عالية ممدوح
شغوفة حقاً بما يكتبه الثلاثة ؛ ناقدان بارزان ومختلفان ؛ سعد البازعي وصبحي حديدي. يستنطقان الفكر والنصوص، في الإرث المعرفي وفي الرواية العربية والعالمية، في تجميع الأدلة وتحليل سلطة الإبداع، في تعين مكان الإقامة، إقامتي كقارىء بين طبقات من المعايير والمفاهيم والتأويلات، في محاولة للقبض على حقيقة عملية الإبداع فيما يدلان عليه، ويفارقان فيه وحوله في الكتابة والترجمة والاختيارات الخ. والشاعر الباهر عباس بيضون الذي ما زال يتنقل بين سلالات الإبداع وعلى مدى السنين العشر الأخيرة على الخصوص، بين الرواية / السيرة كمسكن للتدوين والتخييل الإبداعي الذي كان يبتكر اقتراحات طليعية في تعدد الأصوات وتدشين الغاء حظر الرقابة على ما قدمه لنا التحليل النفسي في موضوعة الصداقة بالذات في كتابه الآسر « مرآيا فرانكشتاين « وهو يقوم بالتنزه ما بين الذات والآخر. بوسعي القول أن نصوص هذه الحلقة، وبطريقة من الطرق تشير؛ إن لا شيء يحمي الصداقة من عوادي – الغيرة والتحاسد – التي تحضر مباغتة، أو تتحول على مر أعوام الصداقة فتنحو العلاقة تلك نحو التلاشي. ربما ،الضوء الشديد الذي يصيب أحدهم أو أحداهن ما أن يحضر قد يعمي البصر والبصيرة فتتم المصادقة على موت الصداقة. هذا الرأي سوف يتكرر في أكثر من طريقة ومع التسعين بالمئة من نصوص الصديقات والأصدقاء. امتنان شديد للاستجابة العميقة والسخية، وهي المرة الأولى التي أسأل فيها الثلاثة الأعزاء فأتلقى الكرم هذا .
« نيران صديقة »
تقول إحدى الحكم الشائعة إنه عندما يتصل الأمر بالحقيقة فإن العرض أكثر من الطلب، الكل يعرض الحقيقة وقليل هم من يريدونها أو قادرون على تقبلها. ويبدو أن الأمر يتصل بأمور كثيرة أخرى، منها الصداقة. ما أكثر الحديث عن الصداقة، وما أكثر ترددها في الخطاب اليومي ، في الرسائل المتوددة، في وصف الناس بعضهم لبعض، في وصف الأشياء، حتى النار والقذائف المميتة وصفت بأنها قد تكون “صديقة” ! أي صادرة من مصدر صديق. الصداقة في كل مكان ، معروضها أكثر من إمكانية التعامل معها أو تقبل نتائجها أو الخضوع لالتزاماتها. ” ما أكثر الأصحاب حين تعدهم/ لكنهم في النائبات قليل” . ولعل من أطرف مظاهر الندرة فيما يتصل بالصداقة والأصدقاء صعوبة العثور على أعمال أدبية تتمحور حول هذه الخصلة والظاهرة الإنسانية الكبرى . كثيرون هم الأصدقاء في الأدب، وكثيرة هي الإشارة إلى الصداقة، فذلك في النهاية انعكاس للخطاب اليومي والثقافة الشعبية التي تغذي الأدب، لكن ليس من السهل العثور على أعمال تكون الصداقة بؤرة الرؤية والتأمل فيها. على الأقل ليست تلك الأعمال مما يتبادر إلى الذهن بين روائع الأدب، بل وعلى مستوى الفنون. لن تجد كلمة ” صديق ” أو ” صداقة ” مما يتردد في عناوين التراث العربي أو في أعمال الغربيين: لن تجدها في مسرحيات شكسبير أو الروايات الروسية الكبرى، أو أعمال همنغواي أو ماركيز أو كثير غيرهما، أو لدى نجيب محفوظ أو عبدالرحمن منيف أو غيرهما في الرواية العربية المعاصرة ولا في المسرح. في الأعمال ولدى الكتاب ثمة أصدقاء وتناول للصداقة من زوايا مختلفة، لكنها غالباً عرضية ، جزء من موضوع أشمل : الحب، الانتقام، الصراع، الحرب، السعادة، إلى غير ذلك من معان . مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ . مسرحية شكسبير ” تاجر البندقية” من أكثر الأعمال التي أعرفها اهتماماً بالصداقة وإشادة بها، لكنها لا تجعلها بؤرة الرؤية. في البؤرة جشع اليهودي شايلوك، مع أن ذلك الجشع لا يظهره سوى نبل الصداقة بين رجلين يضع أحدهما حياته رهنا يفتدي به الآخر بتقطيع لحمه أن لم يسدد الدين. هل لأن الصداقة أقل اجتذاباً للقارىء أو المشاهد من الجشع؟ هل لأنها أكثر جدارة بالمعالجة بين نوازع البشر لأنها اعمق انغراساً وأكثر ديمومة . ثم أخيراً هل غياب الصداقة بهذا الشكل الفادح ناتج عن رؤية سوداوية ترى أن الصداقة في حقيقتها أكثر مثالية وطوباوية من أن تكون واقعية وجديرة بالتناول؟ أم هل لأنها في النهاية ” نار صديقة ” ؟
