2012-07-25
هي ذي المسوغات السبعة لعدم كتابة الرواية كما تطرأ على تفكيري:
1 ــ هناك الكثير ممن يكتبون الرواية. فبالإضافة إلى أولئك القادمين من الماضي والمقيمين بيننا دوما، والذين يعلنون عن رغبتهم في أن تُقرأ كتبهم إلى الأبد، هناك الآلاف من الجدد يظهرون كل سنة على كاتالوجات الناشرين، وفي مكتبات العالم أجمع، وليس هناك هؤلاء فحسب: فالآلاف والآلاف من آخرين أخفقوا في الوصول إلى المكتبات، لكن هذا لا يمنعهم من أن يوجدوا. ومن ثمّ تكون الكتابة نشاطا مبتذلا متاحا لكل من تعلم الكتابة في فصل المدرسة، ولم يكن مٌلزما بأي نوع من الدراسات العليا أو التكوين الخاص.
2 ــ ليس لكتابة الرواية من استحقاق، بدليل أنها تشكل نوعا مُمارَسا، ظرفيا كان أم لا، من طرف كل أنواع الأفراد، مهما كانت وظيفتهم. وبالتالي فالأمر يكون سهلا ومجردا من أي سر. لا يمكن أن يٌفسّر هذا على نحو آخر ما دامت كتابة الرواية يزاولها الشعراء، والفلاسفة، وكتاب المسرح، وعلماء الاجتماع، وخبراء اللغة وموظفو البنك، والناشرون والصحفيون والساسة، والمغنون ومقدمات التليفزيون، ومدربو كرة القدم والمهندسون والمعلمون، والدبلوماسيون والموظفون وممثلو السينما، والنقاد والأرستقراطيون، والقساوسة وربات البيوت والأطباء النفسيون، والإرهابيون ورعاة الماعز. يدعونا هذا إلى التفكير رغم كل شيء،ــ إذا نحّينا ذلك الاستسهال جانبا مع غياب الاستحقاق ــ في أن كتابة الرواية تمنح ربما لصاحبها شيئا، أو تمثل له رضى ما. لكن ما هو نوع هذا الرضى الذي يكون في متناول الجميع، بغضّ النظرعن وظيفتهم وتكوينهم، وعن حُظوتهم وقدرتهم الشرائية. وماذا يُحصّل من هذا الرضى تحديدا؟.
3 ــ لا تُدرّ كتابة الرواية مالا، أو بالأحرى وحدها رواية واحدة من بين مائة رواية منشورة ــ للمجازفة بنسبة متفائلة ــ تعود بنفع مالي جيد على مؤلفها. في أحسن الأحوال يتعلق الأمر بكميّة من المال لا تغيّر حياة أحد، فهي لا تخوّل الانخراط في فترة تقاعد مبكر، إضافة إلى أن رواية بطول عادي وبقليل من الوضوح تستلزم شهورا من العمل، وأحيانا أعواما كاملة. أن تسثمر هذا الزخم من الزمن في عمل له نسبة واحد في المائة من الحظ لكي يكون ذا مردود مادي هو اللامعنى بذاته، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن لا أحد مبدئيا ــ فئة الأرستقراطيين أيضا وربات البيوت اللواتي تُقدم لهن المساعدة ــ يتوفر على هذا الوقت،( الماركيز دو ساد وجين أوستين كان لديهما الوقت الكافي، نظراؤهما اليوم ليسوا كذلك، وما يمثل الحضيض أن الأرستقراطيين وربات البيوت اليوم الذين لا يكتبون، لكنهم يقرأون، لا يجدون الوقت لقراءة ما يكتبه الروائيون).
