الكتابة لديها روح منيعة تراودها ثم تروضها وهي تعتبر أننا نحن العرب نمتلك أوهاما كثيرة مرتبطة بفعل الكتابة والياتها وهي تحاول ان تلغي كل ذلك من خلال مدونتها السردية الثرية.
تلك هي الكاتبة العراقية عالية ممدوح ابنة بغداد التي تخصصت في علم النفس قبل ان تغادر عراقها عام 1982 وتتنقل بين بلدان كثيرة كالمغرب ولبنان وفرنسا و بريطانيا وكندا وغيرها.
وهي التي نحاول تصفح رواية المثيرة للجدل والموسومة ب”التشهي” وهي تميط اللثام فيها عن الجنسانية بكل ملابساتها فهي تعري الفعل الجنسي الشائك ولعله لهذا السبب وجدت معارضة شديدة.
تطرح عالية ممدوح موضوع الجنس بكثير من العمق وتوغل في التفاصيل بمنتهى الجرأة ومن خلال شخصية سرمد برهان بطل رواية التشهي المثقف الشيوعي الذي يرغمه شقيقه الذي يعمل في المخابرات على الهجرة تقول الكاتبة العراقية ما لم يقل من قبل وهذا انجازها الحقيقي فهي تنتهك خصوصيات الرجل وتدخل تحت جلده كما قال عنها النقاد.
ويكتشف سرمد برهان المهاجر وفي جو أمعنت الكاتبة في جعله غرائبيا عجزه عن الفعل الجنسي وهو العاشق للمغامرات والذي اتخذ من الجنس طوال حياته أداة لإبراز فحولته والتباهي بها. خاصة وانه ظل دوما معلنا ذكورته وحاملا لها في كل مغامرة جديدة.
ويكون مآل سرمد الذي وجد نفسه في دوامة العجز اللجوء إلى طبيب هو صديقه في باريس ويدعى يوسف وهو سيقدم له طرائق علاجية تقوم على التأمل الروحي وعلى حمية غذائية لكن قوة الرواية تكمن في التفاصيل والتفريعات التي قامت بها الكاتب لاغناء نصها ولم تكتف بهذه الواقعة رغم مركزيتها وهي تضيء على ماضي شخصيتها الرئيسة وباقي الشخصيات الثانوية وتصوغ أسئلة مؤسسة لحاضرها.
في الرواية نكتشف أن العجز الجنسي يتجاوز المعنى الظاهري ويذهب عميقا ليصبح معادلا لهزيمة الوطن وتفككه وتشرد أبنائه وهي حالة العراق التي تسقطها الكاتبة على العالم الحميمي لهذا الرجل.
هنا تنزاح الرواية إلى وجع الوطن وهي تصوغ وجيعة هذا الرجل المكلوم في ذكورته فهو يستذكر خلال فترة علاجه عشيقاته و وجه حبيبته ” ألف” التي اجبر على الابتعاد عنها وتزوجها شقيقه مهند العامل في المخابرات والذي كان موغلا في السادية وهو يحرمه من الوطن والحبيبة معا.
كما يبرز ألم البلد من خلال شخصية الطبيب يوسف الذي يعيش هو الآخر حالة الفقدان ويحكي معاناته مع الوطن.
وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن رواية التشهي مسكونة بهموم الوطن هذا الوطن الذي بات مجرد خيال بالنسبة إلى أبنائه الذين تفرقوا في كل مكان وباتوا يعيشون الشتات وهو معادل للحنين خاصة بالنسبة لمن انكسروا وتمسكوا بانتمائهم ويعادل الضياع بالنسبة للذين اختاروا هوية جديدة.
إذن ليس العجز الجنسي الذي تعريه عالية ممدوح في روايتها التشهي سوى إحالة على حالة التيه والضياع التي يعيشون العراقيون الذين تصورهم الكاتبة كمهزومين منكسرين تقتلهم الغربة ويستوطنهم الوجع ليس منذ سقوط بغداد واحتلال الأمريكان لها وإنما منذ
أن شرعت السلطة الحاكمة في التوحش واضطهاد الشعب.
وعن هذه الرواية يقول الناقد محمد برادة :” رواية التشهي تنهج مسالك شكلية مغايرة لا تخلو من جرأة وحرص على زعزعة التابوهات وفي مقدمتها تابو الجنس “.
أما الناقد عيسى مخلوف فيقول عنها : ” ليس العجز الجنسي إلا انعكاسا اعم واشمل سياسيا وثقافيا واجتماعيا. فتواجه عالية ممدوح اليأس بالسخرية بالضحك. تكتب بالشجن الذي في قلبها.
لا تواجه فقط خوف الحروب حروب الآخرين علينا وحروبنا بعضنا ضد البعض وإنما الخوف من التردي والبشاعة .”
يذكر ان الكاتبة العراقية عالية ممدوح لها عديد المؤلفات السردية الجريئة والمهمة من بينها ليلى والذئب والولع ثم حبات النفتالين والغلامة والمحبوبات التي فازت عنها بجائزة نجيب محفوظ، الى جانب غرام براغماتي .
وعن مسيرتها الإبداعية تقول الكاتبة علياء ممدوح في إحدى مقابلاتها الصحفية ” لا النجاح أفسدني وأخرجني عن طوري كما فعل مع غيري من الجنسين ولا الفتور والجفاء الذي لاحقني أيضا أصابني بالإحباط قط.
لم أتنازل يوما أمام أي قارئ والقراء أعزاء بالطبع لكني في الأخير اشعر أنني لم اخذل البعض الآخر. لا أفضل توقعات البعض من هذا الكتاب أو ذاك. أحب حالة اللاتوقعات في الكتابة والحياة فانتظر قارئا سريا لا اعرف ملامحه أبدا.
لكنني ادري انه موجود يلمس صفحات كتابي هذا او غيره بحنو وصبر كما أنا التي أتحلى بالصب والجلد وما أكثرهما لدي.”