حين قرأت رواية “المحبوبات” لعالية ممدوح تبيَّنتُ ملامحَ أسلوبٍ خاصّ دفعني دفعاً قويّاً إلي اختبار الأدوات النقدية التي أستخدمها في تحليل النصوص الروائية وفق المنهج الجمالي. ولعلَّ أهمَّ ما يجذب الانتباه من هذه الملامح أنَّ الكاتبة تُثير قضيَّةً من خلال جُملةٍ وامضة لاتلبث أن تقودُكَ، وهي تُخاطِبكَ بِلُغة صريحة غير مُوارِبة تُدعي في مُعجَم المُحرَّمات “فاحِشة”، عَبْرَ شِعابٍ مُتشابكة فتتبعها وتُنصِتُ إليها من دون أن تنشغِل بأحداث القصَّة وتوتُّرها وحلِّها المُرتَقَب. وجاءت قراءة روايتها الأخيرة “التشهِّي” المُكمِّلة للرواية الأُولي فعزَّزت هذا الملمح من جانب، وأكثرتْ تساؤلاتي النقديّة عن طبيعة البِنيَة الحكائيّة في الروايتَيْن من جانبٍ آخر. إذ سُرعان ما يقفِز إلي الذهن أمر القصّة التي تُحكَي فيهما، وغايتها، والعِبرة التي يُمكِن للقارئ أن يستخلِصها منها. وفي الواقع فإنَّ المُشكلة تتَّصِل بطريقة القراءة في التعاطي مع نصٍّ مُتدفَّق دُفعةً واحدة لا تُهيِّئ للقارئ أن يُميِّز حدوداً واضحة بين المُتواليات السرديّة المُتداخلة. لذا يتعذَّر تحليل النَّصَيْن من وجهة نظر القصَّة المحكيّة، أو أنَّه، في أحسن الأحوال، لا يكشِف شيئاً يُذكَر من جوهر الهمّ الإبداعي للكاتبة. ممَّا يستلزِم استعداداً جديداً في تلقّي النصّ والتآلُف بِصَبْرٍ مع منطِقه ووقْعِه وتفسيره بالاستناد إلي مُعطياته التي تُسوِّغ قراءته بهذه الوِجهة أو تلك. ولئن كانت القراءة الجماليّة قائمة علي كشْف سبُل التفاعُل الشعوري بين القارئ والكاتب وتحليل مدلولاته، فسوف نتناوَل الروايَتَين المذكورتين من زاوية تكوين البنية الداخلية وتنسيقها بوسائل الفنّ الروائي علي الخلفيّة العامّة المُعادِلة لِما يُمكِن أن نُسمِّيه بـِ “الفكرة الجمالية” التي تُفضي إليها التفرّعات الدلاليّة كافّة.
تبدأ الروايتان بما يُشبه حدثاً عابِراً : تحكي “المحبوبات” عن نادر آدم ابن سُهيلة أحمد الذي قدِم من كندا لِيري أُمَّه الراقدة في مشفي باريسي إثر إصابتها بجلطة دماغية، تحوطها مجموعة من الصديقات المحبوبات. بينما تبدأ رواية “التشهّي” بِواقعةِ اختفاء العضو الذكَري لِسرمد برهان الدين وسعْيِه للبحث عن السبب ومُعالجته.
يوحي الانطباعُ الأوَّل باستحالة تحويل حادثتين بسيطتَين إلي مادّة سرديّة كافية لانفتاحِ أُفقٍ روائي. غير أنَّ تأمُّلاً مُتأنِّياً للنَّصَين يدلُّ علي خطّة الكاتبة في تكوينِ بنية العالَم الروائي وتوزيع عناصره. فقد اختارت لحظةً حاضِرة وجمَّدتها، لِتعود من ثَمَّ إلي الذاكرة وتفتح مجراها الذي يتدفَّق بماضٍ يصُبُّ في بركةِ هذه اللحظة المُغلقة ويُدوِّم فيها من دون أن يتوقَّف. وتنطلِق الخطّة من الومضةِ السردية الخاطفة التي أشرنا إليها : “في المطارات نُولَد، وإلي المطارات نعود” (المحبوبات، ص 7)، “إليه…وَ” (عنوان الفصل الأوَّل من التشهِّي، ص 5).
ذاكرة نادر، وذاكرة سرمد
إنَّما تجدر الإشارة إلي أنَّ مُقابل انسداد أُفُق اللحظة المُختارة، ينفتِح فِعْل القراءة علي آفاق عديدة تمضي من أعماقِ ذاتِ القارئ إلي أقاصي قُدرته علي التأمُّل وحاصِل تجربته الثقافيّة والجماليّة. ويتأتّي هذا الانفتاح من سرد الفِعل المُنجَز علي صورته المُختَزنة في الذاكرة (ذاكرة نادر، وذاكرة سرمد بالدرجة الأُولي)، وليس من سرد أحداثٍ متسلسلة ضمن المنطق الزمني. ولمّا كان هذا السردُ ثمرة تنسيقٍ خفيٍّ في أغلب الأحيان، سنعمد إلي تناوُلِه في كُلِّ رواية علي حِدَة لكي يتسنّي لنا من بَعدُ أن نُجمِل استنتاجاتنا في خُلاصةٍ عامّة تُضيء ما أمكن جوانبَ تكامُل النَّصَين دلاليّاً، وما يذخُرانِ به من الإيحاءات المخبوءة وراء الكلِمات أو بين السطور.
