ميونخ

عالية ممدوح
خرجت من مشاهدة فيلم- ميوينخ- للمخرج الامريكي اليهودي ستيفن سبيلبرغ وحلقي مليء بالغضب والدم. غضبي، شعرت انه معاق ودمي صار يهدر كالماء العكر، الجميع ينكره لكن الجميع، مقابل ذلك على استعداد، أو مطالب أن يبقي الدماء منبثقة ميمونة وحارة. الاعلان عن الفيلم بدأ قبل نهاية العام المنقضي. نقرأ عنه في الصحافة ونشاهد الملصقات في المترو والجادات العريضة من شوارع باريس. الملصق معتم جدا ولاضوء فيه إلا ذلك الصادر من الموتى.
اختار الفيلم لسياقه الدرامي الحادثة المدوية عن خطف وقتل الرياضيين الاسرائليين في دورة الالعاب الاولومبية التي جرت وقائعها في ميوينخ من العام 1972 من القرن الماضي وقد تم ذلك على أيدي منظمة ايلول الاسود. اليوم بيننا وبين تلك الحادثة أكثر من ثلاثين عاما ومسافة تاريخية وروحية أكبر من عدد السنين وأكثر هو لا مما أصابنا جميعا من غصص. المنظمة الفلسطينية التي تبنت هذا الاتجاه في تلك الحقبة أرادت من العالم الاصغاء إليها كله ودون تفريق ودون استئذان، فالظلم الفادح الواقع عليهم وعلينا والذي لا زال، قد يسمح لهم بشئ من العصيان، بشئ من الجنون وبمنتهى البراءة. لم يعد يكفي استنزال اللعنات على الظلم والظالمين، كان وديع حداد، الرجل الاسطورة وراء جميع تلك العمليات، يرى أن قدر الفلسطينيين هو جزء من ذنبهم أيضا، أن يكونوا من فلسطين وان يكون عدوهم هو هذا فقد مرت جميع التسويات والدولة العبرية تتوسع وتنهب وترفض القانون وبضمنه القانون الآلهي، وإذن، فما على الفلسطيني أن يخسره إلا تلك المراحل من الاذلال والقهر والمهانة. فحدث مثل ميونيخ لا يفترض النظر إليه نظرة اختزالية وتبسيطية ولو مرت تلك السنين الطويلة ونحن نشاهده في العام 2006 وبتحريف واعوجاج في البصر والبصيرة من صناعة ومنتجيه. الفليم مثل أفلام هذا المخرج الاشكالي، قوي جماليا وفنيا وبصريا، فلا ثانية من المل، كان الوقت يمر بين قطع للأنفاس، والذعر من قساوة اتقان القتل، فكما بدأ في الفيلم، أن ليس بوسع الضحايا إلا الموت مرتين، مرة في الحياة الواقعية ومرة في الافلام التي تحمل عناوينها مهمات بلاغية وتثير اشكالات سياسية وأخلاقية ولاهوتية حتى الساعة وإلى عشرات السنين الآتية. يتم الاختطاف وبالتالي قتل الرياضيين، والموساد العبري بدوره يحضر لفعل الاغتيالات لمجموعة من الكتاب والمفكرين والشعراء والسياسيين الفلسطينيين. الرياضي الذي يتدرب على قوامه وعضلاته ولياقته البدنية والتي قد تستغرق وقتا بالطبع، اقل بكثير مما يستغرق الاعداد لمثل اولئك المفكرين والنشطاء الفلسطينيين، الذين يمتلكون ملكات أساسية في التحليل والاستنارة والمعرفة، ولا وقت محدد لاسهاماتهم لدى شعبهم وأمتهم، هذه النوعية من الافراد كانت تعمل على اتساع رقعة الفكر والحوار مع العدو ومع العالم المعادي لها، هي ايضا يتم اغتيالها وعن طريق الخطأ. فورة وجيشان تلك الحقبة في تاريخ حركة النضال الفلسطيني لازلت آمل لو كتبها اصحابها، وبالحس النقدي الجذري مالها وما عليها فهذا رهان للمستقبل واستخلاص نتائج من الماضي. فالفيلم هذا لم يمنح الفلسطيني إلا دقائق غائمة معتمة فضفاضة للتحدث عن اشكالية وجودية وأخلاقية. (الفيلم أكثر من ساعتين ونصف) والباقي كان مكرسا لصوت عميل الموساد الذي أدى دوره وباقتدار كبير الممثل الاسترالي اريك بانا ولمجموعته المختارة للتصفيات، وبدرجة لا تصدق من اللاانصاف والاحجاف المذل للفلسطيني فاللوبي اليهودي في