حوارات صحافية مجهولة للروائية الفرنسية مارغريت دوراس – سارتر هو سبب التأخر الذي أصاب الثقافة الفرنسية


قبل خمسة وعشرين عاماً، أجرت الصحافية الايطالية ليوبولدينا بالاتا ديللاتوري حوارات طويلة مع مؤلفة “العاشق” و”هيروشيما جيبي” مارغريت دوراس، ونشرت في ”
لاستامبا” عام 1987 وقد صدرت ترجمة هذه الحوارات إلى الفرنسية عن “دار سوي” باريس. 190 صفحة. ويبدو ان الصحافية جهدت طويلاً لإقناع دوراس بإجراء
اللقاء، التي كانت منهمكة بوضع سيناريو لفيلم “العاشق” المقتبس عن روايتها التي بيع منها نحو مليون كتاب. وأخيراً تم استقبال الصحافية في شقة دوراس في سان بنوا،
تتذكر الصحافية انها رأتها للمرة الأولى من الخلف “من ظهرها، صغيرة، صغيرة جداً، في غرفتها الغبارية، المكتظة بالأوراق والأشياء، وقد أسندت يديها على مكتبها”. وكانت
تقاطع المقابلة مكالمات تلفونية كانت دوراس تمسك يد الصحافية لتحول دون تسجيلها ما تقول. المقابلة دامت ثلاث ساعات وكانت الأولى في سلسلة حلقات، باحت دوراس فيها
الكثير من حميمياتها، وأسرارها، براحة ولا استدراك. هذه الحلقات من المقابلات صدرت في تلك الحقبة، ولم يُعد طبعها منذئذٍ فبقيت مجهولة من دور النشر الفرنسية. وقد
باحت دوراس وكأنها مستسلمة لذكرياتها وانطباعاتها وآرائها من دون حسابات تقيدها، أو ظروف تعيقُ هدوءها، وكأنها استشفت ان كلماتها لن تقع اطلاقاً في آذان الفرنسيين.
وقد عبرت عن شغفها بالتلفزيون “تحب مشاهدته يومياً، وبانتباه، مع المعرفة المسبقة بأنها ثرثرات جوفاء، وحقيقة مسطحة. كما تكلمت عن صداقتها مع الرئيس الفرنسي
الأسبق فرانسوا ميتران، كاشفة وبطريقة دقيقة حياتها الجنسية، والرجال الذين أحبتهم، من دون ان تتهرب عندما تسألها الصحافية عن إدمانها الكحول. لكن طفولتها اتخذت
حيزاً كبيراً، حول عائلتها وعن ممارستها الكتابة، بوضوح وشفافية وبذكاء حاد، وبهذه الطاقة الانفعالية التي شحنت بها رواياتها وكتاباتها.

[ لقد ولدتِ في غيادنيه التي تبعد بضعة كيلومترات عن سايغون، وبعد سلسلة من التنقل مع عائلتك من بيت إلى بيت فين لونغ، ساديك عشت حتى سن الثامنة عشرة في
الفيتنام وكانت مرحلة الانتداب الفرنسي هل تظنين انك عشتِ طفولة مميزة؟ ـ أظن أحياناً بأن كل كتاباتي نبعت أو ولدت من بين تلك الغابات التي عشت بينها، ومن الوحدة
أيضاً. ومن تلك الطفلة الضائعة أو التائهة إلى حدّ ما، البيضاء الصغيرة كما كنت أُدعى، الفيتنامية أكثر منها فرنسية المعتادة مراقبة غروب الشمس فوق النهر ووجهها محروق
بالشمس… [ وكيف تصفين تلك الفتاة الصغيرة؟ ـ صغيرة، وبقيت هكذا. ولكن ما من أحد قال لي في صغري أنني كنت ناعمة، ولم يكن هناك من مرآة في منزلنا لأرى
وجهي.