1 ـ الخلفيّة وثباتُ الزمن في رواية “المحبوبات”
من المعروف أنّ مفهوم الخلفية يخصُّ المسرح والفنّ التشكيلي أكثر ممّا يخصّ النصّ الروائي. فالخلفية في المسرح هي الجزء الأكثر بُعْداً عن المُشاهدين الذين لا يُعيرونها اهتماماً يُذكَر بالقياس إلي الواجهة، لكنّها تُسهِم في تكامُل المشهد بحسب وجهة نظر المُخرج كما أنّها ترسم الخطّ المكاني الفاصل بين عالَم الواقع وعالَم الحكاية المُشخَّصة أو المُمَثَّلة. وهي في الفنون التصويرية انعكاسٌ للمنظور أو المنظورات التي يعتمدها الفنّان في تأليف عمله. أمّا خلفيّة النصّ الروائي فتُمثِّل ما أسميناه بالفكرة الجمالية (أي التصوُّر الإبداعي لِظاهرة من ظواهر العالَم الموضوعي) التي تنبني عليها سيرورة السَّرد، وحركة المواقف المتأرجحة بين التصادم والتقاطُع والتلاقي. ومع ذلك وجدنا أن استخدامه هاهنا يُتيح إدراكاً أبعد لِهذه الرواية وخصوصاً في بِنْيتها الدلاليّة القائمة علي علاقة تضادّ لا تنِي تولِّد المُفارقة تِلْو الأُخري. العلاقة المعنيّة تتَّصِل بِزواج سُهيلة أحمد التي تعمل راقصةً في مسرحِ والدِها في بغداد، من ضابِطٍ عِراقيّ، وإنجابها منه ولَداً أسمتْه “نادِر”. وقد نشأت من هذه العلاقة مُعادَلة أَبعادُها مُتعدِّدة لكنَّها مشدودة إلي خلفيّة واحدة : صورة العِراق.
أمَّا تعدُّد الأبعاد فعائدٌ إلي أنَّ الرقص ليس مُدرَكاً في سياقٍ واحد؛ إذ تختلِف النظرةُ إليه بين الفنّانة التي تُمارِسُه، والأب، المُخرِج المسرحي الذي يُريد استغلالَه لِصالح مسرحِه، والضابط الزوج الذي يستنكِرُه نظراً لِمساسِه بمفاتن الجسَد العائدة إليه وحدَه. بَيْد أنَّ الجسَد يظلُّ المِحور الذي تدور حولَه النظرات المُتباينة وما ينِدُّ عنها من توتُّر دلاليّ. أَوَليسَ الرَّقص فنّاً جسَديّاً طالما رُفِضَ، من منظورٍ مُحافِظ، أو دينيّ، أن يكون جسَد المرأة موضوعاً لهُ، يُبتَذَل إذ يُعرَض أمام الناس ؟ بينما يذهب المُحدَثون إلي أنَّه فنٌّ يُحرِّر من الخجل، والخوف، والعار لأنَّه يُظهِر التساوُقَ بين القوّة واليُسْر في حركة الجسَد التي يُمكِن أن تكون مُغريَة، أو جذَّابة، أو مُثيرة تِبعاً لِمستوي الأداء وغايته.
ومع أنَّ حركة الراقصة قد تكون غاية في ذاتها، فلا يُستدَلُّ عليها بِمعزلٍ عن الجسد الذي هو عِلَّة وجودها. ومِن هُنا وجدتْ سُهيلة أحمد في هذا الفنّ منفذاً لوثوبِ ذاتها وترجمة مشاعرها وأفكارها، ليس من حيث كونُها فنَّانة وحسب، بل من حيث هيَ أُنثي أيضاً. ووجد فيه والِدها حاجةً لِمسرحه، علي حين أنَّ زوجها الضابط رأي فيه خصماً لِرجولته، وعدوّاً لسُلطته المُتعاظمة مع ارتقائه في سُلَّم الرُّتَب العسكريّة، وانتشائه بانتصاراته المُتتالية المزعومة علي جبهات القِتال. لكنَّه منذ البداية مكشوف أمام زوجته : ففي السرير ينأي عن المِقدام الشُّجاع الذي كانَه توّاً في المُعسكَر. ولا غرابة في هذا مادامت علاقتهما قائمة منذ لحظاتها الأُولي علي التنافُر المُتمثِّل في صورةٍ لا تُقلِّل طرافتُها من عُمق دلالتها: “… أطلقَ عليَّ اسم الرَّصاصة القاتلة، وأنا أسميتُه بُندقيّة الصيد [….] جميع رسائلنا الغراميّة كانت تغرِف من القاموس العسكريّ […] كان يضع الرسائل التي تبادلناها، في فترة الخطوبة القصيرة، في أمشاط المُسدَّس فتفوح منها رائحة البارود” (المحبوبات، ص 11).
