عالية ممدوح
كاتبان روائيان وإعلاميان من جيلين مختلفين في أشياء كثيرة. القاص الأردني محمود الريماوي، صديق عاصمة الشباب الثقافي والإبداع العربي، في هذيان الحداثة في خطواتها الأولى، بيروت ونحن نحيا وسطها في السبعينات. والمسرحي السعودي عبدالعزيز الصقعبي صديق ورق الملاحق والصفحات الثقافية في صحيفة الرياض. كتبت عن الكاتبين، الريماوي الاستفزازي بطريقته الباردة البيضاء وتهكمه الجارح بيأسه وهو يبحث عن بطل أو بطلة مضادة لكي تؤنس السيدة، روايته الفاتنة، فيرصد عبرها صداقة سلحفاة وامرأة مسنة. لا يحب الأبطال فيترك الرواية يديرها كلها اللاابطال. يخزّن الفكاهة والمزحْ، والله، لا أدري أين، وعندما نلتقي في عمان استرد منه حسابا مفتوحاً في التواد القديم والصداقة التي لم تزد يوما عن الحاجة. المسرحي السعودي الصقعبي روائي موهوب يشتغل على نصوصه بصوت خفيض وولع حقيقي فيصيبني بها وأنا أقرأ له: اليوم الأخير لبائع الحمام ورواية مقامات النساء، فكتبت عن العملين وهو يسلمنا خبرته وتجربته وحياءه. كيف يريان فعل الصداقة في مجتمعين تقريبا يتنفس هواء واحداً، باختلاف السن والتجربة ومساحة العلاقات الثقافية المتنوعة والمختلفة فيمتلكان تجربة ثرية ومفارقة.
***
كنت أريد أن أهدي حلقة الصداقة هذه إلى صديقة الكتاب في العالم، المدينة الاستثنائية باريس، فكتبت عما أصابها واصابنا معها. كتبت وحذفت ومحوت وعلمت أن درجة الحزن والغضب لم تبرداً بما فيه الكفاية فتركت الأمر مؤقتاً!
صداقات الأدباء تضمحل لأسباب وجيهة وأخرى تافهة!
الموضوع المثار هنا شيق < شائق > بالفعل، فالحديث عن الصداقة يلقى صدى طيباً في النفس، الصداقة بصفتها قيمة نبيلة وحاجة إنسانية لصيقة بالاجتماع البشري، وسابقة حتى على نشوء الحضارة، فالبشر يحتاجون إلى استئناسهم ببعضهم بعضاً، فإن الاعتمادية المتبادلة تملي إقامة علاقات وثيقة ودائمة ما بينهم، وخاصة في المحيط الأقرب. والاعتماد هنا نفسي وعاطفي، ولن يخلو بعدئذ من براغماتية مشروعة لتلبية ما يمكن تلبيته من مصالح وحاجات. وبينما ينشأ المرء على علاقات موروثة بحكم رابطة الدم في الأسرة الصغيرة ثم العائلة الممتدة (شبكة الأقارب ومن هم في حكمهم)، فإن الصداقة تقوم على الاختيار المحض، على التقبل والاقتناع والانجذاب ولهذا فإن الصداقات الأولى التي نسجها المرء في طفولته ويفاعته تثير في نفسه شعوراً أقرب إلى السحر؛ لقد اختار بنفسه وملء ارادته رفاقه واترابه، وامتدت بينه وبينهم وتواشجت عرى المودة الخالصة، بما يجعل دائرته البشرية اكبر واوسع وأغنى من دائرة الأسرة والعائلة، واقرب إلى خياراته الشخصية واهوائه الذاتية التي ادركها وتعرّف إليها منذ أمد قصير، وها هو يمتحنها في انتقاء اصدقاء له. اما الأدباء (من الجنسين) فيتصادقون في البدء مع تهويماتهم ومثالاتهم، ويعبرون في وقت مبكر مرحلة الانطواء والعزلة، بعدما ادركوا انهم يتوافرون على حساسية فائضة وامزجة خاصة بهم، وإلى خيالاتهم الطلقة فهم يعكفون في البواكير والبدايات على مصادقة الورقة والقلم والدواة قبل أن يتم التوصل إلى التقنيات الحديثة وبالذات الحاسوب، وحين يصادف احد منهم نظيراً له في الإبداع، وشقيقاً روحياً في العذاب العذب، فإنه سرعان ما ينشد إليه، ويجد فيه بعضاً من ذات نفسه، أو حتى وبصورة من الصور يجد فيه مرآة لنفسه. من يرى في هذا