عالية ممدوح
1-
كتاب مارجريت أتودد هذا عنوانه بالبنط العريض – مفاوضات مع الموتى – وبجوار ذلك بخط أصغر كتب على الغلاف: تأملات كاتب حول الكتابة. صادر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر ضمن المشروع القومي للترجمة، ترجمة وتقديم عزة مازن. الملاحظة الأولى استخدام – المذكر – في تأملات كاتب بدلا من كاتبة. استفزتني هذه الطاعة للمذكر ودقة النظام الذي يجعل البعض يسير في أثره حتى لو كانت من كاتبة من العالم الأول، كندا. مارجريت حصلت على جائزة بوكر البريطانية المرموقة عن روايتها القاتل الأعمى في العام 2000.اشتركنا سويا في كتاب واحد صدر قبل بضعة أعوام وضم أربعا وعشرين شهادة لكاتبات عالميات عن الكتابة والألم والحب ومن جميع القارات. آسيا جبار من الجزائر، تسليمة نسرين من بنغلاديش وكاتبة هذه السطور من العراق. عنوان الكتاب هو طدز، كلمة. صدر عن دار نشر فمينيست بريس، جامعة نيويورك. الشهادة التي أشتركت فيها مارجريت أتودد في كتاب كلمة موجود نصها في كتاب المفاوضات، هذا الكتاب عبارة عن مجموعة تأملات ثرية وعميقة جدا، هي كتابة عن الكتابة، كتابة عن اولئك الذين نرقبهم وهم داخلنا، نخاف عليهم الذهاب خلسة ونرتعب من دقة توقيت الغياب. كتاب أسر ينفث فيّ ما كنت أعرفه جيدا لكني دونته بطريقة ثانية وسيظهر فيما بعد. أقرأ ويدي على أهبة الاستعداد تضع الشروحات والخطوط كالعادة وأنا أرقب المرمى قائلة: لقد شوطت أتودد عاليا وحصلت على أهداف شتى، لها ولنا تحقق النصر.
2-
مارجريت أتودد شاعرة، روائية وناقدة وكاتبة للأطفال بدأت النشر منذ العام 1961.ألفت أكثر من ثلاثين كتابا وترجمت إلى أكثر من خمس وثلاثين لغة. هذا الكتاب هو مجموعة المحاضرات الأدبية التي ألقتها في جامعة كمبريدج ضمن برنامج محاضرات امبسون الذي تتبناه الجامعة وتدعو للمحاضرة فيه نخبة من مبدعي الأدب ونقاده والباحثين فيه حيث يتناولون موضوعات ثقافية وأدبية شتى بأسلوب يفهمه جمهور الحاضرين من غير المتخصصين. يلاحظ، أن البعض يفضل التأملات وهو في سن الكهولة والنضج الرصين، التأمل هنا ترفق بما أصاب ويصيب الكاتبة من اشراقة بشرية جميلة وهي ترقب ذاتها والآخرين ويدها على أهبة الاستعداد لكي ترافق أكبر قدر من الاصحاب والأصدقاء: نحن القراء الذين نحاول الاقتراب من فؤاد الكاتبة وهي تدون الفصول الستة من هذا الكتاب تحت عناوين المتاهة وصولا إلى مفاوضات مع الموتى. تختار مارجريت في بدء كل فصل مختارات من أقوال بعض الكتاب العالميين الذين يفشون أمامها ببعض الأسرار عن فتنة الكتابة ولهذه المتاهة التي سوف تدخلها وقد لا تطلع منها وهذا أجمل. يستهوي الكاتبة ذاك التعداد الهائل الذي لا يزال قائما ويتردد، الا وهو السؤال الأبدي: لماذا نكتب؟ تفتكر أتودد أقوالا شهيرة عن هذا كأن: “اليس الفن إذن لا شيء سوى رغبة المرء في أن يبدو مشغولاً” أو “هو لا شيء سوى خوف من الصمت، من الضجر” وإذن، لمن نكتب؟ لماذا نفعل ذلك؟ من أين تأتي تلك الكتابة؟ اقرأ وأتصور أن مارجريت تسألني أنا أيضا. هي تسأل حنان الشيخ وسحر خليفة ورجاء عالم وسلوى بكر الخ هي تسأل الذين خرجوا من الحشد وأستقلوا قطارا قد لا يصل إلى أية محطة. فحين أضع كتاب أتودد جانبا، أفكر فعليا بجميع الكاتبات العربيات اللاتي أعرف ولدي مع بعضهن صداقات نفيسة وأدري أن هاجس الكتابة لديهن لازال ملتبسا وغامضا، لكننا وبدون استثناء لدينا رحلات صيد وأستطيع أن أتصور الطرائد، تلك الجميلة وهي تلاحقنا في الخلوات، فانا على سبيل المثال لا أعرف سوى الكتابة وأشياء بسيطة في البستنة وصنع العقود الفضية “عملت معرضا في لندن في أحدى السنين ونجح نجاحا لازلت اتشكك به لليوم” لم أفعل أي شيء في حياتي الا الكتابة، التهيؤ لها، القتال من أجلها، الترحال في سبيلها، تخريب البيت الأول وصناعة بيوت من الكلمات. ماهذه البذرة القاتلة التي تعشش في الروح، تقضم ولا تشبع. أشعر وأنا ألملم شمل المفردات والنعوت والكلمات، أفعل ذلك لأنني لم أعد بقادرة على لملمة شمل النفوس والارواح التي ضاعت إلى الأبد. إنني كاتبة أحاول أن لا ينفد صبري، فاطلق على حالي سيدة الانتظار، وأعود دائما إلى هؤلاء واولئك الذين ماتوا واختفوا علّي أسمع أنين أحدهم أو أحداهن فالحق بهن لكي تنجدني.
3-
يعقل أن الموتى ينقذون الأحياء، فالاموات كثيرون وكثيرون جدا، وهذه الكاتبة الكندية لها مقاطع في الكتاب وكأنها تكتب عنا، عن كاتبة في السودان أو اليمن، حين تذكر أن الفتاة أذا شطت تقتل أو تشوه أجسادهن. تتصور الكاتبة في بعض المراحل الحالية، على الأقل منذ الخمسين سنة المنقضية “أنها تحمل على عاتقها أحلام الناس ومخاوفهم وخيالاتهم” لكن الكاتبة أتودد لديها خصلة بديعة يفتقدها معظم كتابنا وكاتباتنا العربيات ؛ التواضع الجم والمضاعف على طول رحلة الدنيا، هي تتعلم من اليد اليسرى وتضيفها لليد اليمنى وتشعر بالنزاهة والكرم فتتضاعف الدنيا من حولها. ففي فصل الخداع تتحدث عن القرين المخادع. كل واحد منا لديه قرين، لكننا أحيانا لا نصرح بذلك، لا نعترف وأحيانا نتشكك في وجوده ثم ندفنه في سرداب لاوعينا. إن القرين في بعض الأحيان أهم من الأصل، هو الذي يضفي البهجة على الأصل فلولاه لما حصل الأصل على اسمه الحقيقي: “لقد تنكر أوليس ليدخل قصور ايثاكا مرة أخرى. إن ذلك الآخر، الشخصية الشبحية الغامضة التي تشاركه الجسد نفسه وفي غفلة من الآخرين تسيطر عليه وتستخدمه لإنجاز الكتابة الفعلية”.