لقد فرض القاموس العسكري علي كُلٍّ منهما أن ينفصِل عن الآخر انفصال “الطلقة” عن “البُندقيّة”، لكي يخوض معركتَه الخاصَّة. وإذ كانت معركة سُهيلة واحدةً في سبيل فنِّها، فإنَّ معركة زوجها الضابط معركتان : معركة غير محسومة علي الجبهة العسكريّة، ومعركة محسومة سلَفاً ـ ولو إلي حين ـ علي الجبهة الزوجيّة ضِدَّ جسَدٍ ينزع إلي أن يفلت من قبضته. محسومة بِقوَّة “الكرباج”، والرَّفس، والضَّرب، والسِّلاح. فما دام الرَّقص يوفِّر للمُشاهدين التمتُّع بالنظر إلي جمال الجسَد في انسيابِ حركاته التي يستحيل فصلُها في ذهنه عن الإغراء والشَّهوة الجنسيّة، فإنَّ الجلْد كفيلٌ بتعطيل حركته، وتجريده من جماله الشكلي. وهو، بوصفه الضابط الرياضي، أكثر من يُدرِكُ جمال الجسَد وتأثيره السِّحري في النفوس. لكنَّ ما يُدرِكه لا ينفَذ إلي الطاقة الروحيّة التي تمنح الحركة الجسديّة روعتَها، طاقة الفنَّانة والأُنثي التي ظلَّ يجهلُها في السرير وخارج السرير. وعليه فإنَّه أوهنَ الجسَد وشوَّه شكلَه، ولم يدُر في خلَده أنَّ الرقص فنٌّ وإرادة، وأنَّ القتال علي جبهته لايقِلُّ سخونةً ولا إقداماً عن القتال علي الجبهة العسكريّة : قد تفتُكَ الأسلحة بآلاف جنود الأعداء، ولا تُحقِّق انتصاراً إنْ هي لم تفتُكْ بإرادة القتال. إذاً معركتا الضابط غير محسومَتَين علي الرَّغم من احتفائه بالنَّصر العسكري وإرغام زوجته وابنه علي مُباركةِ زُهوِّه العارِم كما يفعل شُبَّانُ العراق. هاهو نادر يتذكَّر ماقالته له أُمُّه في ذلك اليوم : “انظُر جيِّداً يانادر. هؤلاء الشُّبَّان سيقتلون أنفسهم وهم يهتفون للنصر.”. توميء بيدها وعيناها تدمعان. تُلاحِق الحشود عبر شاشة التلفزيون في مُنتَهي الرُّضوخ، وتستطيع أن تهيم وسَطَهم […]. تريد اكتساب مهارات جديدة لكي تستطيع التمييز بين النَّصر وغيره من التسميات كان النصر كما بدا لها يوماً، يُفضِّل الوقوف علي قدَمَين قويَّتَين. تفِزُّ حين تُفكِّر في هذا، فتقف بطريقة عسكريّة فيبدو جِسمُها واهناً جدّاً. أين ذهب ذلك الجسم القويّ والمتين ؟ كانت تُريني صُوَرها وهي علي خشبة المسرح، تقول : “يتوزَّع الدّم في شراييني بِقوَّة الفنّ، لابِقوَّة الحركة.” (المحبوبات، ص، ص 35، 36). يتَّضِح من هذا الشاهد المِفصلي في الرواية أنَّ معركة الزوجَين (معركة الضابط الباحث عن تعطيل الجسَد والراقصة التي تُجاوِز عطالة الشكل بقواعِد الفنّ) محصورةٌٌ بعلاقة التضادّ المُغلقة، لأنَّها محكيّة ضمن إطار زمنٍ عمودي لاأُفقي، زمَن مُلتَقَط في لحظة ثابتة ترصُد خُلاصة وضْعٍ مُكتمِل التكوين لا يقبل تعديلاً ولا يخضع لتقلُّبات الواقع. وما عسي أن يكون مآل معركةٍ يقودُها ضابطٌ يفرض الانتصار في بيته فرضاً، ولا يقبل أن تغفو زوجتُه “غفوةً علي كُرسيّ، أن تسهو قليلاً، فتخاف أن يُغمي عليها أمامه وهي تُشاهد بُخار النصر ينبعِث من خياشيمه، في أوقات فُطوره وغدائه وعشائه، كُنّا نُرسِل إليه وجبات مُضاعَفة إلي المُعسكَر. كان الأمر مُضحِكاً؛ فهو يزداد سِمنةً، وهي تزداد نحافةً إلي حين غادرنا بغداد.” ؟! (المحبوبات، ص 37) المعركة التي أقامتها الكاتبة أعطت مفعولاً بالِغ الدلالة؛ إذ جاء النصر هزيمةً تُعرِّي أوهاماً فاضحة: أنجب الزوجان ولَداً نادراً للغُربة والتمزُّق بين المسافات الجغرافية والثقافية، بين أُمِّه، وزوجته الآسيوية، واللغة العربية التي ينبغي أن تُميِّز هُوية ابنه. والضابط الطاووس يقع أسيراً ويختفي، والأمّ تغترب عن وطنٍ غدا، كما غدا زوجها الضابط، مُجرَّد ذكرياتٍ مبثوثة في ذاكرة ابنها الذي تولَّي سَرد أغلبها في الرواية، أو في ذاكرة صديقاتها المحبوبات. ولمّا أفرغت ذاكرتها تعطَّلت فاعلية دماغها، فدخلت رُواق الموت من باب الغيبوبة.
للموضوع تتمة
هذه التعرية هي التي تخلع علي الرقص مدلولاته العديدة النابعة ممّا يبعثه في الجسَد والروح معاً، وهي الشُّعاع الذي تتجمع فيه حُزمة الضوء المُنعكِس علي الخلفية العامّة للرواية. فالرقص ليس مهنةً تُزاوِلها سُهيلة في مسرح والدها، بل هو امتداد وجوديّ للإنسان العراقي المُتحضِّر، أوَّل من عرف الرَّقص المُقدَّس. تقول إحدي محبوبات سُهيلة : “كانت تسكُنها روح الرقص العِراقي القديم، من طقوس السومريين حتّي الوقت الحاضِر. تعتبِر الرَّّّقص طريقة للتحرُّر ولِرفع النَّبْذ عنها بالدرجة الأُولي وعن بلدها” (المحبوبات، ص 77). لكنْ هيهاتِ ! فمن أين تعود الوحدة، داخل سُهيلة، بين الجسدي والروحي، بين الجماليّ والمُقدَّس بعد أن حطَّمت الغُربة مانجا من جبروت الضابط ؟!
هاهُنا تتقابل مُعادَلتان من التضادّ الدلالي الداخل في نسيج البِنية الداخليّة للنصّ : من جهة، الرقص الذي يُمثِّل الانفتاح علي العالَم، والقمع العسكريّ الذي يُمثِّل الانغلاق الكامل علي الذات، ومن جهةٍ ثانية العيش في أوروبا الذي يفترِض انفتاح الذات، والاغتراب الذي يشدُّ الذات للانغلاق علي المكان المفقود المُختَزَن في الذاكرة.