رائحة الشتاء [ وما هي أقدم ذكرياتك؟ ـ انها بين الأطباق والروائح، رائحة الشتاء ورائحة الياسمين ورائحة اللحم المطبوخ، هناك اختصر سنواتي الأولى. كذلك أذكر فترات
بعد الظهر في الأندوشين حيث كنّا صغاراً نخنق أحاسيسنا ومشاعرنا حيال الطبيعة الخانقة التي كانت تحيط بنا. كان هناك الشعور الدائم بالممنوعات وبالغموض حيال تلك
الغابات. وتلك المرحلة كانت تروقني بقوة أنا واخواي إذ كنّا نغامر برحلات في تلك الطبيعة المتوحشة حيث كنا نخاطر بأن تصادف الحيّات أو ربما النمور. [ بعد موت والدكِ
وكنتِ تبلغين 4 أعوام، بقيت مع أمك وأخويكِ؟ ـ الآن وقد توفوا جميعهم أستطيع ان أتحدث عنهم بكل صراحة وحرية. الألم فارقني الآن. كان أخي الأصغر يملك جسداً نحيلاً
مطواعاً وكان يذكرني ولا أعرف لماذا بعشيقي الأول الصيني. كان صامتاً، خائفاً طوال الوقت ولم أتمكن من الابتعاد عنه حتى وفاته. أخي الثاني كان مستهتراً لا ممنوعات
لديه ولا أي مشاعر بالذنب وربما كان من دون أي مشاعر. كان سلطوياً ويُشعرنا بالخوف. وحتى الآن أنا أشبهه فشخصية روبرت ميتشوم في “ليل الصيّاد” حيث لديه مزيج
من الغريزة الأبوية والغريزة الإجرامية. ومن هنا ربما نبعت لدي كل تلك المشاعر بالحذر التي رافقتني دائماً حيال الرجال. في واحدة من المرات الأخيرة التي رأيته فيها، جاء
إليّ وكنت في باريس ليأخذ مني المال وكان ذلك فترة الاحتلال وكان زوجي آنذاك روبرت آنثليم قد تم أسره في احد المعتقلات. ثم علمت، بعد أعوام، انه سرق والدتي أيضاً،
وانه وبعد ان مرض بسبب إدمانه القوي للكحول، مات وحيداً في المستشفى. [ في “أغاتا” المسرحية التي كتبتِها بوحي من “الرجل الذي لا يملك الحسنات” لروبرت موزيل،
وضعت مشهداً يؤكد العلاقة المحرّمة التي حصلت بين أغاتا وشقيقها أولرتيش؟ ـ وكان آخر مراحل ذلك الشغف، أجل. لقد حاولت جاهدة إنكار شعوري الشغوف الذي كنت
أكنّه لأخي تحت غطاء الكره. والطريقة التي كان ينظر فيها إليّ كانت تؤكد لي العكس. كنتُ دائماً أرفض الرقص معه وحصل ذلك يوم قدّم إليّ مسجلاً للأغنيات وذلك لأن
الالتصاق بجسده كان يرعبني ويجذبني في نفس الوقت. باريس [ حين وصلتِ إلى باريس، ما نوع الحياة الذي كنت تتبعينه هناك؟ ـ كانت حياة طالبة. كنت مع زملائي نتابع
الدراسة والمحاضرات ثم نلتقي في المقاهي لنأكل السندويشات والتحدث، ثم في المساء كنا نذهب لنسهر في أمكنة السهر وكنّا شباباً يافعين ولم نكن نملك فلساً. لا أذكر الكثير
من تلك السنين. ربما لأنني لا أتكلم كثيراً عن هذه المرحلة. أحياناً أشعر بأنها مصبوغة كلها بالأسود. [ ما كانت نتيجة التزامك طوال ثماني سنوات في صفوف الحزب
الشيوعي الفرنسي؟ ـ أنا لا زلت شيوعية لا تجد نفسها في مبادئ الشيوعية . وإذا أردت ان تلتزم بحزب يجب ان تكون أخرس وأصمّ وأعمى ومريضاً نفسي في معنى ما.
الوقحون [ كتابكِ الأول “الوقحون” يعود إلى العام 1943، وكنتِ في التاسعة والعشرين؟ ـ … وهو يحكي أن الكره الفظيع الذي كنتُ أكنّه لأخي الكبير. ـ وكنتُ قد أرسلت
المخطوط إلى ريمون كينو وكنتُ في تلك المرحلة لا أعرفه ـ الذي كان يعمل لدى غاليمار. دخلت إلى مكتبه وكنت متأثرة بشدة ولكن واثقة من نفسي. وكان الكتاب قد تم رفضه
من قبل كل دور النشر التي سألتها نشره ولكن في تلك المرة شعرت بأنه سيُقبل. لم يقل لي كينو بأنه كتاب جميل، لكنه نظر إليّ واكتفى بأن يقول لي: “سيدتي، أنتِ كاتبة”. [
عام 1950، كان دور الرواية “سدّ ضد المحيط الهادئ” وهي الوحيدة التي تحكي بقوة مراهقتكِ؟ ـ وأيضاً هي أكثر رواياتي سهولة وشعبية. ولقد بيع منها يومها خمسة آلاف
نسخة. شعر كينو بالحماسة وراح يقوم بالدعاية للكتاب إلى ان وصلت إلى جائزة “غونكور”. ولكنه أيضاً كان كتاباً ضد الانتداب، ويتناول السياسة بشكل مباشر ولم يكن في
العادة أن تُعطى الجائزة لكاتب شيوعي. ثم عدت وحزت “جائزة غونكور” مرة ثانية عن روايتي “العاشق” وذلك بفارق 34 سنة عن الجائزة الأولى. وكانت رواية “العاشق”
تتناول أيضاً وبإسهاب المواضيع عينها: الحياة في ظل الانتداب، الجنس، المال، العشيق، الأم والاخوة. [ وهل من شخصيات وأحداث “العاشق” تحاكي الواقع؟ ـ كنتُ قد كذبت
مرات عديدة ولسنوات فيما يتعلق بقصص كثيرة حصلت معي في الماضي. كانت أمي لا تزال على قيد الحياة وثمة أمور لم أكن أريد أن تعرف بها. ثم ذات يوم فكرت وقلت:
لماذا لا أقول الحقيقة كلها وكما هي؟ كل ما في الكتاب هو حقيقة: الثياب، غضب أمي، الطعام الذي كانت تعدّه لنا، سيارة العاشق الصيني الليموزين… المال [ وحتى المال الذي
كان يعطيكِ إيّاه؟ ـ كنت أشعر انه من واجبي أن آخذ ذاك المال من ملياردير وأعطي لأهلي في البيت. كان يغدق عليّ الهدايا، وكان يأخذنا كلنا في سيارته لنتنزه ثم نتناول
الطعام في أغلى مطعم في سايغون. إلى طاولة الطعام، لم يكن أحد يوجّه إليه الكلام، فهم كانوا متعصبين وعنصريين داخل المجموعة، وأهلي كانوا يقولون لي بأنهم يكرهونه.
ومن دون شك، حين كان يقدّم المال، كانت العائلة تغمض عينيها. على الأقل، لم نكن مجبرين على بيع أثاث المنزل لنأكل. [ ما هي الذكريات التي تحتفظين بها بعد عن ذاك
الرجل؟ ـ لم يكن يعجبني جسده الصيني ولكنه كان يشعرني باللذة. وهذا هو الشيء الوحيد الذي اكتشفته فيها بعد.

