص مكون من فصول كثيرة قصيرة متتابعة، كقطع الفسيفساء: خمسة وسبعين فصلا فيما يزيد قليلا عن مئتي صفحة. ثلث هذه الفصول، أي خمسة وعشرون فصلا، تحمل عنوانا يستخدم كلمة البيت أو أحد مترادفاته، ومع ذلك فإن أكثر هذه البيوت بيوت استعارية: بيت الطاعة، بيت الجحيم، بيت الثمالة، بيت اللسان، بيت العمر، بيت الخوف المعتق، بيت القرد العاري، بيت اللغة، إقامات ما بعد الحداثة، بيوت إليكترونية .. إلخ. وحتى البيوت الواقعية المنسوبة إلى أصحابها، سواء أكانوا أفراد أم مؤسسات مثل: بيت نهلة، بيت بلقيس، بيت أبي، بيوت الأصدقاء، بيت المرضى، بيت القانون الفرنسي، بيت بوعزيزي، فإن نسبتها لأصحابها تضفي عليها طابعا استعاريا هي الأخرى.
لذلك كان طبيعيا أن يبدأ النص بأكثر تلك البيوت الاستعارية دلالة على عالمه، وعلى صاحبته معا، حينما يبدأ بفصل معنون لبراعة الاستهلال بـ«بيت الطاعة». وهو البيت الذي يتضافر فيه الواقعي مع الاستعاري؛ إنه البيت الذي قننه الشرع ورفضت الراوية أن تسكنه منذ الصبا. أهو هذا الرفض المبكر ما جعلها بالفعل «أجنبية»؟ حتى وهي لاتزال صبية في بيت العائلة القديم بالأعظمية؛ ففي هذا الحي العتيق المتقشف في بغداد الذي تعنونه لمرارة المفارقة «بيت الجحيم» تؤسس الراوية لأجنبيتها قبل أن تطأ أقدامها الأرض الفرنسية بعشرات السنين. فهي «وديعة في البيت، ضارية في الشارع»، لاحظ المقابلة بين موقعها في الفضاءين الخاص والعام في طفولتها، وهي مراوغة أيضا لأنها كما تقول لنا، في وعي مبكر وفطري باستراتيجيات القلب والإبدال ومراوغاتها النسوية: «كنت أقول نعم لكل طلب يطلب مني، لكني لا انفذه». (ص22) هي الطاعة المقلوبة إذن منذ بواكير الصبا، المرفوضة في أوج العمر، وقد تذرعت بسطوة القانون، ونفوذ السفارة العراقية المثلوم في باريس. حيث يؤكد لها القنصل العراقي «الأمر الوحيد الذي بمقدوري تأكيده لك، أن ليس بين فرنسا والعراق تسليم الأشخاص المطلوبين لوزارة العدل العراقية في مثل هذا النوع من القضايا القانونية والشرعية». (ص10)
هكذا يواجهنا النص من البداية بتلك الدعوى المرفوعة ضدها من الزوج. وهو هنا الممثل الرسمي للسلطة/ الماضي/ الوطن لإدخالها في «بيت الطاعة» الشرعي في عالم عربي فقد فيه كل شيء شرعيته ومصداقيته. فما يبدو ظاهريا على أنه توتر العلاقة مع الزوج، ينطوي باطنيا عن توتر العلاقة مع العراق. «كنت استميت في طلب الانفصال وكان يتفنن في توزيع أيديولوجية الطاعة» (ص 12) والإذعان في عالم يملك فيه الزوج/ السلطة التي تتيح له أن يستحوذ على أوراق البطلة/ الراوية «الثبوتية الأصلية: شهادة الجنسية العراقية، وهوية الأحوال المدنية، ووثيقة الزواج». (ص11) كي يتركها مجردة من كل أسلحتها «الثبوتية»/ العراقية دون أن تتجرد من عبء ماضيها، ولا من ثقل العراق المبهظ الذي تحمله على كاهلها وفي داخلها.