*الرياض
«العداوة المقبلة»
الصداقة بين الأدباء والمفكرين لم تكن يوما مثالاً . طالما استهجنا العلاقات التي تنشأ بين أفراد هذه النخب، وطالما وجدناها فوق فهمنا وغابت عنا أسبابها. يبدأ هؤلاء الأفراد متساوين ثم يتفاوتون مع الوقت ويتباعدون وتختلف حظوظهم من الاعتبار والشهرة وهم عند انفسهم متساوون كعهدهم الأول ببعضهم بعضاً فلا يقرن بهذا التفاوت ويعتبرونه بالتأكيد ظلماً وافتئاتاً أن لم يعتبروه من لعنات الحظ ومفاجآت القدر. لابد عندئذ أن يشعر هؤلاء بأنهم ضحايا مؤامرات لن يعفوا الآخرين من الاشتراك ولو على نحو غامض فيها. مصدر ذلك أن الناس لا ينمون سواسية ولا يكبرون سواسية . يشبه ذلك العلاقات العاطفية والزوجية التي ينكر فيها المتضررون فعل الزمن ويحملونه على فساد الطرف الآخر وخيانته . من هنا لا تدوم الصداقات في هذا الوسط طويلا بل تحمل الصداقة في قرارتها نقيضها. فكأن العداوة المقبلة تطل من ثنايا الصداقة الحاضرة . ثم لا ننسى أن الفن أو الأدب أو الفكر أمر مغرق في فرديته وخصوصيته وهما امران لا يعترضان العموم فحسب بل يعترضان الفروع والتفاصيل فتبدو الخلافات حول الدقائق والصغائر والثانويات. يمكن للأديب أو الفنان أو المفكر أن يعقد صداقة مع واحد ليس من جنسه وقد يكون تلميذا له أو تابعا . إن صداقة ماركس وانجلس أمر نادر .
*بيروت .
«عن الصداقات الأدبية»
من جانبي، في إطار التجربة الشخصية بالطبع، ما تزال تتوفر تقاليد نبيلة وأصيلة وبنّاة وربما إبداعية أيضا، بين أهل الأدب . وإلى جانب كونها تجلياً، على هذا النحو أو ذاك ، لطبائع العلاقات الإنسانية عموماً ، فأهل الأدب بشر في أول المطاف ونهايته؛ مع ذلك ، اشخص الأمر على نحو ملموس أكثر، في ثلاثة انساق. الأول بين مشتغل بالنقد الأدبي، مثلي، وشاعر أو روائي، حيث تتشعب العلاقة الإنسانية التلقائية، لتكتسب بُعد الإغناء المتبادل، خاصة إذا منح المبدع ثقة خاصة لصديقه الناقد، في قراءة مخطوطاته مسبقاً على سبيل المثال. وهذه كانت حالي مع عدد من الصديقات والأصدقاء الشعراء الروائيين ممن يشرّفوني ببهجة القراءة المسبقة، وينتظرون منّي رأياً صريحاً متعمقاً، يقودهم إلى هذا المستوى أو ذاك من تبصّر المخطوط. التجربة علمتني أن هذه الرياضة تحديداً تنقلب إلى آصرة فريدة لتوطيد المستوى الإنساني من الصداقة، وتتكفل أيضا بغفران أسرع، وأسلس ، لكثير من الأخطاء المتبادلة بين الصديقين. النسق الثاني هو بين كتّاب الجنس الأدبي الواحد / كما في الصداقة بين شاعر وشاعر، أو روائي وروائي. وإذا كنت لم أعش تجارب مماثلة، لأنني لا أكتب الشعر أو الرواية ، فإن حكايات أصدقائي ممّن تنطبق عليهم هذه الحال لا تبشر بالخير دائما، إذ غالباً ما تنقلب صداقة الحياة اليومية إلى تنافس < مشروع مبدئياً > حول تفوّق الصديق على صديقه في الإبداع ؛ قبل أن يتشوّه التنافس الإيجابي ليصبح سلبياً، غيرة وحسداً وانتقاصاً من الآخر، ثم قطيعة تأتي على الصداقة الإنسانية، قبل الأدبية . النسق الثالث هو مزيج من النسقين السابقين، ولكن بين امرأة ورجل هذه المرّة . وفي ظني أنّ الصلة النقدية أو الأدبية الصداقة ، هنا لا تفلح دائماً في إنقاذ الصداقة الإنسانية من المزالق الاجتماعية التي تكتنف اتصال رجل بامرأة ، عموماً ؛ خاصة في المجتمعات العربية التي تحكمها تقاليد عريقة في تنميط هذه العلاقة، وفي تنزيهها عن المآرب الجنسية على وجه التحديد. وأعترف أنني لا أملك إلا القليل جداً من الأمثلة على هذا النسق الثالث، رغم أن الطرفين فيه قد يكونان بمنأى تام عن الأغراض والخلفيات المناقضة للصداقة الطبيعية النقية وغني عن القول إن الصداقات الأدبية تزدهر، وفي ظني، أو تنحدر استناداً إلى صحة أو اعتلال الشروط الإنسانية في هذه الأنساق الثلاثة ؛ وسواها كثير ، بالطبع .
* باريس
السبت 4 ( أم القرى) محرم 1437 هـ – 17 اكتوبر 2015م – العدد 17281 , صفحة رقم ( 17 )
http://www.alriyadh.com/1091847