هاتان المُعادلَتان تُفسِّرانِ لنا إخفاق سُهيلة في رقصتها الشبقيّة مع “فاو”، واكتشافها أنَّها خاوية ومعطوبة. كذلكَ تُفسِّران لنا أنَّ سبَب جلطتها الدِّماغية إنَّما هي بغداد التي كانت تجلِبُها بِفِعل التذكُّر إلي كُلِّ مكانٍ عاشت فيه مع محبوباتها، لكي تبقي ولا تموت : “إذا كان ثمَّة شيء صرَع سُهيلة فهو بغداد”. وهكذا ينغلِق الزمن الروائي علي طرفَي المعادلَة : الوطن المُبدَّد في الواقع ، والوطن في الذاكرة. ويُختَم عليه بإشارة استفهام هائلة.
2 ـ لُغة الجسَد بين صدمة القراءة ولذَّتها في رواية “التشهِّي”
تمثَّلت لُغة الجسَد في المحبوبات من خلال فنّ الرقص الذي يُترجِم الداخِل بِعلامات الحركة الخارجية وإيقاعاتها. وما من شكَّ في أنَّ انحناءات جسم الراقصة، واستداراته، والتفاف الثياب حولَه تُمتِّع النظر، وتجلِب للناظِر لذَّةً مُباشرة من الصعب أن تتواري آثارها الحسيّة التي قد تبلغ حدَّ الإثارة، مثلما حصل في رقصة سُهيلة مع فاو. هذه اللذَّة موجة تلتقطها العين، ويُحلِّلها الذهن، وتهتزُّ لها المشاعر. وإذا ماتدخَّل الخيال غدا من المُستحيل تحييدها، وتغييبها وكأنَّ شيئاً لم يكُن. صحيحٌ أنَّ الرقص من الفنون الجميلة، وإذا ماترافق مع الموسيقي، كما هي الحال غالباً، يُنطِقُ مقولاتٍ جماليّةً رفيعة يتِمُّ تذوُّقها تذوُّقاً فِكريّاً لايختزِلُها إلي مُجرَّد مُحرِّض للغريزة. لكنْ لا بُدَّ أن تكون تجربة الإنسان الجماليّة مصقولةً، وثقافته عالية حتّي يُغيِّر مسارَها أو يُصعِّدها لتبلُغ هذا المستوي. لذلكَ نجِد أنَّ ما أغاظ الضابط وجعله يَصُبُّ جام غضبِه علي زوجته كامنٌ في إدراكه أنَّ الرَّقص يُدغدِغ الغريزة الجنسيّة عند المُشاهدين. والحال أنَّ إشباع هذه الغريزة، والجلوس علي عرش الفحولة لا يتماشَيان مع ذاتٍ مُنكسِرة انكسار الزوجيْن الذي أمسكنا ببعض أطرافه في تحليلنا السابق. إذاً ما المانعُ، والحال هذه، من رأبِ الصَّدع بوسائل أُخري، ولُغة كاشفة لا واصفة، مُباشرة لا مجازيّة : بِعُرْيِ الجسَد الضاجِّ رغبةً، ولُغته العارية كذلك ؟ من هذا الباب، نري أنَّ رواية “التشهِّي” مبنيّة علي رواية “المحبوبات”، ومُكمِّلة لها باتِّجاه العُمق أو التفاقُم السَّردي، وليس باتِّجاه توالي قصّتَين وتَلاحُق مَشاهِدهما. أيّ أنَّ ماسوف يصُبُّ من تيارات الذاكرة في البركة المُغلقة لِلَّحظة التي جمَّدتها الكاتبة (لحظة اختفاء العضو الذكَري لِسَرمد)، مُستخرَجٌ من طبقاتٍ جوفيّة، وأنفاقٍ بعيدة الغَوْر تتطلَّب عُدّةً للحفْر وفتْح المسارِب أكثر تطوُّراً من تلكَ التي استخدمتها الكاتبة في “المحبوبات”. فما طبيعة هذه العُدّة، وما مقدار إسهامها في تنفيذ الخطّة السردية في رواية “التشهِّي” ؟ قبل الإجابة علي هذا السؤال، تجدر الإشارة إلي أنَّ كونَ اللُّغة عِمادَ البنية الداخلية، والبرنامج السّردي لـِ “التشهِّي”، يوجِب تحليل دورها التكويني من خلال علاقة الألفاظ بما تُعبِّر عنه من المشاعر والرغبات، وبما تترك من ترجيع في ذهن القارئ، وفي ذاكرته. استناداً إلي هذا، سنشرع في دراسة عنوان الرواية، واسم بطلِها علي الصعيدَين المُعجمي والدلالي. ثُمَّ سنعود إلي صدمة قراءتها واللذّة الناجمة عنها.