(البقية بموقع المجلة على الانترنت)
وتوشك لعبة الأوراق الثبوتية تلك أن تكون لعبة النص الأساسية، لعبة إثبات الذات، وتجميع أشلائها الموزعة في الأمكنة، إزاء محو الوطن لها، بل إثباتها انقاذا للوطن الممحو بالغزو والدمار من التبدد والضياع. في هذه اللعبة يأتي دور الكتابة التي تعي نصيتها واهميتها. فالكتابة فعل أثبات للممحو والمنسي والمتروك، هي التي يستعيد بها العراق نفسه ألقه ووجوده بها وفيها من جديد. فهل تقوم عالية ممدوح هنا بتقديم سيرة ذاتية من النوع الذي قدمه إدوار سعيد في (خارج المكان) باعتبارها كما يقول في مقدمته لسيرته «إن خارج المكان سجل لعالم مفقود أو منسي»؟(20) هل تسعى هنا لاستنقاذ ذاتها من وهاد النسيان وترك أثرها؟ أم تُراها رغبة الذات في تحويل الذاتي إلى موضوعي، قادر على أن تكون له قيمة خارج الذات وبعدها؟
يجيب نص (الأجنبية) على السؤالين بنعم! فالنص ككثير من نصوص السيرة الذاتية مشغول بقضايا الهوية والموقع. فالهوية فيه يتم استنقاذها من براثن الفقد والنسيان. أما الموقع فإنه لا يقتصر «على المكان الذي تعيش فيه الذات وتتعامل معه، ولا على الفضاء الأوسع وهو الوطن، أو الأشمل وهو العالم الذي قد تتحرك فيه الذات وتتجول في فيافيه، وإنما يتناول الموقع من حيث دلالاته المتراكبة: موقع الذات في المجتمع ومكانتها فيه، وموقع الفرد من الجماعة التي يعيش فيها ومكانته عندها، والموقع باعتباره جغرافيا الذات والعالم معا».(21) وفضلا عن هذا كله، ولأننا بإزاء كاتبة، موقع الذات الكاتبة من عالمها المكتوب، ومن رواياتها وقرائها معا. وهذا الموقع الأخير، والذي يتعزز في النص ببهاء الصداقة والعلاقات الإنسانية القادرة على فرز البشر، هو ما تطرحه الذات في مواجهة كل المواقع التقليدية التي ترفضها، وتنأى دوما عن الاستقرار فيها.
ذاكرة النص الداخلية ودلالات الاعتصام باللغة:
لهذا كله تأتي أهمية ما أدعوه بذاكرة النص التاريخية، وإحالاته المباشرة حينا المضمرة أخرى إلى ما يدور خارجه من وقائع وتواريخ. فقد مكنت تلك الذاكرة، التي عززتها طبيعة العمل الروائية، النص برغم ثانويتها على خريطة تراتباته من تجسيد سياقه التاريخي والاجتماعي الذي تموضع فيه الذات الساردة/ موضوع السرد نفسها، وأثرته بطريقة تفتح الذات على العديد من الاستعارات الأوسع. فنحن بإزاء نص يحيل إلى نصف قرن من تاريخ العراق من ناحية، ومن التاريخ العربي الذي يصل إلى «بيت البوعزيزي» وصفعة الشرطية التي فجرت الربيع العربي برمته، من ناحية أخرى.
وهنا تأتي حوارية الذات التي حدثنا عنها ميد. فنحن بإزاء ذات في حوار دائم مع ذاتها، ومع العالم من حولها. لا تنهض علاقاتها معه على التماهي التقليدي في الآخر، سواء أكان الآخر الاجتماعي أم الأجنبي، أو لعب ما يرسمه لها من أدوار مسبقة، وإنما على الجدل الحواري معه. فنحن هنا بإزاء ذات تنبني لا وفق محددات البنى الاجتماعية والتصورات الجمعية لها كما يقول علماء الاجتماع عن الهوية، وإنما في تعارض واعٍ مع رؤاها، وصراع مستمر مع جل ما تنطوي عليه من سلبيات. بصورة تبدو معها البنى الاجتماعية وكأنها بنى «أجنبية» عنها وليست ظهارا لبلورة هويتها. «كنت أمثل نفسي ولا شيء غيرها. فأنا لا أمتلك سواها، وهذا أمر جد مزعج لأنه يجافي المؤسسات والمرجعيات. وإذا تذكرت لقبي اللطيف أصلا، ناشز، وباعتراف مؤسسة قضائية عراقية: فأنا أصلا أعيش خارج صيرورة قوانين الطاعة لجميع المؤسسات العراقية، وعلى رأسها المؤسسة الزوجية. ولست ضالعة مع أية جهة حزبية أيّا كان لونها ونهجها وجبروتها». (ص 122) وهو أمر سبق أن كررته: «ففي بلدي كنت أوصم بالجانحة التي تستبيح اللغة، المرجعية، الجماعة، والحزب». (ص 69) هذا الجنوح المتأصل في الذات منذ الطفولة هو شارة تعاملها الجدلي سواء أكان مضمرا أو معلنا مع السياق وحوارها المستمر معه، وسوف نكتشف أيضا أنه منطق تعاملها مع اللغة ذاتها.
