لم يكن وصول رواية «التانكى» للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» لهذا العام هو الأول فى قائمة «تكريمات» و«ظهورات» الروائية العراقية
المقيمة فى باريس عالية ممدوح، فالكاتبة المشاغبة حصدت جائزة نجيب محفوظ فى عام ٢٠٠٤، عن روايتها «المحبوبات»، وترجمت روايتها «حبات النفتالين» إلى ٧
لغات عالمية، كما منعت روايتها «الغلامة» فى أكثر من بلد عربى.
وتحرص الكاتبة، المولودة فى بغداد عام ١٩٤٤، على تتبع مسارات وتحولات العراق، من خلال رحلات شخوص يأتون من الماضى، محملين بأوجاعه وأحلامه وإحباطاته،
وبتجاربهم المكتملة أو المبتورة.
وفى روايتها «التانكى»، الصادرة عن دار «منشورات المتوسط»، برزت فكرة العراق المحاصر بالتدخلات الخارجية، سواء العسكرية أو التدخلات الناعمة الأخرى،
ومحاولة أبنائه الطليعيين بناء «مكعب» كمجتمع مواز وبديل عن مجتمعهم المسلوب.
بمناسبة الترشح للقائمة الطويلة لـ«البوكر»، وعما تنشغل به رواية «التانكى»، وتنشغل به عالية ممدوح فى مشروعها الأدبى ككل، أجرت «الدستور» معها الحوار
التالى.
■ بداية.. كيف استقبلت خبر ترشح «التانكى» للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر»؟
– استقبلت خبر ترشح رواية «التانكى» بتقدير وسرور كبيرين، خاصة أننى تعلمت من جميع إخفاقات حياتى الشخصية والمهنية ألا أدع منسوب التوقعات عاليًا أبدًا،
وإبقاء أقدامى على الأرض، وألا أدع الأوهام تطوحنى بعيدًا فى الهواء.
■ هل توقعت الترشح.. وفى رأيك كيف تخدم الجوائز الكاتب العربى؟
– أكتب منذ عقود ولم تكن هناك جوائز قط، ولم أتوقع يومًا ما نيل أى جائزة. اليوم هناك جوائز عدة وجميعها مرموقة وأساسية ولها الصيت الشاهق مثل «البوكر»، وأرى
أنها تسهم فى التأريخ الأدبى لكتابة الرواية. فالملاحظ أن هناك انشقاقات فى الأعمال الروائية الجديدة، منذ عقدين على الأقل، ما بين الأعمال الكلاسيكية، والأعمال التى فلتت
من ذلك التعريف وتبحث عن أنساب جديدة لها لسانها الشخصى، فقامت «البوكر» بتكريس بعض تلك المؤلفات الحقيقية ودفعت بالجائزة إليها.
■ تتحدثين فى الثلث الأول من الرواية عن تأثير التدخلات الأجنبية فى العراق فى مرحلة ما بعد انتهاء الانتداب البريطانى وكأن العراق لم يطب من الاحتلال حتى فى
صورته الناعمة.. كيف ترين تأثير هذه «التدخلات الناعمة» مقارنة بـ«التدخلات العسكرية»؟
– لم ينته الانتداب البريطانى بالاستقلال فى أكتوبر ١٩٣٢، فكل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وضعت استراتيجيات شاملة بتواريخ مفتوحة إلى هذه الساعة لنهب
جميع ما يخطر على البال، مما عرف تحت وما فوق الأرض من ثروات مادية وبشرية هى ملك لأجيال يافعة كانت تحلم باختراق الكون من حولها. واستخدمت هذه الدول كل
الوسائل، وعلى رأسها الإرساليات التعليمية والدينية والتثقيفية، التى كانت مثل السم والترياق معًا تلتصق بالألسن والأرواح وتشوش الأدمغة ولا تسد نقصًا لدى التابع والخادم
لها.
