عالية ممدوح
1
تقدم الناقدة اللبنانية البارزة الدكتورة يمنى العيد في كتابها الجديد الصادر هذا العام عن دار الفارابي في بيروت : الرواية العربية : المتخيل وبنيته الفنية . مجموعة دراسات وبحوثا شاركت فيها في مؤتمرات عربية أو دولية . قسم الكتاب إلى فصول ثمانية وكل فصل يحمل عنوانا اساسيا تمهد له الناقدة لمتطلبات البحث ثم تفتح على عناوين فرعية تثري الأصل ثم تحضر القفلة بما يفتح الشهية لتناول جميع بحوث هذا الكتاب الثمين ، فهي تجهد في تذوق العمل الذي يقع بين يديها عندما خصصته للرواية العربية . وقد تطلب جهدا وعناية فائقتين في الاستبصار والتأمل ، في القراءة تحت جلد المفردة والشخصية والموقف . منذ الفصل الأول الذي عنونته ب ؛ المرجعي وفتنته الروائية . في هذا الفصل / المدخل ادارت رأسي كروائية وقارئة إلى طرائق سلوك الكتاب والروائيين فيما يتطلبه المرجعي من وظيفته الفنية ، وتلك الثمار التي اكتشفتها وأنا أقرأ هذا الفصل بالذات ، واضع يدي وبعد عناء طويل على ضيف أنيس كنت انتظره ؛ هو المعيش ، الحياة ذاتها ، وكأنني اتعرف عليها للتو . إننا نفعل أحيانا ونحن ندون اعمالنا وفي دوار وورطة الكتابة التي نفرط فيها ، فلا نتوقف لنعقب أو نتأمل كما ينبغي ، أو نتبصر فيما بين أيدينا وما حولنا من : المهمش ، الطارئ والمدمّر.
2
«» كيف أقول ، يحيل على مرجعي خاص ، تتشابك الفنون ومنها الرواية طبعا في التجربة بصفتها الإنسانية . إنه مسارها التاريخي الممهور بزمن المعيش وأمكنته وناسه وبتقاليد وهويات وعادات تتسم حياة الناس وتشكل بكل ذلك ، مادة السرد وعالم المسرود ، الحكاية ، أو هذا المخزون في الذاكرة «». حين مررت ببيروت في منتصف اكتوبر أصرت صديقتي العيد على استضافتي في دارتها البهية ، وكانت مجمل نقاشاتنا وحواراتنا تدور حول الكتابة والرواية وكتابها الأخير هذا بالذات ، فهو قولا وفعلا كتاب مرجعي وإشكالي وقد ناقشت العيد في ثناياه نظرية باختين التي تقول ، ان الحقل الثقافي العربي يفتقر إلى تنوع المعارف وتعددها وحواراتها ، أي يفتقد إلى وعي معرفي متعدد : «» فتعجز عن توفير الشرط الانتاجي لعمل روائي عربي»» . لا تزال الاراء النقدية العربية في عموم مدارسها تفكك وتعاود استنادا إلى تلك النظرية : «» ان المجتمعات العربية لم تتحقق ثورتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية . وما عرف عن نهضتها ارتكز على قيم فرنسا «» . ولكن في العشرين عاما الأخيرة بالذات كان يمكن أن يقال أو يلقب بسنين هذيانات وانفجارات وتدفقات الرواية العربية وفي بلاد لم نكن نتوقع ان تصدر وفي عامين أو أكثر ما يتجاوز ال 250 رواية كما في المملكة العربية السعودية . لم تلوذ الرواية العربية بما كان وما زال ربما : «» بلغة تنتج معرفة وتأخذ مكان لغة السحر والوعي الغيبي الذي كان يلوذ به الناس «».
3
يمنى العيد في هذه المقدمة المهمة تقدم قراءة مغايرة لمرجعيات الاساطير أو تنوع الخرافة . إنها ترى في مرجعية الاعمال التي بدأت بتفكيكها ودراستها عناوين جديدة تخص : «» تنوع تأملي هو بمثابة بديل لتنوع لغوي حواري معرفي لا توفره شروط العيش للمهمش ، أو للهامشي ، أو لنقل بأن ثقافة الهامشي مارست لدى بعض الروائيين فعلها واستدعت ضروراتها الفنية فأبدعت عالما روائيا عّبر عن قدرته على المجيء بأناسه إلى هذا النوع الادبي الروائي مساهما في تنوعه لا خاضعا لقواعده وقوانينه المنسوبة إلى الغرب «» . واذا ما التفتنا إلى ما انتج من روايات سنلحظ ان استدعاء المهمش ، المختلف ، المؤقت والمضمر والذي سٌكت عنه طويلا قد اعيد له الاعتبار ومنح مساحات شاسعة في الرواية العربية الحديثة . وهنا يحضرني ابراهيم اصلان وخيري شلبي على سبيل المثال . وقد خصصت العيد صفحات استثنائية لاصلان .