وهو حوار، أو بالأحرى جدل وصراع استمر منذ الطفولة وحتى وصول طلب الحكم القانوني بجلبها إلى «بيت الطاعة»، وما ينطوي عليه من مفارقات مؤسية. فلابد لمن يُجلَب إلى بيت الطاعة أن تكون له هوية ثابتة، وجذور راسخة في الواقع. ولكن الزوج نفسه وقد احتجز كل أوراق الراوية الثبوتية جردها من هذا الثبات؛ ولم يعِ أن هذا التجريد قد أطلقها حرة من عقال سلطاته، بسيولة هويتها الفاقدة لأوراق الثبوتية، في فضاءات لا سيطرة لأعرافه الاجتماعية أو قوانينه الشرعية عليها. فالهوية وأوراقها الثبوتية هي موضوع أساسي من موضوعات هذه السيرة: تسائلها، تبحث عنها، تعري عبثية وثائقها: «كيف يكون المرء بالمعنى الدقيق للكلمة قد تم الاستغناء عنه جسما واسما وعقلا بالصورة القانونية؟ وكيف ها نحن نحاول إعادة خلقي ثانية وبواسطة قوة وبهاء الصداقة والفن والكتابة»؟ (ص120) وكيف أصبحت الروايات التي كتبتها عن عقدي الستينيات (حبات النفتالين) والسبعينيات (الغلامة) أكثر حقيقية من تلك الوثائق كلها، وأقدر على منحها في صيرورة الهويات، هويتها الجديدة: هويتها ككاتبة.
وهي الهوية الأبهى، لأنها وحدها القادرة على التغلب، ولو لحظيا، على عنصرية الجيران الذين يتذكرون أهميتها، وضرورة دعوتها للتباهي بها أمام الأب القادم من الجنوب، حينما تترجم لها رواية إلى لغتهم. فما أن ترجمت أولى رواياتها للفرنسية عام 1996 حتى أشرعت الجارة نسختها في وجهها، وهي تدعوها إلى قدح من النبيذ الفاخر، توقع معه على نسختها. دعوها لأول مرة إلى شقتهم، يسامرونها ويحدثها الجار/ الزوج عن انحداره من أصلاب ذوي «الأقدام السوداء» المحملين بإرث إشكالي من استيطانهم أرض المغرب العربي الكبير، وخاصة الجزائر، إبان مرحلة الاستعمار الفرنسي. بعضهم يحب العرب لأنه عاش بين ظهرانيهم أجمل أيام حياته، لكن الأكثرية تكرههم لأنهم السبب في طردهم من فردوس مفقود، ولا أمل في استعادته أبدا. فقد هوى كثير منهم بعد العودة إلى فرنسا من حالق الموسرين من أصحاب المزارع والمتاجر والأعمال، إلى حضيض الطبقة العاملة التي لا تجد عملا إلا بصعوبة.
ويبدو أن جيران الراوية/ الكاتبة كانوا من هذا النوع الأخير لأنهم سرعان ما يلفظونها حينما يردونها إلى «خانة» المهاجرة التقليدية الساكنة في الدور الأرضي من العمارة. فتعاود الجارة ارتداء القناع «الذي يمنعنا ارتداؤه من اقتراف القتل» (ص 163) كما تقول الكاتبة نقلا عن ليفيناس. لا تزيحه إلا حينما تترجم للكاتبة رواية أخرى بعد سبعة أعوام (الولع) عام 2003، عام احتلال العراق، وبداية الدمار الكبير فيه. فقبل ترجمة الرواية وبعدها، ترتد الراوية بالنسبة لهم إلى مهاجرة عربية عليها، في عرفهم العنصري، أن تعود إلى بلدها كما عادوا مهزومين إلى بلدهم. لكن الترجمة، أي دخول الكاتبة/ الذات الراوية إلى حصن اللغة الفرنسية الراقية، لغة الكتب والروايات التي يجلها الفرنسي منذ سنوات الدرس الأولى، يضعها في موقع مغاير كلية لذلك الذي وضعتها فيه عنصريتهم الضيقة المنحدرة من ميراث ذوي «الأقدام السوداء» الاستعماري.