آ ـ عنوان الرواية : التشهِّي
ليس عنوان الرواية، بصورةٍ عامَّة، مِفتاحاً نُلقي بهِ جانباً بعد أن ندخُل النصّ، ونستبعد أن يكون مُلحَقاً بالنصّ أو من لوازمه كما تُفيد ترجمات المُصطلح الفرنسي paratexte، بل هو من صميم النصّ وذو قيمة دلاليّة تُشدُّ إليها دلالات الرواية المُندفعة في مجري السَّرد. تأكيدنا لِهذه النُّقطة يقودنا إلي أمرِ وجهة النظر الجماليّة في اختيار العنوان الذي يلفِت القارئ، ويُضطَّره إلي التفكير العاجِل بمعنيً قلَّما يرِد في الكلام والنصوص. عندئذٍ ـ حتّي لو لم يَنْوِ قراءة الرواية ـ تنشأُ في ذهنه عملية مُقارنة بين الفعل المُستخدم ومُشتَّقاته (اشتهي، اشتهاء، شهوة، شهيّة، شهِيّ، شهواني …) من ناحية، والكلِمة الطارئة وأصلها ومعناها (تشهّي، تَشَهٍّ …) من جهةٍ ثانية. إذاً ما الآصرةُ المُحتمَلة بين العنوان والبنية الداخليّة للرواية ؟ وردتْ مُشتقَّات الجذْر “شَهَوَ” ثمانين مرّة في مَتْن “التشهِّي” بين الصفحة الثامنة، والصفحة الخامسة والخمسين بعد المائتَين، بينها ثلاثة عشر مُشتقّاً من التشهّي، بين الصفحة الثامنة، والصفحة الخمسين بعد المائتَين. ممّا يعني أنَّ استخدام هذا الاشتقاق علي امتداد النصّ تارةً بصيغة الفعل المُضارع (أتشهّي …)، وتارةً بصيغة المصدر في المُفرَد والجمْع (تشهٍّ، التشهِّي، التشهِّيات)، وثالثةً بالتناوُب مع مُشتقّات الفعل “اشتهي”، يُدخِلُه عُنصُراً مركزيّاً في مُركَّب البنيَة الدلاليّة للرواية يجعلُها مُتجانسة لُحمةً وسُدي. وفي هذا السياق، لن يكون وارداً، لا جماليّاً، ولا تقنيّاً، أن يُعَدَّ الاشتقاق من جُملة التنويعات اللفظيّة والترادُف. هذا علي الرغم من أنَّ المعاجم العربية تُعرِّف فِعلَيْ “اشتهي، وتشهّي” بِمحبّة الشيء والرغبة فيه. غير أنَّ تعريف “لِسان العرب” للتشهِّي بأنَّه “اقتراحُ شهوةٍ بعد شهوةٍ، يُقالُ : تشهَّتِ المرأة علي زوجها فَأَشْهاها، أي أطلَبَها شهواتِها”، يرسمُ حدود السِّياق الجنسي الذي تُستخدَم فيه لفظة “التشهِّي” حيث يبرزُ الاختلاف في الدرجة بين معني الفِعلَين : بين الشهوة والتشهِّي. فالشهوة رغبةٌ، والتشهِّي رغبةٌ مُفرِطة نزَّاعة دوماً إلي الارتواء.
النزوعُ إلي الارتواء هنا هو الذي يعنينا؛ لأنّه يرهنُ العلاقة بين الرغبة وموضوعها. حيث إنَّ استجابة الموضوع المرغوب للرغبة تمنحُه قيمته التي تُقاس بإشباعة للحاجة إليه. فلو افترضنا أنَّ المرأة، في المِثال المُعجمي السابِق، تشهَّت علي زوجها، ولم يقدِر علي تلبية طلبِها المُلحّ، لَاختلَّت قيمةُ “الزوج” المتكوِّنة لديها قياساً إلي ماتوارثتْه، أو إلي ماعرفته بالتجربة المُباشرة عن “الفحولة”. وبصرف النظر عمّا يُمكِن أن يؤدِّي إليه هذا الاختلال الطفيف أو الواسع، تبقي مُشكلِة إشباع الرغبة الجنسيّة من الشواغِل العميقة التي تدخل فيها ضروبٌ عديدة من تقويم اللذّة التي يؤمِّنها الموضوع المرغوب بوصفه طرفاً خارجَ الذات، طرفاً مُستقِلاً عن إرادتها.
ما يشِي به العنوان ليس الرغبة الجنسيّة، بل الشهوة المُنفلِِِِِِِتة، والرغبة القاتلة التي سوف نري، في السطور اللاحقة، كيف نسَّقت الكاتبة دلالاتِها الجزئيّة والعامّة، وكيف رَبطتها باسم سرمد، واختفاء ذكَرِه، وبخلفيّة الرواية في آنٍ معا.
ب ـ اسم بطل الرواية “سرمَد بُرهان الدين”
من الثابت أنَّ اختيار الأسماء في الرواية يلتقِط ذُري الإيقاعات الدلاليّة، ويُكثِّفها في كائنٍ مسمَّي يعنينا أمرُه، فنُصغي إليه، وننساق وراءه بِدافع الفُضول وإعمال الخيال لِمعرفة عِلَّة تسميته. فالاسم ينتشِل الشخصيّة الروائية من العدَم، ولذلك يقول “رولان بارت” إنَّه أميرُ الدَّوالِّ. ولِكونِ الأسماء في هذه الرواية مُثقلَة بالدلالة، سوف نقِف فقط علي ماقصدته الكاتبة من تسمِيَة بطل روايتها بِـ “سرمد”.
في اسم “سرمد” تنزلِق الدلالة من المعني الديني إلي معانٍ مُتفرِّقة لاتجمعها إلا شخصيّة كالتي تخيّلتْها عالية ممدوح وشبكتها بِكثرةٍ من الخيوط الرمزيّة الرفيعة. فالسرمديّة ليست من طِباع البشر. لذلكَ أخلي الفِعل “سرمد” مكانه في التداوُل اللغوي عند العرب لِفعل “خلَّد”. وغاية الانزلاق التي ابتغتها الكاتبة لاتُسِفر عن وجهها إلا إذا عرفنا أنَّ بطلَ الرواية، مُثقَّف يساري (شيوعي سابق يعملُ مُترجِماً) مزهوّ بقُدراته الجنسيّة، كان أبوه “برهان الدين” خيّاطاً بغداديّاً، وأخوه “مُهنَّد” رجُل مُخابرات.