■ «عفاف» هذه الشخصية صاحبة الصوت الشجى والحزين، الصامتة والمجنونة، والفنانة الصادمة والغائبة الحاضرة.. هل كل تجليات تلك الشخصية هى تجليات لصورة
العراق الأصيلة كما ترينها؟
– نحن ندون ونؤثث الأمكنة، وتشتغل المخيلة بأقصى ما تمتلك من كهربائية، فيحضر سؤالك أو مقال أحد النقاد ليضعنى ويضع الشخصية المركزية «عفاف» بهذا التجلى
الفائق. عندما أبعث خطابًا أنا أعلم ما كتبت به، لكنى أجهل كيف تلقاه الآخر، القارئ أو الناقد، وهذا ما يتم التفاوض عليه بين القراء والروائيين وباقى المبدعين فى سائر
الفنون. «عفاف» بقيت فريسة نوبات التيه والجنون، لكنها ظلت تكد فى شبه ترويض يومى لتقديم نفسها ومعارفها، وربما بدون وعى وضعت شفرات بلدها كالمقاتلة الحقيقية
أمامنا، ولعل من المهم هنا تذكر كلام العم مختار عنها: «إنها تمتلك موهبة الشقاء، فاللا سعادة هى وتيرة حياة ووجود فى مجمل مجتمعاتنا العربية».
■ هل سعى الشخصيات للبحث عن «عفاف» هو مسعى للبحث وملاحقة العراق الغائب؟
– أظن أن جميع شخصيات الرواية كان بانتظار ذواتهم، للبحث عما فقدنا نحن، فكانوا ينتظرون الحب فى بلد لا يعرف المحبوبين، بسبب التعصب والاكفهرار والعبوس فى
الوجوه والعقول. الحب كما أزعم وحده يدلنا على أول الطريق، وهذا تكرر فى جميع أعمالى بـ«ثيمات» مختلفة. العائلة تبحث عن أحوالها وهشاشتها، وهى تعتقد أنها تؤدى
واجب البحث عن الابنة الغائبة المريضة المختفية أو المفقودة. علينا دائما المثابرة وبعزيمة للبحث عنا نحن، عن أنفسنا ذاتها.
■ قلتِ «عفاف صمتها هو الإيغال فى وجودها، وإن هذا التوارى يناسبها».. هل «عفاف» تعيد صياغة نفسها الآن فى ظل الاحتجاجات الأخيرة بالعراق؟
– استغرق تأليف الرواية فترة طويلة بعدما واجهتنى محنة صحية قاسية، لذا فى الصفحات الأخيرة كنت أدون وأنا شبه أحتضر وأعيش على الأوكسجين فترة أشهر. ويوم بدأ
إعصار ثوار العراق، حضرت «عفاف» وهى تردد مع الوالد «أيوب» كلمة مهمة: «عار التحمل»، فالثوار بالتأكيد قاموا بالإخراج اللغوى والوطنى والوجودى المذهل
وهم يكتبون بأريحية مذهلة فى جميع ساحات العراق: «نريد وطنًا يغسل العار، عار الجميع». تجاوزوننا جميعًا وقاموا بتوبيخ سردياتنا وتنظيرات بعض نقادنا الخشبية،
فثمة إبداع ووعى وخيال وتنظيم وإدارة وتوقد ذهنى تجاوز جميع توقعاتنا ومن بقى من الطبقات السياسية، التى كانت تتبجح طوال عقود بـ«النقاء الثورى»، أو «اليسار غير
مجهول النسب». ستقوم قيامة العراق، هكذا كنت أكتب وأقول، وسيدون الأبناء ومن الجنسين رواية الروايات.