فاللغة من أكثر عناصر تحديد الهوية خطرا وتعقيدا. فكما يقول فيليب ليجيون «فإذا لم يكن ثمة وجود للأنا خارج اللغة، حيث أن اللغة هي الأخرون، فإن ذلك يقودنا إلى فكرة أن الخطاب السيرذاتي أبعد ما يكون عن أن يحيل، كما يتخيله كل شخص، إلى الأنا المصاغة في سلسلة من الأسماء الحقيقية وإنما على العكس يصبح خطابا اغترابيا لصوت اسطوري ينحو للسيطرة علينا».(22) فولوج الجارة «الأجنبية» إلى عالم الكتاب المطبوع باللغة الفرنسية، بما يحيط بهذا العالم من هالات، أدخلها بداءة إلى لغة الآخرين، وكان كافيا وحده، ولو مؤقتا، لتحويلها إلى هذا الصوت الاسطوري القادر على السيطرة، والتغلب على الحواجز الاجتماعية التي أنشأها تاريخ طويل من الاستعمار والعنصرية. فاللغة هي الآخرون كما يقول لنا ليجيون، وليست مجرد ألفاظ نتعلمها، أو أفعال نحفظ تصريفها، أو أنساق نحوية نستكنه أسرارها.
وحينما يدخل نص عالية بقوة اللغة الناعمة، لا إلى عالم هؤلاء الأخرين العادي، بل إلى أعلى شرائحه كرواية مترجمة للفرنسية ومنشورة فيها، يتغير موقع كاتبته في سلم تراتباتهم الاجتماعية، وتصبح جديرة بأن يتباهى بها الجيران، ويدعونها لشقتهم، التي تقع لدلالة المصادفة في دور أعلى من البناية. هنا يدلف بنا الكتاب إلى أحد مشاغل راويته الأساسية، وهي اللغة/ اللغة الفرنسية التي تسعى لتعلمها بعد أن بلغت الخمسين. وبعد مسيرة طويلة من التشبث بلغتها الأم، وبما تمثله من آخرين غائبين عنها بسبب غربتها عن وطنها. فاللغة العربية بالنسبة لها وطن تشتد أهميته كلما تناءى الوطن الجغرافي وغاب، وطن تتحكم فيه وتعيد به تأسيس وطنها المدمر وماضيها، واستنقاذه من النسيان ومن الدمار نفسه. «أشعر أن اللغة العربية هي حصني الأخير الذي أملك ضدا للزوج ومؤسسة الزواج، ووزارة العدل، والدولة العراقية كلها، ضدا لجميع لغات العالم».(ص64)
لكن تلك اللغة التي تمتلكها ضدا لكل مؤسسات الدولة العراقية، بدءا من مؤسسة الزواج وحتى مؤسسة الدولة العراقية نفسها التي ينخرها الفساد – إذ كان عليها أن تدفع أربعة آلاف دولار «للمرتشين والفاسدين من أبناء آوى ومن ضلوا السبيل. قطعتها من اللحم الحي كي أعود عراقية»، (ص190) لكي تمتلك جواز سفر عراقي – هي في الوقت نفسه العراق/ الأخرون. وهذا هو سر تناقضيتها فهي العراق وهي سلاحها ضد ما فيه من فساد وخراب معا؛ هي الوطن وهي التي تعزز غربتها في المنفى وتحكم حصاره حولها معا؛ هي أوراقها الثبوتية العراقية الحقيقية التي لا يستطيع الزوج أو غيره احتجازها؛ وهي كل الأخرين الذين تتشبث في الذاكرة بهم وتستعيد في نصها، بدءا من الجدة وفيقة وحتى الحفيد بيجان، دورهم في بناء لبنات هويتها الراهنة. ولأن تعلم لغة أخرى، مثل اللغة الفرنسية، يتطلب ولو وقتيا وضع تلك اللغة الأم جانبا، من أجل الدخول إلى حصن الأخر وجعله جزءا من الأنا، كان من الصعب على الراوية المتشبثة بعربيتها تشبثها بالحياة نفسها، أن تطرح لغتها تلك جانبا. وبالتالي أصبح من العسير، بل المستحيل، عليها تعلم الفرنسية.
