الروائية التركية أليف شفق بدوية مترحلة في حداثة الرواية – محمد الحجيري

تُعد الروائية التركية أليف شفق من أهم ممثلي الرواية التركية الحديثة أو المعاصرة، وقد حازت على كل الجوائز الأدبية الشهيرة في تركيا وهي لم تبلغ بعد سن الثلاثين.
ودخلت الأضواء والشهرة من أبواب عدة: أولاً بعد روايتها “لقيطة استانبول”(صدرت بالعربية عن منشورات الجمل)، التي أدت إلى محاكمتها بتهمة سبّ الهوية التركية، وثانياً
رواية “قواعد العشق الأربعون/ رواية عن جلال الدين الرومي”(ترجمت إلى العربية عن دار “طوى”) التي سجلت أعلى المبيعات في سوق الكتب التركية لترتقي بذلك إلى
مصاف أكثر الكتّاب المشهورين في تركيا، وفي أحيان تخطت مبيعات أورهان باموك حامل جائزة نوبل للآداب للعام 2006، وثالثاً لأن أليف شفق تريد أن تتجاوز حدودها
القومية من خلال رواياتها التي كتبتها باللغتين التركية العثمانية المتعددة والإنكليزية (“اللغة الامبريالية” على ما تصفها ساخرة)، وهي تمزج التقاليد الغربية والشرقية. تقول إن
كتابتها هي كتابة “امرأة بدوية مترحلة”، وتحكي عن النساء والأقليات والمهاجرات، والثقافات الفرعية، والشباب. وهذه العوامل كلها ساهمت في إبراز شخصية شفق عالمياً،
على أن محاكمها بسبب موقفها من المجازر الأرمنية تبقى الأساس، وشكَّلت فضيحة تركية، تبيّن وقع “التابو” التركي من القضايا القومية، فالكاتبة كانت معرضة للحكم عليها
بالسجن ثلاث سنوات، بسبب تصريحات شخصيات خيالية في روايتها “لقيطة اسطنبول”، واعتبر المدعي العام والقضاء أنه لا توجد أدلة كافية لاتهام الروائية، التي لم تكن
حاضرة في أول جلسة محاكمة. وحظيت المحاكمة باهتمام إعلامي واسع صبَّ في مصلحة انتشار الرواية في أكثر من لغة، وكُتب عنها الكثير في وسائل الاعلام العالمية
والعربية والتركية.
وأليف شفق(أو شافاك بحسب ترجمة خالد الجبيلي)، المتعددة الثقافات والمعارف والمشارب، التي كسبتها عبر تواصلها مع الحضارات والبلدان والمدن في الشرق التركي (
الصوفي) والغرب الأوروبي الأميركي – (الحداثوي)، تميل الى الوجه الإنساني في كتابتها، بل تميل إلى الحبكة القصصية المفعمة بالرموز والأحداث والمعاني. كتبت روايتها
“لقيطة” أثناء تدريسها وإقامتها في الولايات المتحدة الأميركية. وبالإضافة إلى بحثها الخاص، فقد جمعت شهادات شفهية مروية، تابعت أفلاماً وثائقية وأجرت مقابلات،
وتحدثت مع العديد من الأرمن في الشتات، وفي الوقت ذاته زارت العديد من البيوت الأرمنية ما وفّر لها الفرصة لمتابعة حياة الأتراك والأرمن في الولايات المتحدة
الأميركية.
تروي أليف في “لقيطة” قصة فتاة أرمنية هاجرت عائلتها من بلدها الأصلي إلى الولايات المتحدة، هرباً من المجازر. لكنها أرادت أن تكتشف جذورها، لذلك عادت الى
إسطنبول وراحت تبحث عن أصولها من خلال الإطلاع على تاريخ بلدها. تجسد هذه الفتاة نموذج الشخصية الأدبية التي تسعى إلى البحث عن انتمائها المجهول والمغفل.
فهويتها، التي لم تكن تعرفها، بدأت تنكشف تدريجاً من خلال هذه الحبكة القصصية والسردية. كان على أليف شفق لكي تقوم بوصف العلاقة بين الأتراك الذين يحاولون إزالة
فكرة الإبادة من أذهانهم، والأرمن الذين يعيشون على محمول هذه الذاكرة، أن تروي سيرة عائلتين، الأولى تركية تعيش في اسطنبول، والثانية أرمنية تعيش في الولايات
المتحدة، قبل أن يتبيّن في نهاية الرواية أن وشائج قرابة تصل بين هاتين العائلتين منذ أجيال بعيدة، مرتبطة بالإبادة وبسببها، ولا يعرف عنها الأحفاد شيئا البتة. والغريب كان
في ترجمة عنوان “لقيطة اسطنبول” إلى العربية، (ثمة من يترجمها “لقيط”)، “(ثمة ترجمات كوميدية وردت في بعض العجالات والمقابلات وهي “وغد اسطنبول” و”ابن
حرام إسطنبول” و”نغل اسطنبول” و”أب وابن زانية”).
وليست “اللقيطة” وحدها من حظي بالشهرة والرواج من روايات أليف شفق، فرواية “قواعد العشق” لقيت اهتماماً كبيرا من القراء وترجمت إلى العديد من اللغات، وتتناول
مواضيع الحب بين الشرق والغرب، والروحي والدنيوي، كل ذلك من خلال قصة جلال الدين الرومي الشاعر والمتصوف والمشهور عالمياً (ولد سنة 1207 في خراسان
جنوب افغانستان حالياً وتوفي سنة 1273). وشمس التبريزي المتصوف(ولد سنة 1185 ميلادي في تبريز في مقاطعة أذربيجان واستهوته الطرق الصوفية). و”عشق”
أليف شفق ذات نسيج مركب، وأبطالها هم ايللا ربة بيت أميركية ذات أصل يهودي تعشق رجلاً أسكتلندي الجنسية يقيم في هولندا، ثم يسلم فيما بعد ويتسمى باسم عزيز زهارا
ومن جانب آخر هنالك شمس التبريزي وجلال الدين الرومي وكيررا التي تقترن بجلال الدين الرومي وتتحول من الديانة الأرثوذكسية الرومية إلى الإسلام.