التشخيص ضرباً مفرطاً من الرومانسية، فإن الرد عليه أن المبدع يبدأ مسيرته وهو على درجة من الرومانسية والرهافة الذاتية، قبل أن يدفعه التقدم في العمر والتجربة نحو الواقعية نظراً وسلوكاً وابداعاً، وربما صوب التمرد وهذا حال كثيرين لا قلة. الصداقات بين الأدباء ظاهرة معهودة في الشرق والغرب وفي سائر المعمورة، وهي غنية عن الشرح والتفسير والتبرير. فإذا كان الأديب يتخير أحيانا اصدقاء له لا تجمعه بهم اهتمامات متماثلة، فإنه يصبح من المفهوم أن يخفق قلبه لزميله الذي يشاطره انشغالات مشابهة وسعياً متماثلا نحو الاطلاع على ثمرات الإبداع، وسرعان ما تنشأ بينهما ما تسمى بلغة مشتركة: القدرة على الفهم السريع والعميق والمتبادل للأفكار والمشاعر والروى، علاوة على فهم الصديق كإنسان وشخص. ولذلك برزت ظاهرة علاقات صداقة بين الأدباء العرب حتى اواخر القرن الماضي، بل إن غالبية صداقات الأدباء كانت من الوسط الثقافي. ما الذي حل بالصداقات بين الأدباء؟ الذي نشأ في زماننا هذا بعد خمس عشرة سنة على الألفية الميلادية الثالثة، هو أن الصداقة ذاتها كقيمة وحاجة أخذت تتراجع في النفوس والاذهان وتاليا في الوقائع والأعيان. وقد انعكس هذا التراجع أو الارتداد على الصداقات بين الأدباء. بما يتعلق بالادباء حصراً، فإن الأديب ما أن يثبت خطواته على الأرض عبر بضعة أعمال منشورة، فإنه ينشغل بذاته ويقيم اسواراً من حوله ألا من رحم ربي، ويسعى للصداقة مع نقاد واعلاميين قد يسعفونه في ترويج اعماله وذلك على حساب صداقاته مع نظرائه المبدعين. عرفت أدباء تخلوا تماما عن صداقاتهم ونشطوا في الركض وراء الجوائز والترجمات والمهرجانات وسواها، وأخذوا ينظرون إلى الصداقات على انها ضرب من ضروب اضاعة الوقت وتبديد الطاقة،ولزوم ما لا يلزم. وبعضهم يزعمون لأنفسهم أنهم باتوا يصادقون جمهرة قرائهم، مع أن هؤلاء اشباح قلما يمكن العثور عليهم. وإذا وضعنا في الاعتبار ضعف قاعدة القراء، أي ضألتها، وضعف المقروئية بصورة عامة رغم التهافت على اقتناء الكتب من معارض الكتب (وهي في جانب أساس منها ظاهرة استهلاكية استعراضية أكثر مما تنم عن حاجة للمعرفة والتذوق)، فأن لنا أن نرى الوضع على النحو التالي: الأدباء ينتجون بضاعة.. الطلب عليها محدود، وبما أن الزبائن قلة، فقد بات حال اصحاب السلعة الأدبية (الأدباء) كحال التاجر صاحب الحانوت الفقير الذي يتطير من جاره في التجارة لأن هذا يقاسمه اجتذاب الزبائن قليلي العدد الذين يشيحون بأبصارهم عن البضاعة المعروضة لدى الحانوتين! من هنا ينشأ التحاسد وتزهر الشكوك وتضمحل شيئا فشيئا عرى الصداقة التي كانت. لكن صورة المشهد لا تكتمل الا بوضع اليد على جوانب أخرى: المبدعون مشتتون وظاهرة الهجرة الواسعة لأدباء عرب تباعد ما بينهم. وأحيانا هم مشتتون في موطنهم. وهناك ميل المبدع مع مزيد من التقدم في العمر والتجربة إلى الوحدة والعزلة، إلى الاختلاء بنفسه وينابيع ذاته من اجل العكوف على التأمل، وهذه ضريبة يدفعها المبدع فكل عمل جديد يسبقه مخاض من الانقطاع عن الآخرين والاستغراق في التأمل، وكأنما يعود المبدع القهقهري إلى بداياته، حينما استشعر وحدته لأول مرة وهو فتى يافع. الجواب في النهاية على التساؤل المثار هو: نعم، للأسف. الصداقات تضمحل بين الأدباء، حتى أن لسان حال الكثيرين منهم يكاد ينطق بإن لا حاجة للصداقة!
