كانت جميع النصوص، حتى تلك التي قدمت “حظرها ” على أرشيف صداقاتها الآفلة أو الخائنة، هن/ وهم/ لم يحسموا التباس موضوعة الصداقة من نظام حياتهم الشخصية أو الفكرية. في هذه الحلقة عليّ أن أشكر اللاتي/ والذين/ لم يفصحوا، أو، أو.. لكنهم كانوا بالنسبة لي الأكثر تشوشاً وحضوراً وتداخلا ما بين الصداقة واللاصداقة، ما بين السيرة الذاتية والسيرة الإبداعية. ولكن، هل فكر أحدنا، ولو على سبيل المزاح، الكتابة عن اللااصدقاء؟ ما علينا! وأنا أفرد جميع ما وصلني من مشاركات سخية وعميقة وشديدة المرارة، وبعد ضبط وتوزيع السياقات والأسماء الخ، لاحظت أمراً غاية في الإثارة
والتشويق: فنحن أسماء العلم من الكاتبات والشاعرات والروائيات والرسامات الخ، وهم أصدقاء التأويل والتنظير واللبسْ. الكتومين لمشاعرهم وعواطفهم، والفضاحين لمواقع كلامنا وخطوات أصواتنا وشفرات اسلوبنا. لاحظت نصوص الكتاب من النقادوالشعراء والروائيين الخ تستنطق المفهوم لمقاربة شذرات الصداقة فيخفي الكاتب مشاعره أو غدر صديقه. يكتب الرجل الناقد باحثا عن الحل ولا يعلن الحداد على موت الصديق أو يكابد من عثرات الصداقة. على الجانب الآخر، الشاعرة والرسامة والروائية، تكدح عاطفة، وتحكي عن انخطاف تلك المكابدة من الغدر فتعلن عبر نصوصها أسماء المخلصات من الصديقات، وهذا الأمر كان معدوما لدى زميلها الرجل. كانت متعة حقيقة قراءة أفكار ومفاهيم أصدقائي وصديقاتي وزملائي وأصحابي في نصوصهم وحسهم بالمسؤولية الراقية والاستجابة ضمن الفترة المحددة. للشاعرتين الصديقتين ارناؤوط وصايغ وكل منهما تعيش مكابدتها في النفي والترحل، وللفنان التشكيلي يوسف عبد لكي الذي أول ما خاطبته وهو يقيم في دمشق اجابني بسخريته اللاذعة ؛ مراجع صداقاتي هي القنابل والصواريخ. سأبعث لك ما أشاء وأنت أعملي به ما تشائين.وللسردّي العراقي الكبير محمد خضير الذي لم يغادر يوما مدينة البصرة. فكانت تظهر في جميع نصوصه وبحوثه وقصصة فتنة المعاني وسلطة للصداقة لمن لا يقيم ويقيم فيها، وبلا ضمانات إلا من عذابها. نحن لم نتلاق يوما، ولكن من يقول ذلك؟
الصداقات المستحيلة
محمد خضير
أميز بين نوعين من علاقات الصداقة الأدبية: شخصية عاطفية، وصداقة جيلية عابرة للأشخاص والأجناس والأزمان. النوع الأول مما يمسه الذبول والنسيان، كعلاقة غسان كنفاني بغادة السمان وعلاقة خليل حاوي بديزي الأمير. أما النوع الثاني فلا ينتهي أثره إلا بتدهور الأخلاق والقيم، وتبدل وسائط العلاقة، وغياب الصلات الشخصية الحميمة، كصداقة الجيل المهجري الأول وصداقة الجماعات الفنية وصداقة الجيل المهجري الأول وصداقة الجيل الأدبي في سيتينات القرن المنصرم. وإلى هذا النوع نعزو سبب تدهور علاقات الصداقة الأدبية، في وقتنا الحاضر. وقد لا نعبأ هنا بصداقة الأخويات السياسية وتضحياتها الأيديولوجية، فهي من نوع الصداقات التي تنفصم بانفصام العاطفة عن الأخلاق، وتقديم الموت على الحياة، والصراع على الحب. أفهم كيف علاقة قائمة على الفهم المشترك لقيمة العمل ونعمة العقل وخفة الروح، كعلاقة جبران بميخائيل نعيمة ومحمود درويش بسميح القاسم وعبدالملك نوري بفؤاد التكرلي، ولا أفهم كيف لا تنهار علاقة كبرياء الطبقة وشهوة السلطة والمال، كالعلاقة التي تربط رؤساء