بدأ ولع شفق بالصوفية حينما كانت طالبة، وقرأت العديد من الباحثين في مجال التصوف منهم آن ماري شيميل، وإدريس شاه، وكارين ارمسترونغ،… وفي روايتها “قواعد
العشق” لا تدخل الصوفية كتعليم نظري، وتجريدي. بل هي شغوفة بما تعنيه الصوفية بالنسبة لها في العالم المعاصر. وقد اتهم كثير من المثقفين المسلمين أليف شفق بتصوير
مترف مشابه للمذهب الصوفي. وقالت رئيسة أحد فرعي الفرقة الرفاعية سمالنور سارغوت إنه بعد نشر كتاب “قواعد الحب الأربعون” تلقت مئات الاتصالات التليفونية من
أشخاص يقولون إنهم يريدون معرفة المزيد عن رفيق الرومي شمس التبريزي، أحد الشخصيات الرئيسية في الرواية. وأضافت: “إن مجرد حقيقة ذكر اسم شمس في هذا العالم
أمر مشرف”.
وقبل “اللقيطة” و”قواعد العشق”، قرأنا لأليف شفق رواية “قصر القمل” صدرت عن دار قدمس في دمشق(ثمة من يترجمها “قصر البرغوث”) وهي قصة عمارة فخمة
وضخمة كانت في الأصل قصراً بناه مهاجر روسي لزوجته في نهاية العهد القيصري في اسطنبول رغبة منه في تعويضها عن ظلم جديد ألحقه بها حين هاجر من المدينة التي
أحبتها زوجته بعد خسارتها وطنها الأول. يرحل إلى باريس ويعاشر فتاة تصغره بعقود، ويترك زوجته في دار للرعاية جراء إصابتها بأزمة نفسية، ثم يعيدها إلى اسطنبول
ويبني لها قصر بونبون، اسم اختارته الزوجة للمكان الذي شهد وفاة طفلتها الوحيدة.
يموت الزوجان وترث الابنة غير الشرعية من زوجته الفرنسية القصر الذي يتم تأجيره شققاً، تتحول خراباً يبتلي بالقمل، القمل مصدره شقة الخالة والتي ضمت محتوياتها
الأغراض المتروكة من إرث الزوجين. تدعي الروائية أنها تخيلت قصة هذا القصر من أجل التغلب على عقدة خوفها من الحشرات، فكل عصر جيولوجي يرمز إلى مجموعة
حيوانية، والعصر الذي نعيش فيه هو عصر الحشرات، وقد أسست الأخيرة تفوقاً معيناً بالنسبة إلى مجموعات الحيوانات الأخرى.
لا ضرر في القول أن روايات أليف شفق الكثيرة والمتعددة والتي ترجم ثلاث منها إلى العربية، هي انعكاس لشخصيتها وثقافتها الكوزموبوليتية فهي التركية التي ولدت في
ستراسبورغ الفرنسية، والدها نوري بيلجين، ووالدتها شفق أتيمان التي أصبحت فيما بعد دبلوماسية. حين كان عمرها سنة واحدة انفصل أبواها، وتولت الأم تربية ابنتها. قالت
ذات مرة أن تنشئتها في أسرة بطريركية نموذجية كان لها تأثير كبير في عملها وكتابتها. اختارت أليف اسم أمها الأول شفق ليكون اسمها المستعار. أمضت طفولتها وصباها
متنقلة بين مدريد وعمان وكولونيا قبل أن تعود إلى تركيا، وهاجرت إلى الولايات المتحدة لتواصل دراستها أولاً، ثم بعد ذلك لتشغل منصب أستاذة محاضرة في مادة الدراسات
والأجناس في جامعة أريزونا.
تحمل شفق شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الشرق الأوسط التقنية في تركيا كما تحمل شهادة الماجستير في “الجندر والدراسات النسوية” والدكتوراه في
العلوم السياسية من الجامعة ذاتها. نالت عن أطروحتها لنيل الماجستير في موضوع الإسلام، والنساء، والتصوف، جائزةً من “معهد علماء الاجتماع”. تزوجت سنة 2005 من
الصحافي التركي أيوب كان وأنجبت منه طفلين. أسمت ابنتها زيلدا على اسم زيلدا فيتزجرالد، وأسمت ابنها على اسم الزاهر، بطل إحدى قصص بورخيس .
وتستنبط شفق رواياتها من مختلف الثقافات والتقاليد الأدبية، كما أنها تظهر رغبة عميقة في التاريخ والفلسفة والتصوف، والثقافة الشفوية، والسياسات الثقافية. في إحدى كلماتها
في حزيران 2010 في أكسفورد تحدثت شفق عن الدور الذي يلعبه الأدب في المساعدة في القفز فوق الحواجز الثقافية واحتضان التجارب المختلفة وحاولت أن تبرهن أن
الرواية تستطيع أن تتجاوز حدود الهوية. وقالت: “الثقافة التي لا تأخذنا إلى الما وراء هي أسوأ بكثير من الجهل”.
المستقبل – الاحد 27 كانون الثاني 2013 – العدد 4586