من يؤنس السيدة

عالية ممدوح

بعد مجاميع قصصية عديدة لافتة يصدر القاص والروائي الفلسطيني الأردني محمود الريماوي روايته الأولى من يؤنس السيدة الصادرة عن دار فضاءات في طبعة أولى عام 2008 ، وطبعة ثانية في العام الذي يليه ، فتتقدم وتصل للقائمة الطويلة للبوكر العربية في الدورة الثانية . تقدم هذه الرواية تجربة إنسانية عنّا جميعا ، عن الفوات ونظام الزمن الذي ليس بمقدور أحد الإفلات منه . السيدة أم يوسف تخطت السبعين، فتعثر وهي في طريقها للتجوال والتسوق على “” سلحفة “” باللهجة العامية المحببة ، بحجم كف اليد . ترصدها وتلتقطها عائدة بها للبيت الشرقي الفسيح الكائن في حي قديم في مدينة الزرقاء الأردنية ، تتحرى لها عن سكن ، أو عن قانون مغاير لم تتعرف عليه من قبل ؛ في وحدتها وعزلتها وسكوتها الطويل . لها ثلاثة أبناء كل في مدينة ، كما هناك سلسلة من الجيران الأقرب والأبعد ، وقبل هذا وذاك ، هناك لسانها الخاص ، المنخفض الذي لا يتلعثم ، فنراها تقتر وتقتصد في الأسئلة والردود ، بدت لي أنها تسمع بلسانها أيضا ، فهي قليلة الكلام والخطوات ، تتصرف بالموجودات حولها بابتعاد ، ولولا بعض الفعاليات الحياتية الضرورية لانتفت الحاجة للحركة حتى . وجود حيوان غامض يحمل لغزا في حركية وجوده ، في العينيين الساهمتين ، والرقبة في امتدادها واختفائها بغتة ، كائنان كل يتفحص وجوده ويحاول أن يسعْد من يجاوره بشيء من الحشمة ، بتناغم وألفة تبعث على التأمل الطويل فيما يُستحضر بين البشر والشجر والحيوان ، في امتلاك لغة ما، أو أنساق لم تمر على صيرورة امرأة من قبل ، هي بذاتها، والتي تبدو لنا أنها تنتظر حُسن الختام ، والتخلص من عبء جميع أنواع الأزمان . إن مجرد وجود كائن ما بجوارنا نبدأ بالبحث عن الكلام الأولي القديم الموجود تحت ألسنتنا البدئية والعمل على تحسين أدواته وآلياته ثانية ، فتناديها : “” بس ، بس ” فهي لم تعاشر سلحفاة من قبل ، لكنها ترى الهررة وتعرف مناداتهم ، ويحسن بها اليوم تحضير أسلوب جديد للمحاكاة مع هذا المخلوق ، والتعرف ، وبالدرجة الأولى على كينونتها هي أولا ، وربما من خلاله .

2
أم يوسف سيدة فلسطينية هُجرت مع أسرتها قسرا وشُردت من “” بيت أمّر إلى عقبة جبر قرب أريحا ، ومنها إلى مخيم الحسين على تخوم جبل النزهة في عمان ، عرفت كلمة لاجئة ولاجئين حتى قبل أن يفارقوا الديار “” ببرود ماكر يكتب الروائي عن القضايا الساخنة ، بلا يافطات اتسخت من الاستعمال ، وشعارات تدنست من التصويت المغشوش ، وما اهتمام المؤلف بهذه الكائنات الصغيرة في هذا العمل إلا هو تكريم للوجود والمخلوقات معا . في الثقافة الشفاهية تحضر هذه الحيوانات وغيرها وهي ُترصد وٌتراقب عبر هشاشتها وحكمتها ، حساسيتها وانكماشها . قرأت من قبل للريماوي قصة قصيرة مدهشة عن خنفساء تعبر الشارع وكأنها تعبر الخط الوهمي ما بين الموت والحياة . هنا أم يوسف ، وهذا الحيوان الملتبس سوف يضاعف مثابرتها على التقصي لحالات القوة والضعف لدى المخلوق البشري ، وتطور العلاقة ما بين هذين الكائنين في لحظات خاطفة وجارفة بالمعنى الوجودي الثري والعميق : “” حاولت مناداتها ، لم تفلح في اختبار نداء صوتي مناسب كما طالما فعلت ونجحت مع قطط وكلاب وخراف وخيول ، فاستدارت ووقفت أمامها تسد عليها الطريق . تمشي أمامها وتتلفت نحوها ، كما فعلت مع أطفالها وأحفادها الصغار ، حين علمتهم المشي نحوها أول مرة . وقد نجحت المحاولة فأخذت السلحفة تتبعها طائعة وهي تعبر باب الغرفة . بذلك استعادتها كمن يستعيد ابنا مريضا ضّلت به السبل “” السلحفاة هي ذاتها المرأة ، هي بمعنى ما ، الآخر ، العمر الذي تجاوز العافية في طريقه للضعضعة والانسحاب من الدنيا ، لكن السلحفة صغيرة ، شابة ما زالت ، تمد رأسها وتأكل الخس والخيار والطماطم ، وهي ذاتها تحمل شيئا من التعويض المؤقت ، بدل الخسارات المتوالية والفائضة على حدود التحمل . أم يوسف اختارت السكنى والعيش بمفردها ، وهي من المرات الجميلة أن يقدم روائي على إبقاء الوالدة ولوحدها متحديا هو المؤلف ، وهي المرأة الجليلة منظومة القيم العائلية والعشائرية والطبقية ، ولو على مضض أولادها وجيرانها ، ولذلك كانت حياتها ولوحدها تشي بعذوبة شديدة على قوة التحمل وبسالة منقطعة النظير.