الدول فيما بينهم، وبينهم من يدّعي الأدب وصداقة الأدباء، ومثلها صداقة الناشرين للأدباء ممن ينشرون كتبهم. لم أستمتع في حياتي بصداقة كتلك التي وصلتني بنفوس لم ألتقها إلا مرات قليلة، ومازالت تستهويني بسماتها ولفتاتها وأحاديثها التي تخلفت من لقاءاتها النادرة. وما زالت في ذاكرتي عبارة كتبها يوسف الصائغ عن لقاء صحفي له بديزي الأمير، وقد خلفت هذه بعد مغادرتها في مكانه “رائحة طلع”. وما يزيد المتعة ويؤجج الرائحة أن يتخلف مثل ذلك الانطباع، في غياب الاثنين، عند من استتبع آثار الفرار والهجرة وراء خطواتهما وصورتيهما الباهتتين. كيف لي ألا أقيم صداقتي على آثار ذلك الجيل الأدبي، وألا تلفني الكآبة لفقدان تلك الآثار؟ أزعم مع نفسي أن “الغياب” الذي تملؤه” رائحة ” ما، رائحة الصورة أو النص المقروء لرجل أو امرأة، التقيتهما يوما، ثم فقد آثرهما، هو رابط عاطفي، وعقلي، يصلني بأقوى دلالات الصداقة المفقودة، بسبب تدهور الأخلاق وتدّني القيم وانقطاع الروائح، في عصر الميديا الحديثة. غالباً ما أقيم صلة أدبية بأصدقاء متفرقين حول العالم، لكني أفتقد دوما انطباعاً قوياً يتبقى بعد انقطاع الرسالة المنقولة عبر الشبكة التواصلية. ولا بد لنا من أن نقتنع بهذا القدَر التواصلي الذي يقطع الأوصال قبل أن يزيف الرسائل ببرودته وحياده وحتميته، عبر المسافات الافتراضية. وقد ينطبق هذا الشعور القدرّي على الصلات الجسدية التي تجمع أدباء القرن الحالي في بقعة جغرافية واحدة، حيث يزيد الانعزال وسوء الفهم والغرور من هوة الصداقة المستحيلة في ظل وجود “الغول الخفي” المفرٌّق لهم. عندما نتأمل المصير الكئيب لصداقة الأدبي، وقد خرقتها الأقدار الحتمية، أكثر من ذي قبل، لا يعود لنا أن نعجب من غلبة الكآبة على المتعة ذات الرائحة الحميمة، والاتصال الافتراضي على التلازم الحقيقي ؛ وإنه لقدر لا مردّ له أن يصنع لنا “الغياب” حضوراً خاليا من الروائح والأحاديث الحية، شبكة من الافتراضات البديلة عن صداقة الجيل، فكأننا نتسلم رسالة بلا حروف ولا كلمات كان البريد القديم ينقلها لنا من حبيب قديم أو صديق غير مقيم، وإنه لقدّر القانعين لكآبتهم يعتبرونها سمة الصداقة بدلالتها الجديدة…
البصرة..
—–
تراص بلورات الثلج أذكى من الإنسان
عائشة أرناؤوط
قبل أن ألامس على عجل الزوايا المتعددة التي يرسمها سؤال من هذا النوع، ربما علّي أن أستعيد جملة لم أعد أذكر قائلها: “بإمكان الجميع أن يسمع ما تقول، أما صديقك فهو يصغي إلى ما تقول، وأفضل الأصدقاء هو الذي يفهم ما لا تقوله”. قد استطيع البوح إذاً بأن معيار الصداقة، بالنسبة لي على الأقل، يعتمد على هذا المبدأ. في تلك الحالة من التماهي، يمكن، للحضور الملموس أن يكون وارداً حيث فراسة الصديق تحيلك إلى شفوف أمام عينيه، لكنه < أي الحضور > لا يستأثر وحده بذلك التماهي، هناك نبرة الصوت وحدها على الهاتف، ويأتي الرد: ما بك اليوم؟ هناك جملة قصيرة عابرة تكتبها على صفحتك لا تشير إلى ما أنت عليه فعلاً، وتصلك رسالة: هل أنتِ على ما يرام اليوم؟ وهذا ما يحدث معي من وقت وآخر -وبالتبادل- منذ زمن بعيد وحتى الآن. يحلو لي هنا أن أستشهد بتجربة علمية بحتة أصّلت لدي إيماني في هذا الإطار. لو جمعنا فوتونين معاً في علبة صغيرة ثم أطلقناها متباعدين بحيث تعادل المسافة بينهما آلاف السنين الضوئية، فإننا/ بالتجربة/ نجد أن كل فوتون يتصرف آنيا على توائم كامل مع تصرف الآخر، كما لو يعرف سريرته اللحظية. والمعضلة التي واجهها العلماء هنا تتمثل في أن وصول تلك “المعلومة” بينهما تتجاوز سرعة الضوء علمياً، وفي هذا انتهاك للنظرية النسبية. أعود إلى السؤال. لا أرى أن هناك تقاليد بالمعنى الحرفي للكلمة، بل بالاحرى تفاعل حيّ قد يوجد أو لا يوجد، حسب طبيعة الكاتب أو الكاتبة ومستوى وعيه لخافيته وإدراكه لجوهر وجوده، وكذلك تبعا لميله الذوقي إلى نوع إبداع من آخر. وأجد أنه لا يمكن أن تحقق صداقة فعلية مع الآخرين إلا بعد أن نتوصل اولاً إلى صداقة حميمة مع أنفسنا تجتث امراض الذات المُهينة لنا ككائنات واعية. لذا أتوقع بشكل عام -في هذا الخضم الذي يعيشه عالمنا حاليا والتنامي المتزايد للفردية الذاتية- اختفاء تدريجيا لهذا النوع من العلاقات الديناميكية، التي ساهمت في القرنين الماضيين مثلاً على إبداع مدارس فنية وأدبية تتوالد إحداها عن الأخرى سواء بسبب موقف مضاد أو موقف يريد تجاوز الموجود. قد نسينا أن تفرّد كل منّا عن الآخر المشابه لبلورات الثلج التي رغم عددها المريع ما من واحدة تشبه أخرى على الإطلاق، لكنها تبدو أذكى من الإنسان إذ إن حدسها في التراص يجعل الثلج متماسكا. حتى هنا أتحدث عن الصداقة المتبادلة في الحياة، هناك على الجانب الآخر صداقة تتنامى في الحياة والموت معاً. وهذا ما اكتشفته مع الثورة السورية التي كان لها الفضل في تعرفي الحميم على أصدقاء ما كان لي أن أعرفهم لولاها. منهم من يكتب دون أن يعتبر نفسه كاتباً فيضع كتاباته في زجاجات صغيرة ويرميها في بحاره الشبحية، فتؤجج أفكاراً لدى الآخرين، ومنهم من يموت كل يوم ليعيد جبل رماده في الغد. صداقة فريدة من نوعها، فهي في احتمالاتها اليومية بين موت وحياة وفي آنيتها المعطاء الثرية تغدو شيئا يستحق اختراع تسمية تقارب التناضح. خلال السنوات الأخيرة أعيشها بكثافة.. وللأسف فقدت عدداً منهم على حين غرة! أعيشها بالإضافة طبعا إلى أصدقاء الحياة الذين يشاركوني الاستمرار في السير على حبل ممدود فوق هاوية رغم تباعد غايتنا الأولى والتي ما زالت نصب أعيننا.
باريس.
____
علاقات الصداقة تتسم بالإكراه و…
يوسف عبد لكي
تطرح علاقة الكاتب بالرسام بالناقد الخ جملة من الاشكالات دفعة واحدة، غير أن المقاربة اللصيقة للموضوع تحيلنا دون تلكؤ إلى انواع من الصلات التي تتسم بالإكراه والتهديد والعنف والابتزاز الدائم. فتبدو في رأيي علاقة قائمة على الحب والكره، والاعجاب والنفور، على الرغبة في تشكيل ثنائي والسعي الدائم للهروب من ذلك.
دمشق…
—–
إنها صديقتي…
مي صائغ
شخصيا لم أعرف بأن هناك تقاليد للصداقة بين الكاتبات والروائيات والشاعرات الخ حتى تكون في طريقها إلى التلاشي أو الإزدهار، لأن الصداقة لا تحكمها تقاليد حيث تتغذى بتقارب الآراء والأذواق والمشاعر. لقد كان دوري شخصيا إلى جانب حقوق المرأة وتعزيز دورها في النضال الوطني وعطائها الأدبي والفني، وهي صديقتي التي تفرحني بكل انتاج أو عطاء جديد.
المملكة الأردنية، عمان..
السبت 19 ذي الحجة 1436 هـ – 3 اكتوبر 2015 م – العدد 17267
http://www.alriyadh.com/1087565