اميركا تضايق جدا من أنسننة الفلسطينيين الذين صورهم الفيلم. والمخرج يقول، أنه أراد إعادة صوغ المشهد الانساني في المراحل التي تلت العملية الفدائية. ذلك أن الموساد كلف بمطاردة ما يقارب من اثني عشر مسؤولا فلسطينيا وضعوا لغرض التصفية الجسدية ما بين روما وباريس وبيروت لكن فريق الموساد، هو ايضا يتشكل من بشر، هكذا يصورهم الفيلم والمخرج وهم يرتكبون أخطاء فادحة (في الواقع لم يسجل الفيلم القتل الخطأ لنادل مغربي في إحدى الدول الاسكندنافية) فيدعهم يصفون بشرا لم يرتبطوا بتلك العملية اصلا. في تصريحات المخرج بعد الحملة عليه: أجاب: انه لم يهاجم اسرائيل، هو بالكاد انتقد سياستها وذلك باستخدام العنف المضاد في مواجهة العنف تلقى الفيلم كمايقول الكثير من الانتقادات لأنه أثار أسئلة حول الثمن المعنوي الذي دفعته الدولة العبرية لاستهدافها الفلسطينيين الذين قتلوا رياضييها، فالمجموعات الأصولية في المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة غاضبة للغاية من المخرج وذلك للسماح للفلسطينيين وببساطة أن يكون لديهم تلك الدقائق، أي أن يكون لهم الوجود والكثافة الانسانية، كاتب السيناريو والناقد المعروف طوني كوشنر، وهو ناقد شديد اللهجة للسياسات الاسرائيلية وهو مؤلف حوار الفيلم، ومع هذا لم نسمع كلاما معقولا وعادلا للفلسطيني قط، إلا اللهم حين قال احد الفلسطينيين: ان الزلابية هي صناعة فلسطينية. هذا الفيلم تم نقده من قبل اليمين واليسار اليهودي فقد أثار فعلا تساؤلات عن الثمن الأخلاقي الذي دفعته الدولة العبرية من سمعتها بقتل بشر لم يشتركوا في التخطيط ولا في الهجوم. فالدكتور وديع حداد مهندس تلك العمليات لم يره احد ولم تنشر صورة واحدة له ولم يظهر في أي اجتماع جماهيري ولو بقناع أو متنكر ولم يصفى جسديا، بقي إلى آخرأيامه لا يرى إلا من المقربين إليه قط، حتى وافته المنيه بعدما أصيب بمرض السرطان. المخرج يقول، انه تلقى وابلا من القذائف وكان الأمر مفهوما من تلك الصادرة من اليمين لكنه لم يفهم من اليسار مما جعله يشعر بوعي أكثر بالعقيدة وموقف رافض للتغيير الذي يخاف ان يتخذه الناس في أي وقت يوضع فيه الشرق الأوسط في موضع التساؤل. عميل الموساد يبدو في اللقطات الأخيرة انه غير مستعد- أنسانيا- على قتل المزيد (قتل ستة أبرياء) قال، لست بقادر على قتل المزيد، قال أريد البقاء بعيدا عن الدم والموت.
أريد الابتعاد عن اسرائيل والموساد وذاك الجنون. كانت كلفة الفيلم 100 مليون دولار ولم يتوقع الخسارة مع العلم أنهم خصصوا من أرباح الفيلم حصة ما لشراء 500 كاميرا تصوير فيديو صغيرة توزع مناصفة على الشباب الفلسطيني والاسرائيلي لكي يصوروا افلاما عن حياتهم العادية وعيشهم اليومي في المنزل والمدرسة والشارع والجامعة، وعن الأحلام التي قد يتبادلها هذا مع ذاك كي يشعروا أن كلا الشعبين هم بشر ولديهم هموم خاصة وذاتية، عامة ومشتركة، وليسوا مجرد الآت قتل ضد بعضهم البعض. هكذا صرح المخرج مضيفا، هو أمر يقلقني فعلا كإنسان وفنان ويتركني مذهولا أمام الاحداث المرعبة واستمرارها على الأرض الفلسطينية والاسرائيلية. الموضوعية التي يدعيها هذا الفنان لا تستغرق في هذا الفيلم الممتاز فنيا وغير العادل أخلاقيا إلا بضعة دقائق، هي ذات الدقائق التي ينظر ويسمع بها العالم عن وإلى قضايانا باللامبالاة والخبث والسفالة.

الخميس 20 ربيع الآخر 1427هـ – 18 مايو 2006م – العدد 13842
https://www.alriyadh.com/155284