*الأردن، عمان.
صداقات العالم الافتراضي،
قال لي زميل العمل وهو مبتسم: أتعرف كم بلغ عدد أصدقائي؟ وأكمل مباشرة: لقد تجاوز عددهم ثلاثة آلاف صديق. سألته ما نوع الصداقة، قال جميعهم من الأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي، وهنالك عدد كبير من كبار الأدباء كسبت صداقتهم وتواصلت معهم، حينها علمت أنها صداقة العالم الافتراضي الجديد، صداقة “لايك وديسلايك”، وهنا أتساءل هل صداقة الكتاب والأدباء بعيداً عن وسائل التواصل الجديدة تدخل أيضا ضمن هذه الدائرة الهلامية، قبل أن أجيب عن هذا التساؤل بدأت استعرض اسماء اصدقائي وجدت أن مجموعة كبيرة منهم تعرفت عليهم في مكان يدخل ضمن دائرة اهتمامي، هذه الدائرة تتضمن كل ماله علاقة بالقراءة والكتابة، فكثير ممن كنت أقرأ لهم والتقيهم كنت احرص ان تكون علاقتي معهم جيدة لتصل إلى مرحلة الصداقة، بعضهم كان التواصل عبر الهاتف أو البريد التقليدي أو الالكتروني، والبعض الآخر جمعتنا الملتقيات والندوات والفعاليات الثقافية، ربما بعض هذه العلاقات لا تنطوي تماما تحت إطار الصداقة، هنالك رابط يجمعني مع أغلب من أطلق عليهم أصدقاء مجازاً، الا هو الكلمة، بالطبع رابط قوي ومقدس، وكثير من الصداقات تكون قوية لوجود الهم المشترك، وبعد الدافع النفعي، ولكن هذه الصداقات تشبه الدوائر التي تحيط بالإنسان، فكلما ابتعدت الدائرة وكبرت كانت العلاقة أقل، وكلما اقتربت وصغرت كانت العلاقة أقوى، وربما يقوّي من هذه العلاقة، وحدة المكان للتواصل السريع والمباشر، ووحدة الزمان وبالذات فيما يتعلق بالعمر، وبالطبع وحدة اللغة، وأخيراً وحدة الهدف، في الزمن السابق كان المكان هو الأقوى لربط الأدباء والمثقفين ببعض، لذا رأينا الجماعات، ربما بعضها شكل مدارس أدبية، أو جمعيات خالدة، وبكل تأكيد لو لم تكن الصداقة قوية بينهم لما تشكلت تلك المدارس أو الجمعيات. بالمقابل المؤسسات الثقافية وهنالك أمثلة في المملكة العربية السعودية منها الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، هذه المؤسسات وبالتجربة لم تساهم في تكوين صداقات بين الأدباء والكتاب، لأن الرغبة في إيجاد الصداقة مع الآخرين تنبع من داخل الفرد، ولا شأن للمؤسسة بها، لذا نرى أشخاصاً مهنيين لاكتساب صداقات مع كل من يقابلهم وآخرين يفضلون البعد والانطواء. من جانب آخر هنالك صداقة المنفعة وبالطبع هذه ليست صداقة فحين يكون شخص ما لديه موقع خدمي معين يلاحظ زيادة عدد الذين ينشدون يده ويرغبون كسب صداقته ليس حباً به ولكن للاستفادة منه، وأرى أن هذه ليست منتشرة في أوساط الكتاب والمثقفين الذين يربطهم كما اسلفت حب الكلمة، ولكن وبطبيعة البشر هنالك الاتفاق والاختلاف، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وأنا هنا حين استعرض الصداقات، أجد أن عالم الصداقة غريب، وبالذات لدى الكتاب والأدباء والمثقفين، فالعلاقة بين الكاتب والقارىء أو العكس أو بين الناقد والمبدع أو العكس يكون الرابط الأول هو المنجز الإبداعي، قد يكون سبباً في تقوية العلاقة أو ضعفها، وإذا كانت الصداقة غطاء لهذه العلاقة، واتسمت بالصدق والشفافية، اصبحت العلاقة قوية وإن كان الرأي حول المنجز اإبداعي قاسيا فالصديق من صدق.
* المملكة العربية السعودية، الرياض
السبت 9 صفر 1437 هـ – 21 نوفمبر 2015م – العدد 17316, صفحة رقم ( 17 )
http://www.alriyadh.com/1102495