4-
أحيانا نكتب عن أكثر الأشخاص التصاقا بهم، نعم قد لا يكونون حقيقيين تماما، ومن هم الحقيقيون فعلا، نحن، ام شخصيات كتبنا ورواياتنا؟ إنني دونت ما أعرف عن عشيقات بعض الاصدقاء، عن الأخوة المغدورة والامهات المخذولات، ولعل الشخصية الخيالية فعلا التي كتبتها وأثارت لغطا وشجنا هي شخصية الوالدة في النفتالين. لقد منحت تلك الأم اجنحة لكي تطير أمامي فلا أستطيع الامسك بها الا عبر الكلمات. إنني لم أتعرف على أمي الحقيقية قط فقد توفيت وأنا في الثالثة. وإذن ما كان عليّ الا الاحتفاء بموتها وقيامتها ثانية عبر الكلمات. لقد اتصلت بي إحدى الصديقات الكاتبات حال الانتهاء من قراءة الرواية وصوتها ملتاع بالانتحاب لتقول لي: لم أنم حتى أنجزت القراءة وأنا أبكي على مصير الأم. من الجائز، شعرت وقتذاك، أن النحيب حالة شجن شديدة جدا لكنها في رأيي، هي، ربما رد الاعتبار لتلك الأم. ترى كيف نحتفي بالموتى من حولنا خارج المنديل والدموع؟ حتى الآن، بالطبع لا أعرف من الذين بقوا أحياء بعد وفاة أمي أن كانت قد أحبتني أم لا؟ أم أنها مثل والدي وكل فحول تلك البلاد يفضلون خلفة البنين على البنات، ولذلك في الكتابة لا نعود نهتم بنوايا الموتى تجاه الذين ظلوا أحياء. المهم هو ما تركوه من لوعة وتعاسة. إن الموت يدع بعض الشرور تزهق معه.
5-
“اذا أردت أن تكون كاتبا جادا فلتفعل ذلك من أجل الفن فلا أمل أن تفعله من أجل المال” ضحكت وأنا اقرأ هذا الكلام. كنا نقول ان المال لا أهمية له ما دمت تقول ما تريد لكن من ينشر لنا ما نريد؟ واذا نشر هل يدفعون لنا، واذا دفعوا هل يدفعون ما نستحق؟ يظل الكاتب يظن أنه لا يستحق الأجر الذي يناله، أي أجر، انه أكثر براءة مما يظن به صاحب دار النشر أو رئيس التحرير الخ. ذلك كان قبل ثلاثين عاما حين كانت الحمى شديدة ؛ أن الكتابة فيضان من كل شيء وهي كالدم لا تتوقف عن الجريان، وإذن فالنقود لم تكن بانتظارنا، لكنها اذا حضرت فلم نقول لها لا. هذا الكلام لا يشفي جوع أحدنا في الوقت الحاضر. جميع الكاتبات والكتاب وربما هناك بعض الاستثناءات يعملون بجانب شغلهم الابداعي بعمل آخر، أكاديمي، إعلامي، تدريسي أو أعمال حرة الخ. تواصل أتودد قائلة:
“كنت على دراية وثيقة بأهم سببين يجدهما الكاتب مدعاة فخر واعتزاز، وهما أن يحقق الكتاب أرباحا كثيرة أو لا يدر مالا على الاطلاق. فكلا الأمرين يضفيان على الكتاب قيمة وتميزاً”. وحسبما يبين هايد، فان ما يجعل القصيدة أو الرواية عملا فنيا لا يستمد قيمته من عالم سعر السوق، وانما هو يأتي من عالم الموهبة التي تعمل في اتجاهات مختلفة، فالموهبة لا يمكن وزنها أو قياسها ولا يمكن شراؤها، توقعها أو طلبها. وهناك أربعة سبل للتنسيق بين القيمة الأدبية والمال:
“كتب جيدة تدر ربحاً مالياً. كتب رديئة تدر ربحا مالياً. كتب جيدة لا تدر ربحا، كتب رديئة لا تدر ربحا” والى حلقة قادمة.
الخميس 15 ربيع الأول 1427هـ – 13 أبريل 2006م – العدد 13807
https://www.alriyadh.com/146232