إن مشكلة عالية ليس أن اللغة تعاندها، فقد أسلمت لها الكثير من المعارف المختلفة قيادها، كي تتأمل بها وعبرها ذاتها وما جرى لوطنها بوجع حقيقي. فالكتاب مليء بإحالات إلى مفكرين وكتاب آخرين وفلاسفة. حتى المعارف الالكترونية ولغتها الجديدة تعلمتها ودخلت إلى عالمها الافتراضي بمساعدة الأصدقاء، والحفيد الصغير الذي فتح لها آفاق الآلات الذكية الصغيرة. لكن مشكلتها أنها لا تملك بسبب وحدتها ذاتها ترف أن تطرح لغتها/ وطنها/ جانبا، كي تسلم نفسها للغة أخرى/ اللغة الفرنسية/ وطنا آخر. فهي أسيرة العراق الذي لا فكاك منه بالرغم من أن حبها له «يجلب النحس والمرض والفوات والشؤم والغصة مثل الحب من طرف واحد. إن الحب وحده لا يصنع الأوطان … إن التنظير للوطن أمر غبي، وتفكيك أسره عمل فوق طاقتي وإرادتي» (ص 92) فهي عراقية حتى النخاع، وليست حتى مرتاحة في عراقيتها بصورة تستطيع أن تتركها ثم تعود إليها متى شاءت، ولكنها مكبلة بها، مريضة بها «كل مرض يبدأ وينمو وينبثق، يحضر من تربة العراق … كل مرض لا يشعر به غيرنا هو مرض عراقي». (ص 92) لذلك فإنها لا تستطيع أن تتخلى عن لغتها/ عراقها للوقت اللازم لاستيعاب اللغة الأخرى/ فرنسا.
وهذا هو سر «المضي صوب الخرس اللغوي، فتضاعف لساني أجنبية ولعثمة وأنا أبتدع طرقا ملتوية في قطع دابر استخدام لساني الأصلي فهو ملك آخر، حتى ليس ملكي الشخصي ولا أنا من صناعته.» (ص164) وهو خرس يجلبه العراق بكل ما زرعه فيها من مخاوف. «إنني من جيل عراقي لم يغادرنا الخوف ولم نغادره» (ص 192) والواقع أن الخوف الذي يظهر اسمه في عنوان أكثر من فصل، يوشك أن يكون نغمة القرار الرئيسية في هذا النص حيث لا يفارق شبحه الشخصية أبدا، «خوفي كان نديمي وخليلي أسمع وجيبه، ولا أناور عليه» (ص125) وقد تحول إلى كائن ملموس له سطوة لا فكاك منها: «في الصور، صوري، أبدو بمفردي بالطبع، لكن هناك شخصا يجاورني واقفا بجانبي، نظام خوفي».(ص176) فنحن هنا بإزاء دراسة روائية في الخوف: طبيعته وتجلياته المختلفة، وآليات تسربه إلى شقوق الروح وصدوعها، ومقاومة الذات المستمرة له وهي تنوء تحت ثقل أوجاعه المبهظة.
إن تجميع الذات لكل تلك التشظيات تنطوي في مستوى من مستويات التحليل النصي على كشف عن البنية الثاوية في عالم مابعد الحداثة الذي يبدو بالغ التفكك والتشظي، ولكنه ينطوي على منطقه الداخلي الذي تعريه الكتابة بدخول الذات معه في هذا الحوار الثري والموجع معا. إذ يكشف لنا في سعي الذات للبرهنة على ذاتها ووجودها إزاء مؤسسة مغايرة، هي هنا المؤسسة الغربية، التي تتذرع بقدر أكبر من العقلانية والاستنارة، عبث منطق أن شهادة الوثيقة أشد سطوة من شهادة الشاهد/ الإنسان المقيم في خوفه، وهو ينكره ويتذرع بأتفه الأسباب للتصرف وفق إملاءاته. وهذا التناقض الجوهري الذي لم تشفَ منه المؤسسة الغربية ذاتها، هو مصدر إضافي للخوف المقيم الرازح؛ الذي تكتبه عالية ببراعة لم يكتب بها الخوف من قبل في النصوص العربية. راجع الفصل 52 «ماء الكولونيا» الذي تكتب فيه استدعاءها لمكتب تجديد تصريح الإقامة الدائمة للتوقيع بقلم مغاير لذلك الذي وقعت به في زيارتها السابقة، وما أثارته رسالة المكتب المقتضبة لديها من مخاوف مرعبة.