قيمة هذه المعرفة أنَّها تُرِي سُلطانَ الجِنس الذي يظهر أنَّه يُقصِي همَّيْ السلطة والانتماء السياسي إلي مواقع خلفيّة، ولكنَّه، في الواقع، مُتَّصِل بهما اتِّصالاً عُضوياً. حتّي إنَّ نُواة الاتِّصال ليست الجنس بِقَدْر ما هي السلطة، سلطة الجِنس بوصفه فحولة مُسيطِرة يُمثِّلها سرمد، وسلطة العقيدة السياسيّة كما يُمثِّلها سرمد ورفاقه الشوعيُّون ، وسلطة المُخابرات كما يُمثِّلها مُهنَّد. ذلكَ أنَّنا نعُدُّ الأخوَين تجسيداً لِخصائص شخصيّة ازدواجيّة تضرِب جذورُها البعيدة في تُربة شخصيّة الضابط، زوج سُهيلة أحمد في رواية المحبوبات.
نحنُ إذاً أمام ثلاثة وجوه لِعُملة واحدة هي السُّلطة التي تُعرَّف بأنَّها رغبةٌ إذا ما تورَّمتْ يغدو إشباعُها جُنوحاً إلي تخليد اللذَّة الناتجة عنها. فَـ “سَرمَد” يحرِص علي أن يظلَّ في وسطه احتدامُ البركان بين انتعاظٍ، وإيلاجٍ، وإفراغٍ. وبذا ينصِب عرشه علي الفُروجِ بين أفخاذ النساء : يَتَسرمَدُ. أجل يتسرمدُ جنسيّاً مثلما تسرمد سياسيّاً حين تجمَّدت عقيدته الشيوعيّة، في جُملة من الشعارات التي نصَّبت النضال وصيَّاً علي الذكاء (التشهِّي، ص 60)، ودخلت حتّي في طريقة المُضاجعة (التشهِّي، ص 246). والأدهي أنَّ الشيوعيِّين العرب تعبَّدوا بِشعارات شوَّهتها الترجمة، وليس بشعارات أصليّة تستند إلي خلفيّة فلسفيّة مكينة. لقد تَوارَوا وراء نظريّةٍ لم يتمثَّلوا كُنْهها، تماماً كما يتواري المُترجِم “سرمد” وراء الكُتَّاب الذين يُترجِم لهم. يعيش في ظلِّهم غير مُتقيِّد بدقَّة ماتقولُه نصوصُهم، واهِماً أنَّ الترجمة مقرونةٌ بالخيانة، وأنَّ الخيانة فيها أهونُ من الخيانة في الفِكْر ! (ص، 143). فأيُّ انتقادٍ للشيوعيِّين العراقيين يفوق هذا الانتقاد وخزاً وإدانة وتلمُّساً لِموضِع الداء : أليستْ التطبيقاتُ العاهرة للشيوعيّة بِنتَ ترجمة الفِكر الماركسي القاتلة ؟ !!!
كذلكَ يغدو سرمد مُعادِلاً لِبركة اللحظة المُغلَقة التي قامت عليها البنية الداخلية كما بيَّنا سابقاً : كما تُدوِّم فيها تيارات الذاكرة المسرودة إلي مالانهاية، تُدوِّم في داخله فَورةُ التشهِّي المُتحوِّل من الجِنس إلي الأكل. لكنْ كيف ؟ هاهُنا تنصهِر دلالة العنوان في دلالة اسم “سرمد” لِتدفع إلي ذهن القارئ فحوي العلاقة بين الرغبة وموضوعها. ذلكَ أنَّ الرغبة الجنسيّة المُفرِطة المُتربِّصة بِسرمد كانت تُلقي به في حمأة التشهِّي الذي يتطلَّب الارتواء. وكانت أداتُه الفريدة في الوصول إلي غايته ماثلةً في عُضوِه الذكريّ الذي يكتسب قيمتَه من وظيفته المحصورة في تحصيل اللذَّة. ولمّا كانت قيمة سرمد، عند النساء اللواتي ضاجعهُّنَّ، مُستمَدّة من قيمة عُضوِه، صار من غير المُمكِن أن يوجَد من دونه. فَعُضوُه ليس صاحباً بمعني الترافُق، بل بمعني الامتلاك : إنَّه امتداده الحيوي والوجوديّ، ولِمَ لايكونُ لهُ وطناً وانتماءً إلي الوطن : [… فَعُضوي هُو الآخر أحسَبُه وطناً ووطنيّاً ولِمَ لا.” (التشهِّي، ص 191). كذلكَ هو مدخلُ ذاتهِ، وكلِمةُ سرِّها، ومعيارُ فحولته الذي يدلُّه إليها، ويُخلِّد سُلطتها : “فحولتي التي كنتُ أشعر بها وأعرفها […]، أعرفها من خلال عُضوي وخيالاتي […]. الفحولةُ أراها تسبح بالعرَق وتُلغي الزمن …” (التشهِّي، ص 39).
إلغاء الزمن لا يتوقَّف علي الفحولة وهي في ذُروة اللَّذة؛ فالتشهِّي، وسرمد حلقةٌ مُفرَغة لا بداية فيها ولا نِهاية. لكنَّ انغلاق الحلقة، كانغلاق الشعار السياسي، وسُلطة المُخابرات علي ذاتَيهما، آكِلةٌ تُبدِّدُ تشهِّيَ السُّلطة من الداخل، فتنهار السدود، ويتشتَّتُ الفيْضُ في كُلِّ اتِّجاه. الشيوعيّة التي سبَّبت صُداعاً لِنصف الكُرَة الأرضيّة دمَّرت نفسها من الداخل، فضاع بعض الشيوعيِّين في نعتِ “شيوعي سابق” الذي قد يكون مُجرَّد ادِّعاء، بينما ارتمي آخرون في أحضان الأمريكان. وفحولة سرمد استنزفتْ نفسها، فاختفي عُضوُه. فماذا حلَّ بالسُّلطة الباقية، سُلطة المُخابرات، سُلطة مُهنَّد ؟ لكي نعرِف هذا، ينبغي أن نتحرَّي علاقة التكامُل بين سرمد ومُهنَّد بادئين بتساؤل “كيتا”، الشيوعية الألمانيّة الشرقيّة، صاحبة نسيم جلال، الشيوعي العراقي الذي خان حِزبه : “تُري ماهيَ العلاقة بين سرمد ومُهنَّد ؟ هل هُما شقيقانِ أم …؟” (التشهِّي، ص 64).