4 ــ لا تُكسب كتابة الرواية شهرة،أوإذا تحققت فإنها تكون ضئيلة وربما مستخلصة بطرق سريعة وأقل استثمارا. يعرف الجميع أن الشهرة الحقيقية يصنعها التليفزيون وحيث أصبح من النادر أن يظهر روائي على شاشته، عدا أن يجعل الروائي ظهوره غير مقترن بأهمية أوجودة رواياته، لكن بصفته معتوها أو مهرجا مقتدرا، في صحبة مهرجين آخرين قادمين من آفاق أخرى (أن تكون فنية أم لا، فهذا بلا أهمية). ولن تكون أعمال هذا الروائي الشهير حقا ـ ذي الشهرة التلفزيونية ــ سوى الذريعة الأصلية، المُملّة والمنسيّة بسرعة، لشعبيته التي يرتبط أمدها بمدى قدرته على المناورة بعكاز، ولفّ إيشاربه حول رقبته، وخفض شعره المستعار واستعراض قمصانه من نوع الهَواي وصِداره المٌكرب والحديث عن الكيفية التي يتواصل بها مع الإله الهرطقي أوالعذراء الأرثودكسية أوأية حياة لذيذة، أو حياة أصيلة كانت تٌعاش يوما بين أحضان العرب (هذا في الأقل بإسبانيا)، بدلا من نوعية أعماله المستقبلية التي لا تهم أحدا في الواقع. من جانب آخر، إنه من العبث بذل جهد في كتابة رواية لتحصيل الشهرة(حتى لو كانت كتابتها على نحومسطّح، فالأمر يستلزم وقتا) بينما ليس بالضرورة اليوم فعل أي شيء خاص أو ملموس لكي نكون شهيرين:زيجة أوارتباط مع الشخص المناسب،وما يتبع ذلك من حزمة فضائح زوجية مثيرة وتلك التي خارج مؤسسة الزواج تبدو أكثر نجاعة. هناك أيضا الحل السهل المتمثل في إطلاق بعض البذاءات والفداحات شريطة ألا تكون كارثية علينا إلى حد أن تبعث بنا إلى السجن لفترة طويلة جدا.
5 ــ لا تمنح الرواية الخلود،لأن الخلود ــ من بين أسباب أخرى ــ لم يعد له عمليا وجود. بهذا الصدد فالأثرذاته الذي ينتقل إلى الخلود يبدو منعدما، أقصد بهذا أثر كل فرد: كل واحد منا معرض للنسيان بعد شهرين من وفاته. إن الروائي الذي يظن عكس ذلك فهو يفصح عن غرور أو سذاجة تعود إلى زمن قديم. عندما تدوم الكتب موسما كحد أقصى، فلا يرجع ذلك فقط إلى نسيان القراء والنقاد لها، بل أيضا لأننا لم نعد نجدها حتى في المكتبة بعد بضعة شهور من ولادتها (ربما لا وجود لمكتبات أصلا). من الوهم الاعتقاد أن أحد مؤلفاتنا غير قابل للانقراض. كيف لا تصبح الكتب عرضة للهلاك إذا كان معظمها ميتا قبلا، وعند ولادته بالذات، أو أن لها معدل حياة حشرة؟ لا يمكن إذا أن نعول على الديمومة.
6 ــ إن كتابة الروايات لا تدغدغ الزهو، ولو موقّتا. على عكس الروائي فالسينمائي و الرسام والموسيقي يعرفون ردة فعل جمهورهم حيال أعمالهم ويسمعون حتى تصفيقاته. فيما لا يرى الروائي قراءه وهم ينخرطون في فعل قراءة كتابه، لذا فهو لن يكون شاهدا أبدا على إقرارالجمهور وانفعالاته أو مسايرته. وإذا كان محظوظا في المبيعات، فبوسعه التعزي بأرقامها غير المشخصنة والمجردة ككل الأرقام، مهما كانت عالية. و يتعين عليه آنذاك معرفة أنه يقتسم هذا النوع من الأرقام والتعزية، مع أولئك الطباخين الكبار الذين يستعرضون وصفاتهم، وكتاب السير الفاضحة للشخصيات الملكية، وعلماء المستقبل ذوي السلاسل والقلائد،أو حتى المشالح والجلاليب، وأبناء الممثلات المغتابين، والمحررين الفاشيين الذين يشيرون إلى الفاشية في كل مكان ما عدا في أنفسهم، وأولئك الأفظاظ ذوي التأنق المضحك الذين يعطون دروسا في اللياقة، وحملة أقلام آخرين. أما في ما يخص الإطراء الممكن للنقد، فالروائي لا يحظى به إلا بصعوبة، وإذا شمله، فلأن النقاد قرروا التنازل بلا شك عن فكرة اغتياله، لكن بتهديده في المرة القادمة. وإذا لم يكن الحال كذلك، فمن الممكن أن الروائي وقع في خطأ بشأن الدواعي التي جعلت كتابه يحظى بإعجاب. وإذا لم يحصل أي شيء من كل هذا، وأن النقد المُوجَّه كان صادقا، سخيا،وذكيا فإن من المحتمل أن لا أحدا فطن إليه.