4
لكن / قلت لها في أحد الأيام : اذا لم يدون الروائي عن ذلك المهمش اما لأنه غير متورط به ، أو لأنه لا يلتفت إليه ولا يثيره جدا ألا تستطيع الرواية سؤال العالم كما نتمنى ونأمل ؟ لم نتوصل إلى اجابة نهائية فليست هناك مثل هذه الاجابة . بالتأكيد تتضاعف سرديات الرواية العربية وتلاحق المهمش وابعد منه ، في التخييل ، والذاكرة ، الشروط الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي تتبلور وتتأسس ثم تنجز مرجعياتها واحتمالات توالدها ومعانيها المتعددة وقيمها الجديدة . هكذا كنا نتحاور سويا وتدخل على الخط الصديقة والكاتبة علوية صبح فنقلب بعض الروايات للصديقات والاصدقاء ولا ندري أين نضع تلك الوقائع ومتى فقد التوازن هنا ، أو تراجع أو استقام في البعض الآخر . الا انها تناولت الروائي البديع ابراهيم اصلان ووضعت اعماله التي : «» ثابر على المجيء بالمهمش المصري عالم الرواية ، هي حكاية المهمش لا بصفته فعلا يوميا وحسب ، بل بصفته بنية تاريخية وثقافية تستدعي الزمان للتفكير في الوجود . الوجود الذي هو وجود مع الآخرين ، أي في العالم»» . شعرت وأنا أقرأ الخمسين صفحة الأولى من هذا الكتاب ان العيد جعلتني اتذوق المهمش والمدمر المختلط بالواقع بصورة مدهشة حتى ليبدو انه الواقع الصافي بكل حمولته الاجتماعية ، اما ذاك المدمر بأفعال الفتك التام بالمجتمعات كالحروب العربية / العربية / والعربية الاسرائلية على الخصوص في الرواية اللبنانية فقد كتبت العيد : «» ان الكتابة وضعت أمام واقع إشكالي فابناء المدينة أو الوطن هم الذين يدمرون مدينتهم ووطنهم «».
5
في الفصل الثاني دلالات المرجعي في العالم المتخيل وبنيته الفنية تناولت الناقدة عبر رواية نجيب محفوظ ميرامار والثورة المصرية ، والمسألة الطائفية في الرواية اللبنانية ، والقضية الفلسطينية في الرواية العربية . ثم في الفصل الثالث خصصته للعنف وأثره في عالم الرواية المتخيل في فصل شديد الأهمية حين تتناول روايات اللبنانية هدى بركات في حجر الضحك ، ومريم الحكايا لعلوية صبح . ثم تناولت بين قوسين صغيرين ، الأدب النسائي تحت عنوان : «» إشكالية المصطلح ومسح تاريخي وبمرجعيات تاريخية لأسماء الكاتبات العربيات اللاتي بدأن منذ منتصف القرن التاسع عشر وإلى منتصف القرن العشرين الخ ، وفصل الذكورة والأنوثة في سرد المرأة الاردنية ، ثم بحوث في السيرة الذاتية الروائية وعلاقة الحقيقي بالسيري والأنا بالآخر . والأب في الرواية العربية : «» لقد اهدر دم نجيب محفوظ ، واغتيل حسين مروة ومهدي عامل ، ونفي غالب هلسا وغائب طعمة فرمان وسعدي يوسف، كل عن وطنه ، واعتقل العديد من الادباء ، اللعبي ، الشاوي ، صنع الله ابراهيم ، محمود أمين العالم وقاسم حداد «» . الفصل السابع خصصتته للذات الأنثوية عبر روايات عالية ممدوح ورواية فردوس لمحمد البساطي . وفي الفصل الثامن خصصتته للرواية والمستقبل في دراستين مهمتين لمشروع الروائي اللبناني المرموق ربيع جابر، وسؤال الرواية والتاريخ : حول رواية قطعة من أوروبا لرضوى عاشور : «» فهذه رواية تداخل بين كتابة السيرة وحكاية الحكاية ، وسرد التاريخ وتقديم المقالة لتبني فضاءات عالمها الروائي وفق ملاءمة نسيجية ، غير تجاورية بين المدونة والرسالة ، والشهادة الحية ، والاقتباس ، والبيان والمعاينة لشخصية (الراوي ) ، وبهذا التداخل يكسب شعرية التأليف الروائي جمالية لاهثة وراء معرفة الحقيقي «».
***
يحتل أجمل الكتاب الروائي غالب هلسا كل الفصل الخامس في بحث شديد الالمعية والوجع والحيوية من : الجسد في رواية يكتبها رجل . مفندة بطريقة هائلة تقنيات وتوريات وفلسفة هلسا كرجل يكتب عن المرأة بنوع من التكريم لصيرورتها وذاتها ومكانتها الإنسانية. فهذا الكاتب الغالي لم يكف عن ادهاشنا على الخصوص بعد مغادرته عنا ، فهو روائي نادر مذ مات مبكرا ولم يلتفت الا الندرة لاعماله وقصصه وتراجمه ومكابدته بين المنافي والمطارات ومطاردة البوليس ما بين البلدان العربية : «» لا ابالغ اذا قلت بأن غالب هلسا يبدو لي ومن هذه الناحية من اهم الروائيين العرب الذين استطاعوا ان يبنوا لمنظورهم الفكري عمارة روائية حققت تميزا فنيا لجماليتها «» . اما شهادتها وبعد وفاته فقد جعلتني انتجب وطويلا لطاقتها الروحية والعاطفية وهي تبوح وتسرد سيرته المعذبة ومشروعه النهضوي التنويري : «» كان غالب يحاسب تاريخيا من جعل المرأة خادمة وتابعة للرجل . كان يحاسب ذاته ليحاسب الذكور كلهم المتسيدين على المرأة «».
الخميس 6 محرم 1433هـ ” بتقويم أم القرى ” – 1 ديسمبر 2011م – العدد 15865
http://www.alriyadh.com/687732