3
هل هذه السلحفاة ذكر أم أنثى، وماذا لو دخل طرف ثالث إلى الساحة ، ساحة الصراع والوجود ، قطة مثلا ؟ بقيت هذه الأسئلة الطبيعية والطريفة تتوالى على ذهن السيدة ، وماذا إذا احتدم كل شيء فيما بينهما وخسرت القطة جولتها وكانت ذكرا ؟ “” فلتدرك أن ذكورتها لا تنفعها مثل رجال كثر ولا يفلحون في شيء “”. “” مثل ضيفة على نفسها “” بدءا من المخيم ، القرية ، البيت الأول الذي هُدم : “” أيام تركض ركضا بنا إلى أين ؟ الزمن ما عاد فيه بركة “” ياه كم هذا صحيح ودقيق ، كل واحد منّا حارس يرقب عداد أعوامه ، بعضنا يهرج ، وآخر يضطرب ، والمؤلف يسخر وهو يبدي إشارة الاستحسان . هنا في باريس والغرب عموما يعيشون ويتسامرون ، يتألمون وينتظرون وبشغف حقيقي للحيوانات ، في الغالب القطط والكلاب ، هي استراتيجية للحنان المفقود ، واللسان المقطوع ، والابن العاق ، والفردية الغاشمة التي تكلف الدولة المليارات ، ويتكلف أصحابها الكثير جدا جدا من المال أيضا . صديقاتي لديهن قطط غاية في الغنج والفتنة ، الكلبة بيكي انتحرت فور مغادرتنا أنا وولدي العراق ولآخر مرة ، فلم أعد أطيق لمس أي واحد من هؤلاء . ليس هناك منهج واحد في تحضير التواد فيما بين المخلوقات البشرية وبعض من هذه الكائنات الأمينة ، الحنونة والجميلة . محنة أم يوسف هي الفقد المتوالي ، الفقد التام ، بدءا من البلدة الأولى والأهل ، الزوج والابن الذي يقتل في حادث سير ، وحين تزوره تردد : “” حتى في المقبرة نومته غير مريحة “” . فقدْ قوة العمر ، وانسحاب وابتعاد الأبناء ، هو نوع من فقدْ متعدد الاوجاع . أمنيات تجول في رأس السيدة ومعظمها لا يتحقق ؛ لو ترى ولدها يوميا ، المرض يدعه يحضر ، وهي لا ترغب أن يكون الوجع هو الهدف من الزيارات . بمراوغة تبدو عفوية وشبه بريئة يشيد الريماوي رواية مكتملة البناء والسرد ، الوصف والاستبطان ، في محنْ الكائن البشري ، ومن داخل خط سير دم المرأة في حالاتها النفسية والعصبية والاجتماعية ، في الرحابة الدينية حين تغدو أم عوني النصرانية الابنة والمعين لهذه الأم والصديقة فتزورها في الساعات الأخيرة وهي على وشك الاحتضار . أم يوسف التي تدخل أفولها الحتمي فتذهب لموتها ، والسلحفة تؤخذ هي أيضا لمصير بين التجريب والتجارب المعملية التي قد تجرى عليها ، فقدت ، أو ضاعت أو قتلت ، لا فرق ، وأم يوسف : “” تمشي في جنازتها “” . الاثنتان في طريقهما للمغادرة .
اليوم ، لا استغرب حين لم تصل هذه الرواية إلى الشوط الأخير لجائزة البوكر ، فهي عمل لا علاقة له بما يؤنس السادة المحكمين ، ولا يثير البهجة الزائفة ، فهو خارج الموضة . بإيقاع بطيء ، بمثابرة ومزاج ممرور وساخر يشتغل الريماوي . قرأت صفحات بصوت السلحفاة ، التي منحها المؤلف مساحة أقرب إلى الاعتراف والشجن والفتنة ، شعرت أنني ألتقي بسلحفاتي أنا شخصيا ، ألتقي بجانب من هشاشتي وسكوتي الداخلي ، وحيواتي المتكاثرة في وجودي ، وكأنني عشت قرونا مثل السلحفة التي تعيش على الأقل 200 سنة عبر الشخصيات الروائية التي أشتغل عليها في كل عمل : “” نحن السلاحف لا نتكلم . أتكلم معي .. داخلي فلا يصدر عني صوت ، ولا يسمعني أحد . من ينظر إلى عيني يرى أني أتكلم باطنيا مع الماضي وآلاتي ، مع الفراغ والامتلاء ، مع الغبار والشعاع ، مع الكائنات القريبة ، ومع أهل جنسي ، لكنهم جعلوني أتكلم … “” .

الخميس 9 صفر 1432 هـ – 13 يناير 2011م – العدد 15543
https://www.alriyadh.com/594161