لن نقسِر وظيفة الدلالة من أجل أن نتبصَّر نصيبَ “مُهنَّد” من اسمِه : فالمُهنَّد سيفٌ مصنوعٌ من فولاذ الهند. إنَّما نكتفي باستنتاج أنّه سيفٌ مُسلَّطٌ علي رِقاب الناس، يُلاحِقهم، ويتجسَّس عليهم، وليس سيفاً للذود عن أيّة شيمة. صِفاتُه المُميَّزة انعدام الحساسيّة، والانحراف الأخلاقي، والجنسي : “كانت شهوتُه للنفوذ والسُّلطة قادرة علي تحويل الكثير من البشر ومن جميع الإيديولوجيّات إلي صفِّه، بالترويع والإغراء وبالتالي تحويلهم إلي بطَّاشين ودمويِّين أكثر منه” (التشهِّي، ص 90). لاننسي أيضاً أنَّ مُهنَّد هو الذي أسمي أخاه “سرمد” تيمُّناً باسم صديقه الذي هرسته عربةٌ مُسرِعة. وهو الذي كان يتلذَّذ بتجزئته إلي مقطعَين “سرَّ، مدَّ” قائلاً لأخيه إنَّ عليه أن يُزيل العفَن والنتانة من اسمِه. رُبَّما قصدَ قصْدَ العارِف أن يُشير إلي غايتَيْن لِرجُل المُخابرات هُما البوحُ بالسِرّ، ومَدُّ الرأس للإنصاتِ والتجسُّس علي الآخرين. وكان قال له يوماً بلُغته الغامضة : “لاتجعل اسمَكَ رتيباً، اكسره وقسِّمه إلي جُزأين وابقَ شديد الاحتراس ومن الجميع، من نفسِكَ أوَّلاً” (التشهِّي، ص 107)
وإذا ماأطلِّت علينا دُعابةٌ اسم الشرِكة التي أسَّسها “أبو العِزّ” في بيروت باسم “هندس” المُتكوِّن من تشكيلة حروف اِسمَيْ “سرمد ومُهنَّد”، وعرفنا أنَّ معناها في اللهجة العِراقية “الظلام الدَّامِس”، جاز لنا نقديّاً أن نتصوَّر ما تؤول إليه مِحنةُ أخوَيْن اصطنعا، خارج الأُخوَّة، انتماءَيْن مُنغلِقين علي بهيميّة السُّلطة بوجهَيها الجنسي المُتشهِّي، والمُخابراتيّ الباطِش.
حين يشتدُّ مرضُ “سرمد” في مركز العلاج الباريسي، تعبُر في سديم قنوطه من الآتي في المواعيد المؤجَّلة بارقةُ التساؤل عن معني اسم “سرمد” الغريب عنه أو المُتنصِّل منه، ومعني اسمِ بلدِه العراق، وعراقيّته : “فيما بعد، كُلَّ شيءٍ فيما بعد […]، ماهذه المواعيد التي لاتخلُص. حتّي أسماؤنا تتنصَّل مِنَّا وتقول لنا فيما بعد سيحضُر اسمُك الحقيقي. تُري مامعني اسم سرمد، وما معني اسم البلَد، ذاكَ الذي هُناك ؟ أُريد أن أعرِف متي كُنتُ عِراقيّاً، ومتي توقَّفتُ عن ذلك وقلتُ أنا أيضاً فيما بعدُ سأكون. هل كُنتُ عراقيّاً حقّاً، ومتي كان ضروريّاً ألا أكونَ كذلك ؟ …” (التشهِّي، ص 253).
في بارقة التساؤل هذهِ تلتقي الخلفية بمُختلف لقطات المشهد الدلالي شارحةً بعض ما خمَّنت الكاتبة أنَّه احتجب طويلاً وراء ستار السَّرد وتاركةً للقارئ أن يتخيَّل هوْل المحنةِ السرمديّة لِسَرمد الذي لم يُنتِج تشهِّيه إلاّ السَّلْب وانتفاء الوجود والانتماء الجوهريّ إلي وطنه الذي تدكُّه الصواريخ، وهو أعجز من أن يدُكَّ عشيقته بوردة. ها قد ساد الاختفاء كالجائحة : اختفي أبو محبوبته “ألِف” وأخوها، وولَداها. أمَّا البلاد التي يدخلُها الأمريكان الشُّقْر من بابِ الشهوة الفاقدة موضوعَها، فلا تنفكُّ تختفي، وتختفي
وراء سُحُب الدُّخان، وألسنة النيران، . فإثر النوبة التي ألمَّت بِسرمد في مركز العلاج حيث كسّر الأثاث والمَعدّات، يلوذ بالحمَّام : “الحمَّام أدخلُه وأفتح صنابير مِياهه الباردة والحارَّة فيتصاعد البُخار من حولي. بُخار وغُبار الراجِمات والصواريخ. تختفي غُرفتي في بيتِ الوزيريّة، ولم أَعُد أراها بصورةٍ جيِّدة … (التشهِّي، ص 239).