■ «المكعب» هذا البناء العجيب الذى تدور من داخله وحوله تفاصيل كثيرة فى الرواية، ويبدو كأنه محاولة لبناء مجتمع جديد «بديل» ولو فى مساحة صغيرة على نهر
دجلة.. ما قصته.. ولماذا جاء ملهمًا لك لهذه الدرجة؟
– «المكعب» بناء عجائبى بالفعل، ونحن ننتظر قدوم الساعة الملائمة لكى يتناوب على السكنى فيه جميع أجناس وملل وقوميات وألسنة وثقافات وأهواء، للشعراء
الملتاعين والروائيين والمعماريين والسينمائيين والمسرحيين والمغنين، وغيرهم من بناة ورعاة المجتمع الآتى القادر على احترام الآخر فى تعدده و«تأتأة» ألسنته، بثقافته
وهامشيته وأصول دينه. و«المكعب» اخترته من داخل كتاب «قصة شارع حيفا»، للمعمارى العراقى معاذ الألوسى الذى استأذنته حتى يكون «المكعب» علامة لإقامات
شخصيات «التانكى»، وهو بالفعل مكتوب مثل النوتة الموسيقية، التى تصلح لجميع النعوت، التى تخص الأنوثة والذكورة، وظل حلم العودة والعيش فيه يوجع «الألوسى»،
الذى هجره إلى منفاه فى أوروبا، واليوم أزعم أننا قد نستطيع جميعًا العودة إليه، أى الخروج من «يوتوبيا» المخيلة، والسكنى فى واقع الجمال المنتظر.
■ لماذا قد تحارب السلطة السياسية «المكعب» فى رأيك؟
– السلطة كانت تريد أن يكون هذا البناء من أولويات مهندسيها المعماريين بالدرجة الأولى، فكيف يتخيل الآخر كل هذا السحر، ويبنى بكل هذه الفتنة دون أن يكون تحت
سطوتها وقانونها فكريًا وإبداعيًا وإداريًا. هو بمعنى من المعانى استشعار للتحاسد وإثارة الضغينة على المبدع والمبدعين، الذين بقوا خارج القطيع، وإلا حولت البناء إلى خردة
والمبدع إلى غائب دائم.
■ «مكية» و«طرب» و«بيبى فاطم» و«صميم» و«الألوسى».. هذه الأسماء مدهشة فى دلالاتها للتعبير عن تشكيل العراق الثقافى وجذوره السنية الشيعية
الفنية والمسكون بالطرب والشعر والثقافة.. هل تسكنك هذه الصورة المتكاملة عن العراق القديم وتراثه؟
– العراق هو هكذا دائمًا، له بريق الدنيوية المتحركة الشاسعة، ودائما يستدعى حقيقته الجبارة: إما أنه فى القاع خسران ومغلوب على أمره وقليل الحيلة، كما هو منذ الاحتلال
الأمريكى بالذات حتى بزغت بهجة الثوار، وإما فى الذروة، مستحوذًا على غواية وأمانة التأريخ والعمل على بناء الأمة والمدن الكبرى. أنا عشت العراق بالصورة التى كنا فى
بيتنا لا نعرف ماذا يعنى «المذهب»، وأن «الدين» هو بالدرجة الأولى حفظ الأمانة وصون ألسنتنا من كلام العيب والسوء، وألا نفشى الأسرار، لأنها ليست ملكنا، أما
الحقيقة فلا أحد يمتلكها، ونحن أبناء البشر حضرنا للبحث عنها فى العلوم والإيمان الصحيح.
■ أنت لا تحبين كثيرًا فكرة الحديث عن الماضى بشكل مغرق فى الندم على الحاضر، لكنك فى كتاباتك تعودين إلى هذا الماضى كثيرًا.. إذن كيف تفلسفين رحلاتك إلى
الماضى فى كتاباتك؟
– علينا عدم الانزلاق لتمجيد الحنين للعيش فى الماضى قبل تفكيك مصادره واستجوابه وإيجاد الحلول له، فلا يمكن الخروج منه قبل الاعتراض عليه، على الكثير من جوانبه
وآلياته وثقله. هناك مسرحية بريطانية عنوانها: «التفت إلى وراء بغضب». عمليًا هكذا اشتغلت منذ روايتى الأولى «ليلى والذئب»، الفاشلة فنيًا، كتبت عما يلزم فى تلك
الفترة عن المقاومة الفلسطينية، مرورًا بـ«الغلامة» الممنوعة، التى كانت ضربًا سرديًا لحقبة دموية صاخبة وموجعة. وكذلك رواية «المحبوبات» كشفت للصديقات فيها
أن التعاضد البشرى والصداقات المغايرة بين البشر تصلح لأن تكون وطنًا، وفى رواية «التشهى» حاولت القيام بتفكيك دور الحزب الشيوعى بشخص أحد الأعضاء «
أبومكسيم»، الذى تحول إلى تاجر أدوية فاسدة يعيد تصديرها إلى العراق، بجانب رجل المخابرات، الذى كان يبث الترويع والفزع بين أقرب الناس إليه: زوجته. لم يكن
العراق كالجنائن المعلقة، كان يحمل بذور جميع ما نراه الآن، لذا سيكون من الحماقة الإنسانية والسذاجة الفكرية أن نكتب عن أسياخ الكباب اللذيذ، وقدح الشاى فى أحد مقاهى
شارع «أبونواس»، وسماع أغانى ناظم الغزالى ونردد: «آخ.. كان العراق لا مثيل له». هذا الضرب من الكتابة لا يعنينى، وهو أصلًا ليس هدفى فى مغامرة الكتابة.