كتابة جديدة للتجربة الغربية المغايرة:
هنا ندلف إلى جانب أخر من الجوانب التي تكتبها (الأجنبية). لأن الأجنبية وهي تكتب لنا عن سيرة كاتبتها، وعن مختلف تجليات الفساد والدمار الذي يعمر العراق والذي تفاقم بشكل مرعب بعد الاحتلال الأمريكي له؛ فأصبحت بغداد معه «عاصمة الفساد العالمي» (ص190)، تكتب لنا أيضا تنويعها الخصب على هذا الموضوع الجديد القديم في الأدب العربي: موضوع الرحلة إلى الغرب والعلاقة المعقدة معه. فـ(الأجنبية) تدير حوارها بالتناقض والاختلاف مع سرب طويل من النصوص السردية العربية التي كتبت الرحلة إلى الغرب وتجربة الحياة فيه منذ (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم وليس انتهاء بـ(الحب في المنفى) لبهاء طاهر، مرورا بالطبع بأشهرها جميعا (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح. وليس في هذا التراث السردي الطويل من الكتابة عن الرحلة إلى الغرب والحياة فيه إلا نصوصا قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة كتبتها المرأة العربية، أذكر منها (حجر دافئ) لرضوى عاشور. وسوف يحتل نص (الأجنبية) مكانا مرموقا في هذا المتن السردي من حيث طرحه المغاير لموضوع الغرب/ الآخر وتفكيكه الدؤوب له، وتجريبيته السردية والنسوية في هذا المجال.
وقد برهن الراحل الكبير إدوار سعيد في كتابه العلامة (الاستشراق) أن الكتابة عن الآخر تكشف لنا عن حقيقة الذات الكاتبة وثقافتها، أكثر مما تقدم لنا أية إضاءات يعتد بها عن الآخر الذي تكتب عنه. وهو الأمر الذي ينطبق على كل كتابات «الاستغراب» العربية التي تناولت الغرب، أو تجربة العربي فيه. لأن أي دراسة لمسيرة هذا الميراث العربي الطويل الذي بدأ مع رفاعة الطهطاوي في (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) عام 1834، ولم يتوقف حتى اليوم، تكشف لنا عن تحولات الذات الكاتبة وتصوراتها عن نفسها وموقعها من العالم، أكثر مما تقدم لنا من معلومات يعتد بها عن الآخر الغربي. من هذا المنطلق نجد أن (الأجنبية) بنت تبدل تلك العلاقة الإشكالية مع الغرب في القرن الجديد من ناحية، وتغير طبيعتها الحوارية وتصورنا لها بعد كل استقصاءات نقد ما بعد الاستعمار الذي أرسى قواعده الفكرية إدوار سعيد من ناحية أخرى. بل إن النص نفسه يعي أهمية تلك الاستقصاءات في استهلاله «أتابع أعمال مؤرخي ومؤرخات ما بعد الخطاب الكولونيالي، فتستوقفني بعض المقولات التي يؤكدون من خلالها أن الخصائص المميزة للتاريخ الشفوي هي أنه لا يتناول ما قد حدث، بقدر تركيزه على المعنى من وراء ما حدث.» (ص7)
وهي عبارة مفتاحية تريد فيها لفت انتباه قارئها بأنها، وبالرغم من أنها لا تقدم خطابا شفهيا بل مكتوبا، تركز في (الأجنبية) هي الأخرى على المعنى من وراء ما حدث. وأهم المعاني وراء ما حدث من متغيرات في عالمنا العربي أولا وفي الغرب ثانيا، أن عالمنا العربي قد ران عليه التردي والفساد والهوان طوال العقود الأربعة الأخيرة. فقد تخلق فيه على مد ساحته المترامية من العراق شرقا حتى المغرب غربا، مناخ طارد يدُعُّ أكثر كائنات الواقع العربي حساسية وهشاشة، ويطردها من فضائه الذي تعمره البلادة والفظاظة والفساد. فلم يعد العالم العربي يبعث أبناءه إلى الغرب بهدف احتياز معارفه للاستفادة بها في بناء مشروعهم التحديثي. حيث كان أغلب أبطال تلك النصوص من (عصفور من الشرق) إلى (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي إلى (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس وحتى (موسم الهجرة إلى الشمال) طلاب علم يريدون التسلح به للعودة إلى بلادهم ولعب دور فيها.