لم يبقَ أمام سرمد، في النهاية، إلاّ أن يتلوي علي جمرِ تشهِّيه مُستعيضاً عن صاحبه الذي اختفي بمزيدٍ من الأطباق. فتكوَّنت لديه “فوبيا” الإفراط في الالتهام لكنَّه لم يصِر مثل “بنتاغُرييل” بطل رائعة رابليه الأدبيّة، الذي كانُ في الوقتِ نفسِه يبلي بلاءً حسَناً في الحرب. وما كان لِيصير مثلَه أبداً؛ لأنَّ إفراطَه في الالتهام قادَه إلي “السِّمنة” التي انقاد إليها “الضابط” في “المحبوبات”. فقد اختلفت الوسائل، وتوحَّدت الغاية : الضابط السَّمينُ لايصلُح أن يكون بطلاً مِغواراً، والمُترجِمُ السمينُ، فحلُ أمسِ، لايكون، فوق ذلكَ، إلاّ جاهلاً قليلَ ثقافة.
السِّمنةُ إذاً انغلاقٌ آخر يُكرِّس عجْز “سرمد” وتحرُّقه، وانتفاء شجاعته وثقافته إذ تُحوِّله لذائذ الطعام رويداً رويداً إلي كومةٍ من اللحم لا يحتلُّ فيها صولجانُ فُحولته أكثر من استطالة ضئيلةٍ تُلوِّثه بالبَول.
صدمة القراءة ولذّتُها
لعلَّ أوَّل مفعول لِرواية التشهِّي أنَّها تصدِم القارئ العربي؛ إذ تضعُه في مواجهة لُغةٍ جنسيّة صريحة انقطع عنها منذ قرون مع أنَّها تقبع في قعرِ وعيِه الباطن يُشير إليها، في أوساط مُناسِبة، بالرمز والتلميح والكناية. أمَّا أن يقرأها جَهاراً في نصٍّ كتبتْه امرأة فهذا مِمَّا لم يعتَد عليه حتي لو اعتقد بعودة شهرزاد. أَوَليس من المعلومٌ أنَّ ما نقرأُه اليوم في “ألف ليلةٍ وليلة” حكاياتٍ هُذِّبَت لُغتُها ونُقِّيَت من ألفاظها البذيئة الفاحشة ؟!
تنبُع الصَّدمة من شعور القارئ أنَّه مُتورِّط في نصٍّ ينبُش شيئاً مطموراً في داخلِه مع رُكامٍ من المكبوتات والرغبات المكتومة لِتعذُّر تحقيقها. كما يشعُر أنَّ الأسلوب المُباشَِِِِر في تسمية الأشياء بأسمائها يُبعِدُه عن مفهوم الأدب الذي تعلَّمه في المدرسة والجامعة، ويدعوه إلي التفكير بما وراء الألفاظ الجنسيّة وما يُرافقها من وصْفٍ دقيق لِفعلٍ المُضاجعة.
لكِنَّ الصدمة لا تدومُ طويلاً، وسبب عدمِ دوامها أن البرنامج السردي ليس مقصوراً علي الجِنسِ وحدَه؛ فثمَّة السياسة، والثقافة، والترجمة، والفلسفة، واللُّغة ذاتها. ثُمَّ إنَّ قراءة لُغة الجسَد التي تُخلخِل ماهو ساكِنٌ في قعرِ الذات، تُساعِد علي معرفة القارئ للسُّبُل المجهولة في أعماقه. وعندئذٍ يُحِسُّ بِلذَّة النصِّ؛ وهو لايُحِسُّ بِِمثل هذه اللذَّة إلاَّ حين يتخطّي حدوداً لم يُفكِّر من قبل في الاقتراب منها.
ثمَّة رافِدٌ آخر للذَّةِ قراءةِ هذه الرواية يتمثّل فيما تستحضِره من نصوصٍ أو من كُـتُبٍ أُخري. ولن نستفيض في تتبُّع هذا الرافد، لكنَّنا نذكرُ استحضاراً واحداً يُثير الفضول ألا وهو كتاب “رسالة الأعضاء” لابن النفيس. فلو أخذنا مقطعاً منه يصِف أعضاء التناسُل عند الجِنسين، وأدرجناه في رواية “التشهِّي” لَما لحظنا أيَّ انكسارٍ في مجري السَّرد الروائي. اللذّة التي نقصدِها هنا هي لذّة القراءة التي تستنهِض ما يرقد في الذاكرة، وتُعيده إلي حيوية الثقافة.
خاتمــــة
وفي ختام هذه الدراسة العاجلة سندع للقارئ أن يعود أوَّلاً إلي المخطوط الذي دوَّن فيه “سرمد” ذكرياته المحكيّة (ص، ص 42 ـ 49)، لكي يُجمِل ما قرأ تفاصيله. وثانياً إلي الصفحتَين التاليتَين (250، 251) حيث يختفي “سرمد” بِفِعل المُخدِّر في برزخِ مابينَ الوعيِ واللاوعي. علي سطحِ هذا البرزخ الذي يُذكِّرنا، علي نحوٍ مَّا، بِـ “سُبات” سُهيلة أحمد” في “المحبوبات”، يطفو ماكان قابعاً في الأعماق، ويلتحِق برغبةٍ أخيرة من رغباتِ سرمد، رغبة أن يختفي هو نفسُه اختفاءه الخاصّ، يختفي مُعانقاً مرجعيَّتَه : ذَكَرَه.
من الطبيعيّ أن تنداح قراءة هاتَين الروايَتَين في كُلِّ اتِّجاه. لكِنَّها القراءةُ المُستمِرّة التي يتلمَّس القارئُ من خلالها جُرحَ الكاتبة النازِف علي الوَرَق دون انقطاع. جُرح الإوزَّة العراقية التي تغنّي قبل أن ترحل. لكأنّها تُردِّد قول الشاعر عُمر أبو ريشة :
لا تسألوني ما ترجوه أُغنيتي بعض الطيور تُغنِّي وهي تُحتَضَرُ
بعضُ الطيور … تُغنِّي … وهيَ …تُحتَضَرُ…
Azzaman International Newspaper – Issue 2854 – Date 24/11/2007
جريدة (الزمان) الدولية – العدد 2854 – التاريخ 24/11/2007