قوة اللذة [ انها قوة اللذّة؟ ـ أجل، بالتمام، وانها ما فوق المشاعر، عمياء، ولا يمكن ان تقولها. كنت أحب في ذلك الرجل حبه لي وأحاسيسه الجنسية التي كانت تشتعل بقوة بسبب
تلك الفروقات والمفارقات ما بيننا. [ بعتِ 1,5 مليون نسخة من “العشيق” في فرنسا وحدها. ولقد تمت ترجمته إلى 26 لغة. كيف تفسرين هذا النجاح؟ ـ وحين أفكر ان
ناشره جيروم لندون كان قد طبع فقط 5 آلاف نسخة! خلال بضعة أيام، نفدت النسخ. بعد شهر، طبع 20 ألف نسخة وأنا هنا توقفت عن المتابعة والاهتمام. تركته هناك وما
عدت فتحت الكتاب، تماماً كما أفعل مع كل كتبي. [ قيل، قبل ان ترحل مارغريت يورسونار، انكِ معها تتقاسمان المقاعد النسائية في الأدب الفرنسي؟ ـ كانت يورسونار، في
مقعدها في “الأكاديمية الفرنسية”. أنا، لا. وماذا بعد؟ أظن ان “مذكرات أدريان” كتاب عظيم: أما الباقي، ابتداء من “أرشيف الشمال” فأجده صعباً للقراءة. تركت القراءة وأنا في
منتصف الكتاب. أحياناً، في الشارع، كان المارة يظنون انني هي: هل أنتِ الكاتبة البلجيكية؟ أجل! أجل! كنتُ أجيب وأمضي في طريقي.

سارتر [ لنتحدث عن علاقتكِ بسارتر؟ ـ أظن ان سارتر هو السبب في التأخر الذي حصل على الصعيد الثقافي والسياسي في فرنسا. كان يعتبر نفسه وريث ماركس أو
الصورة الوحيدة التي تمثل فكره: من هنا نبعت كل الأفكار الملتبسة من حول الوجودية. [ ثمة معرفة قديمة جمعتكِ بفرنسوا ميتران؟ ـ نعم، وذلك منذ مرحلة الصمود. انه واحد
من الأشخاص القلائل الذين أرسل إليهم كتبي. وأنا دائماً أكون أكيدة بأنه سيقرأها ومن ثم يتصل بي لنتحادث. أنه رجل يحب كثيراً الحياة، ميتران. [ هل تستطيعين ان
تختصري سياق كتاباتكِ كلها؟ ـ انه عصف ريح يهب تقريباً مرة أو أكثر في الأسبوع ثم يغيب فترة شهور، وهو أمر لا يمكن تصحيحه أو معالجته. فأشعر بضرورة ان أجلس
وأكتب من دون أن أعرف بالتمام ماذا سأكتب: حتى ان كتاباتي تؤكد بنفسها كيف انني أكون جاهلة لما اكتبه، وكيف أكون في بحث عن ذاك المكان في الظل حيث تمكث كل
التجربة. [ الكتابة من أجل إبراز كل الاستِهامات التي في الداخل؟ أما أنتِ، فهل تتمسكين بهذه النظرية أي القدرة العلاجية للكتابة. ـ أنا أكتب لأسخّف نفسي، لأقتل ذاتي ومن ثم
لأنزع صفة الأهمية عن شخصي وأيضاً لأخفف قليلاً من حمولتي: فليأخذ النصّ مكاني لأكون موجودة بقدر أقلّ. لا أستطيع أن أتحرر من ذاتي إلاّ في حالتين: فكرة الانتحار
والكتابة. المستقبل – الجمعة 4 كانون الثاني 2013 – العدد 4565

 

https://www.alghulama.com/images/stories/writers/2013/1/c20n20.jpg