بل بدأ هذا المناخ الطارد الذي عمّ العالم العربي، وطرد من أفقه أكثر أبنائه حساسية وموهبة ورهافة، لأنهم لا يستطيعون الولوغ بثقة وبجاحة في مباءات فساده، ينتج هو الآخر نصوصه المغايرة. فقد شهد الزمن العربي الرديء، ومنذ سبعينيات القرن الماضي خروج المثقفين خاصة من مصر في زمن السادات الرديء، ومن العراق منذ ثمانينياته، ثم من سوريا والسودان والمغرب واليمن وغيرها من البلدان العربية. وكان الكثيرون ممن أخفقوا في الخروج يغبطون من نجحوا فيه ومن استطاع منهم الاستقرار في أوروبا، دون أن يعرف الكثيرون منهم الثمن الروحي الفادح لهذا الاستقرار. وبدأت النصوص التي تتعامل مع تجربة العربي في الغرب تكتب تجليات هذا الثمن الفادح الذي حول الرحلة إلى منفى، منذ (الحب في المنفى) حيث كان الخروج الناجم عن المناخ الطارد لايزال، في بداية الأمر، يحفظ لمن خرج ماء وجهه، ويوفر له نوعا من الحماية الشكلية، فلم يكن العالم العربي وقتها قد تدهور بهذا الشكل الرهيب. لكن تلك الحماية الشكلية سرعان ما انتهت كلية مع (عباد القمر) لمحمد حسان، ووصولا إلى (بروكلين هايتس) لميرال الطحاوي، و(زمن الأخ القائد) لفرج العشة.
في هذه الأعمال الجديدة نكتشف أن الهوان الذي يتعرض له العربي داخل بلاده، يلاحقه حينما ينجح في الهرب منها إلى الغرب، لأنه ليس هوان الشخص، ولكنه هوان البلد كله الذي يمتد إلى كل من ينتمي إليه، سواء أكان مقيما أم مرتحلا. وفي (الأجنبية) شيء من هذا الهوان الذي تتصاعد حدته مع تصاعد الهوان العراقي بعد الاحتلال خاصة. وثمة كثير من التناظر في كتابته التي تنفض عنها كل أوهام الغرب القديمة، وتتعامل معه بوعي جديد فيه قدر كبير من العقلانية والتوازن، بين كتاب عالية هذا ورواية فرج العشّة التي تكتب هي الأخرى صنوفا من هذا الهوان،(23) مع الفارق الكبير بين خصوصية التجربة الألمانية عنده، والفرنسية عندها. لكن (الأجنبية) لا تكتب قسوة المنفى، وتعرض العربي فيه لشتى أصناف العنف والهوان من العربي المنفي – حيث يحمل هذا العربي تناقضات الوطن معه إلى المنفى – والغربي العنصري فحسب مثل محمد حسان وفرج العشة، ولكنها تكتب معهم أيضا عبء الوطن الذي يحمله هذا المثقف على كاهله، لا يستطيع أن يحطه عنه للحظة كي يستريح. وتكتب معه هشاشة المرأة وقوتها معا وهي تعاقر قهر الخوف/ الهلع/ الكرب/ الحنق/ ومتواليات المخاوف التي تكتبها لنا (الأجنبية) وهي مهددة في كل لحظة بالاقتلاع والطرد من هذا الفردوس الذي يحيله الوطن، وقد حجب عنها جوازها، إلى سجن. فسجن الوطن يلاحقها حتى وهي مقيمة في مدينة النور ووطن الحرية التي عمدتها الثورة الفرنسية بالدم قبل قرنين. كل ما يوفره الغرب، هو الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية التي لم تعد متاحة حتى في الوطن.
وأخيرا أعود إلى الفرضية البحثية التي طرحتها في بداية هذه الدراسة، من أن كل تغير في تصور الذات الكاتبة لهويتها الفردية أو القومية يرافقه تغير في استراتيجيات كتابة هذه الذات لسيرتها الذاتية. وهي الفرضية التي كشف تحليل النص عن طبيعة متغيراتها على الساحتين: الذات والكتابة معا. فقد أسفر الاهتمام بمحتوى الشكل، وفسيفسائية بنيته الموزعة في الـ«بيوت الروائية» عن إدراك مدى تشظي الذات وانحصارها في تلك الفضاءات المسوّرة: البيوت. كما كشف عن تجلي اضطراب الوطن في بنيته الزمنية التي لا تتقدم للإمام إلا للتراجع من جديد إلى الخلف. فكيف يمكن لإنسان عربي تتفكك أوطانه وتمور بالصراعات الداخلية أن يكتب نصا خطيا منطقي التسلسل، مفتوحا على المستقبل؟ لقد انسد الأفق أمام الإنسان العربي في الوطن وفي المنفى معا.