■ فى معرض حديثك عن رواية «الغلامة» بأحد الحوارات قلتِ إن «الغرام فعل سياسى لأنه يتخطى المرجعيات».. هل يمكن أن تسهبى لنا أكثر عن هذه الجملة
الفلسفية المكثفة؟
– هذه المقولة حصلت معى شخصيًا، فقد تزوجت من مناضل بعثى وكنا نعيش لاجئين فى لبنان. ويوم أخبر قيادة الحزب عن رغبته بالزواج ثانية رفض الحزب ذلك
وبطريقة شديدة الفظاظة. فأجابهم: «حسنًا.. إننى أرتاب بجميع ما علمنى إياه الحزب، وأى عقيدة تقوم بإسقاط معنى الحب والتعامل معه بنوع من الحذر كأنه وباء أو إثم لا
يسعنى البقاء فى صفوفها». وهذا ما حصل بالفعل، تم تجميده حزبيًا، ولم أعلم بهذه القصة إلا بعد سنوات، لم يشأ إعلامى، ربما كما نقول بالعراقى «لكى لا يكبر رأسى».
■ إنجابك لعباراتك الطازجة وراءها حيوية وانفعال وكأنك فى حالة معايشة واضحة لتفاصيل وحيوات داخل العراق.. كيف تستطيعين القبض على هذه الطزاجة رغم أنك
تعيشين خارج العراق منذ أكثر من ٢٠ عامًا؟
– شخصيًا تركت العراق منذ ٣٧ عامًا. لا أراه إلا عبر «التلفزة»، ولا أقرأ لكتّابه إلا ما يرسلونه من كتب للقراءة أو الكتابة عنها، وما يكشفه العراق داخلى دائمًا وأبدًا هو
الطاقة، وفى وسعى رؤية ذلك فى انعطافاته الكبرى منذ أكتوبر ولليوم، مقابل سفاهات وانحطاط وابتذال الأحزاب الحاكمة ورموزها المتعفنة.
■ «ستبقى الثعالب وهى تسرد أحداث التاريخ تزور وتلفق».. هل هذا يفاقم المسئولية على الكتاب والمفكرين العراقيين؟ وهل تنطلقى أحيانًا فى كتاباتك من هذه
المسئولية؟
– الكثير من سرديات تاريخنا الحديث مزور وعبيط ومتورم بـ«جنون العظمة»، فما على الروائى الحقيقى إلا تشكيل سرديته التاريخية بالوثيقة والمرجع والمستند الصارم،
وربما من أفواه من بقى حيًا من تلك الحقبة كما حصل معى فى هذه الرواية. الكتابة معارضة حقيقية لما هو سائد، وهى فعل مفتوح على الحرية من بابها الشاسع، ليس من
النزاهة التواطؤ مع القارئ ولا التخلى عنه أيضًا، كما لا يجوز ندب ثقوب التاريخ المزور، الذى زورته «الثعالب». دائما وعلى مر السرديات التاريخية الكبرى فى العالم،
على الكاتب الحقيقى الاستجابة لصوته الخاص ومخالفته على عموم ما يحصل حوله ومعه وأمامه. يبقى الكاتب هو صاحب المخالفة الحقيقية، لا تلك النمطية المريضة.
https://www.dostor.org/2956998
https://www.alghulama.com/images/stories/mukablat/dostor_alia.jpg