7 ــ أجمّع هنا كل المسوغات المحصّنة إلى درجة تصير معها مُسئمة. مثل العزلة التي تظلل الروائي وهو يعمل، المعاناة الهائلة التي يكابدها في عراكه مع الكلمات وخصوصا مع تركيب الجمل، رهاب الورقة البيضاء، تَلَفُ روحه المداسة من طرف الأطفال و البكائيات والمحيط والجغرافيات، علاقته المهزوزة مع حقائق غليظة كالقبضة تظهر له هو بالذات، نِزاله الدائم في مواجهة السلطة، ارتباطه الملتبس بالواقع والذي يقوده إلى الخلط بين الكذب والحقيقة، صراعه مع شخصياته التي تكتسب أحيانا حياة مستقلة تصل إلى الانفلات من سيطرته (هل يتعين عليه أن يكون رعديدا؟)، إفراطه في الشرب، الطريقة الخاصة أو المباشرة التي تجعله غير عادي لكي يعيش كفنان، وهراءات أخرى ظلت طويلا تغوي الأرواح البريئة أو البلهاء ببساطة، والتي أوعز لها أن هناك الكثير من الولع والشجن، والرومانسية في ممارسة الفن المتواضع والعجيب، المتمثل في خلق وسرد الحكايات.
وذلك ما يقودني إلى المسوغ الوحيد لكتابة الروية والذي أراه خليقا بالإشارة، وهو عبارة عن عناصر قليلة مقارنة بالأسباب السبعة التي سقتها سابقا، ومن المحتمل أنها عناصر تتضارب مع واحد من تلك المسوغات السبعة.
المسوغ الأول والأخير ــ تخوّل كتابة الرواية لصاحبها تمضية جزء كبير من وقته في فسحة المتخيل، الفضاء الوحيد المتحمَّل بالتأكيد، أوالأكثر تحمّلا. ما يعني أنه يتيح للروائي أن يعيش في مملكة ‘ما يمكن أن يكون ولم يكن أبدا’، وفي تخوم الممكن تحديدا، وما سيأتي دائما، وما ليس مقصيّا بعد، لأنه حدث قبلا أولأننا نعرف أنه لن يحدث أبدا. إن الروائي الواقعي أو ما نسميه على هذا النحو، ذلك الذي يستقر ويحيا ـ وهو يكتب ـ في فضاء’ما كان وما سيأتي’،خلط نشاطه بما يقوم به االمُراسل الصحفي والمُخبرالأدبي والموثِّق. بينما لا يعكس الروائي الحقيقي الواقع، بل اللاواقع، لا أقصد بهذا ما هو مستبعد الحدوث أو الخارق، ولكن ببساطة ما كان ممكن الحدوث ولم يحدث. بوضوح أكثر، إن ما هو ممكن، هو دائما ممكن إلى الأبد، يكون ممكنا في كل زمن وفي أي مكان. ولهذا السبب نحن قادرون اليوم على قراءة دون كيخوت ومدام بوفاري، وعلى أن نعيش في أحضانهما لحظة مانحين إياهما كل ثقتنا، معناه عدم التعاطي معهما كمستحيلين أو كحدثين حصلا قبلا، أو شيئين معروفين وهو ما يعني نفس الأمر. إن إسبانيا زمن 1600 التي نعرفها وتعني لنا الكثير، هي تلك التي ارتبطت بسرفانتيس وليست أخرى، وهي حاضنة كتاب لاواقعي، حول فارس قديم تائه، خارج من الكتاب ذاته، وليس مما كان الواقع: الواقع الذي نسميه إسبانيا 1600 لا يوجد، على الرغم من افتراض أنه وُجد، تماما كما لا توجد ولا تُحسب فرنسا أخرى، عدا فرنسا 1900، تلك التي قرر بروست زجّها في عمله الروائي،إنها الوحيدة التي نعرفها اليوم. إن الرواية كما قلت أعلاه هي الحيز الأكثر تحملا. هي كذلك لأنها تهب التسلية والعزاء لزائريها، ولكن لسبب آخر أيضا: بالإضافة إلى كون الرواية عملا راهنا، فهي المستقبل الممكن للواقع. وبرغم أن كل هذا لا يمت إلى الخلود الشخصي بصلة، فهو يعني أن هناك للروائي إمكانية ـ ضئيلة جدا لكنها مع ذلك تظل قائمة ـ أن ما يكتبه، يصوغ ويصير ذلك المستقبل الذي لن يراه أبدا.
ترجمة:علال بورقية، كاتب مغربي مقيم في بروكسيل
المصدر: جريدة النهار