والواقع أن فسيفسائية البنية الموزعة في خمسة وسبعين بيتا هي أبرز علامات تحولات الهوية تلك، وأهم أعراض الداء الذي تعاني منه. فنحن بإزاء كتابة تستدعي كل ما قرأناه عن جماليات المكان عند باشلار، ولكن الخوف الذي يعمر نص عالية يفيض على كل البيوت الفعلية منها والروائية، ويجعلها غير قادرة على استيعابه وهدهدته، خاصة حينما يصبح هلعا. كما كشفت الدراسة عن أن المكان الأهم الثاوي خلف كل هذه البيوت الباريسية منها والبيروتية والعراقية هو العراق الوطن: عراق الخراب والدمار والعنف. لقد كتبت عالية ممدوح سيرة ذاتيه ترقش الذات في الوطن، كما تجذر الوطن في الذات، سيرة من النوع الذي ينتمي للقرن الحادي والعشرين: قرن التشظي والتفتت والمنفى.
هوامش:
(1) عالية ممدوح، الأجنبية: بيوت روائية (بيروت، دار الآداب، 2013) وسوف تكتفي الدراسة بذكر الصفحة بين قوسين في كل اقتباس من هذا النص، أما بقية الاقتباسات فلابد من العودة إلى الهوامش بشأنها.
(2) وردت في كتابه الكبير Wilhelm Dilthey, Thoughts on History: Pattern and Meaning in History and Society (1962)
(3) J.M. Coetzee, Doubling the Point: Essays and Interviews (Cambridge, Massachusetts, Harvard University Press, 1992), p. 252.
(4) راجع See Sidonie Smith and Julia Watson, Reading Autobiography: A guide for Interpreting Life Narratives (Minneapolis, University of Minnesota Press, 2001) ص 1
(5) راجع Philippe Lejeune, On Autobiography: Theory and History of Literature, tr. Katherine Leary (Minneapolis, University of Minnesota Press, 1989) ، ص 4.
(6) راجع Michael Sprinker, «Fictions of the Self: The End of Autobiography,» in Autobiography: Essays Theoretical and Critical, ed. James Olney. Princeton: Princeton University Press, 1980.
(7) راجع سيدني سميث وجوليا واطسون في المرجع السابق، ص 201
(8) Eakin, Paul John, ‘Relational Selves, Relational Lives: The Story of the Story’, in True Relations: Essays on Autobiography and the Postmodern, ed. by G. Thomas Couser and Joseph Fichtelberg (Connecticut; London: Greenwood Press, 1998)
(9) راجع Philippe Lejeune, On Autobiography: Theory and History of Literature, tr. Katherine Leary (Minneapolis, University of Minnesota Press, 1989) ص 20-19.
(10) راجع مقالة رولان بارت الشهيرة، موت المؤلف.
(11) راجع فيليب ليجيون، المرجع المشار إليه سلفا، ص 12.
(12) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(13) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(14) المرجع السابق، ص 13.
(15) صبري حافظ، «رقش الذات لا كتابتها: تحولات الاستراتيجيات النصية في السيرة الذاتية»، مجلة ألف: مجلة البلاغة المقارنة، عدد 22 عام 2002 (القاهرة، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2002) ص 7 – 33.
(16) راجع تناول Giovanni Pico Della Mirandola للموضوع في مقاله الشهير Oration on the Dignity of Man في كتاب N. J. Rengger, Retreat from the Modern (London: Bowerdean Publishing Co, Ltd, 1996) pp, 14 – 18.
(17) راجع المقتطف في كتاب ن. ج. رينجر، Retreat from the Modern، المرجع السابق، ص 16.
(18) فصلت الحديث عن هذه المجموعات الأربع في مقالي المشار إليه أعلاه عن «رقش الذات» ص 12 – 18. ولمزيد من التفاصيل عنها راجع Stuart Hall, “The Question of Identity” in The Political Reader of Cultural Theory (Cambridge: Polity Press, 1994), pp. 119 – 125.
(19) هذا أيضا هو ما تنهض عليه فلسفة تشارلز بيرس Charles Peirce حول النفس البشرية Semiotic Self والتي تتعامل مع الذات كإشارة مثل الإشارات اللغوية لها بنيتها المزدوجة أو الثنائية. لمزيد من التفاصيل راجع في هذا المجال: Norbert Wiley, The Semiotic Self (Cambridge, Polity Press, 1994) pp. 25 – 26.
(20) راجع Edward Said, Out of Place (London, Granta Books, 1999), p. xiii.
(21) صبري حافظ، المرجع المشار إليه سلفا، ص 12.
(22) راجع فيليب ليجيون، المرجع المشار إليه سلفا، ص 20.
(23) فرج العشة (زمن الأخ القائد، دار الآداب 2013).
———————–