عالية ممدوح
– 1 –
(أين عسانا ان نجد الجمال بوضوحه الجلي وتفسيراته الواسعة سوى في الفن ؟ واذا تتبعنا هذا السياق الفكري حتى نهايته وصلنا إلى نتيجة، أنه حتى الانحراف الجمالي عن البعد الأخلاقي ينطوي في ذاته على بعد أخلاقي) ليس بوسعنا الركون إلى مراتب أخلاقية كمواضيع الوفاء والصدق والشجاعة والأمانة ونعوت كثيرة يقرها المجتمع والدين والعرف ونؤخذ بها لكي يستجيب العمل الفني والابداعي إلى الجودة، إن قوة الفن تكمن في الرهان عليه هو أصلا، على تفوق المخيلة وسلطة الخلق وصورة المكر والتقاط هواء المراوغة الفني النقي والملاحقة الدؤوبة والموجعة في بعض الأحيان للشخصية لتحقيق شرطها الوجودي، أن تكون هي هي بشرورها وتواضعها تقول لي ما لا تقوله في أي مكان، وإنما هنا في هذا العمل فتجعلني أحس أنه سيصل إلى أكثر من مكان. اننا نبلغ هدف الجودة عندما لا نقرر ذلك أبدا، عندما نلمح ونتلعثم ونضعف وتفوح منا رائحة التواطؤ أو الفرار أو الوقاحة أو الكرم أيضا. ليست هناك أماكن لا يقدر الخيال على الوصول إليها كما الحلم. إننا نصل إلى هناك قبل أن نتكلم ونتعلم الكتابة وكلما نفعله فيما بعد هو التوكيد على ما شاهدناه في أحد المنامات وما علينا الا تسجيله كفعل، أما ردود الافعال فهناك من يحاول فعلا أن يزيحها عن الطريق. لكن أين الفكاهة والطرفة والسخرية والضحك العاتي الذي قد يسبب الوفاة في بعض الأحيان.
هذا الاتجاه اشتغل عليه ميلان كونديرا وقدم عصيان العبيد في الأنظمة الشمولية في بلده بالذات، الجيك، فأظهر ذلك التوتر العنيف لدى الشخصيات ولكن بلغة مشدودة بضحك مكتوم، في بعض الأحيان ينبثق كالانفجار. أعتقد شخصيا أن الضحك يقدر أن يقوض الفوضى والجنون الذي يلازم هذا العالم من حولنا. السوفيت كانوا يطلقون نكاتا فيها من الحقيقة أكثر مما عملته المخابرات الامريكية من تقارير أو وضعتها من كتب. ولعل أعظم فلاسفة البشرية – الاغريق – كانوا يحتجون ويسخرون من الآلهة بواسطة الضحك الذي كانت تتحكم فيه الاشراقات الفلسفية. إن احدى مهام الضحك والسخرية هو فحص محتوى المصير البشري ما دمنا محكومين بالموت فما علينا الا الاحتجاج والمعارضة بالضحك.
– 2 –
تصل مارجريت أتودد في كتابها الجميل إلى حدود الفتنة في دقتها بالتقاط جميع العلامات التي كلنا وضعناها في خطوط سيرنا وكنا نخاف عليها أن تسقط بفعل أمور شتى، طبيعية أو اجتماعية أو ذاتية. تقول الكاتبة في تساؤل مرير، يوميا أردده لنفسي: (ماذا نحصد بالمقابل فيقول في المقابل، نحصد شكوك العالم ووحدة أليمة نحياها ولا شيء غير ذلك) نعم، هذا أمر به شيء أكثر من الحقيقة، لكن في معظم الأحيان يبدو الفن أهم من الحقيقة. سجلت ذلك بالضبط على لسان احدى شخصياتي الروائية. كنت اسأل جل صديقاتي اذا كنا فعلا ولوحدنا، ترى، وماذا بعد ؟ إنني أدري أمرا واحدا لا غير، أنني أحب عيني وأذني أكثر من لساني، إنها ذات مشكلة الصوفي، فهو يرى أكثر من عينيه ويسمع أكثر من أذنيه ولا يقول بلسانه الا الصمت الجميل أو الله الله. هكذا شرحنا بعضنا لبعض، الصديقة والكاتبة الفرنسة الكبيرة هيلين سيكسو وانا في أحد اللقاءات، وكأنها كانت تريد أن تقدم عنقها لشيء أو لأمر غير مرئي، للجوهر ولا يعنيها بعد ذلك ماذا سيحصل، أن قطعت الرقبة أو ذهبت إلى غير رجعة. لكن أتودد تعود وتنكد الأمر وكأنها تسجل يومياتي في أحد أعوام عمري: (في حالة الفن الأمر أسوأ لأن التضحية المطلوبة تضحية كاملة فلا يمكن لامرأة أن تكون زوجة وأماً وفنانة في ذات الوقت فكلا الشيئين يحتاجان تفانياً) في احدى المرات سئلت لحساب مجلة نسائية عربية عن أهم شروط الأم المثالية. لم أكتب الرد حتى اليوم خشية أن أكون مضللة وأقود إلى انحراف تربوي وعائلي أنا في غنى عنه. ولا يوم كنت أماً مثالية ولا أدري حتى اللحظة ما هي هذه الشروط المرتبطة إلى حد ما بالهاجس الطبقي والوجاهة الاجتماعية أو بذلك الاجلال السخيف للنجاح في امتحانات العائلة والعشيرة. أعرف أن ابني اليوم مهندس الكتروني ناجح ومطلوب وهو يمتلك شخصية ساخرة ومرحة جدا، ربما تشير إلى شيء من التزعزع النفسي، لكن أمره لا يقلقني قط. ففي بعض سني العمر قد يحتاج المرء الشقاء أكثر من السعادة، يتصور أن التعاسة تحمي شروط الوصول للحب، وإلى اجتراح أمور تغذي لديه الجودة والتفنن في العمل والحياة سويا. سجل تربيتي لولدي ناقص وغير مثالي ولا أشعر بوخز ضمير من جراء ذلك فانا لا أتصور الدنيا بالمثاليات، وإذن ما علينا الا أن نكون نحن أنفسنا. لقد سجلت في احدى المرات خطة للكتابة عن الكاتبات العربيات فقط، كم واحدة ترملت، طلقت أو توحدت. فكرت بعمل استمارات مثل تلك المعمول بها في طلبات الشغل في احدى الوزارات حين يسأل المختص عن الحالة الاجتماعية فتترك الخانة فارغة لأنهن يشعرن وبصورة حارقة أنهن في وضع ميئوس منه. عموم من أعرف من الكاتبات المتزوجات، بغتة، في لحظة صفاء ندرك ونحن نتطلع إليهن أن فلانة، نعم تعيش وسط عائلة الا أنها وحيدة بصورة ناجزة.
– 3 –
ما علينا، فهذا ليس موضوعنا الأساسي فكتاب هذه الكاتبة الكندية سجلت فيه أشد ملامح حياتها الذاتية والشخصية قوة ولطافة وسحرا لكنها بالطبع لم تذكر مثلا أنها تزوجت وطلقت مرتين وهي تعيش وحيدة الآن. أعرف الكثير عن حياتها من خلال رحلاتي المتكررة لزيارة ولدي في كندا ولوجود أصدقاء مشتركين فيما بيننا، وأنها سيدة على الصعيد الانساني رقيقة وعذبة وحنونة وذكية جدا. يستهوي القراء وجمهور الدعوات العامة وفي جميع أنحاء العالم أن تتحدث المؤلفة عن ذاتها، الذات وليس الأنا فالفرق بينهما أكثر من شاسع. يفضلون الإصغاء والكاتبة تفشي بعض الاسرار بشيء من الدهاء، على أن لا يبدو ذلك الا نوعا من الفن، فهي تقول بعد أن نشرت كتابين صغيرين: (لم يسألني الناس عما اذا كنت سأقتل نفسي، وانما سألوني بصدق متى سأفعل ذلك، أي عن الموعد. فلن يأخذك الناس مأخذ الجد كامرأة شاعرة اذا لم تتقبلي احتمال فقدك للحياة أو التخلص منها نهائيا. اليوم، ان الناس لا ينظرون للمرأة الكاتبة على أنها راهبة أو كاهنة معربدة، وإنما يرونها مجرد إنسان لا أكثر ولا أقل) لكن هناك كاتبات لا يفعلن أي شيء في حياتهن الا فعل الكتابة، الحياة لديهن هي الكتابة ذاتها، المسرات جميعا، الآثام أن توفرت العقوق، فصول من الجنون في المعيش ذي الحيوية التي لا تنفد لا تعرفها بعض الكاتبات وفي جميع أنحاء العالم، انهن يؤثرن دور الكاتبة المتنسكة للسعات السرية للاحبار والبياض من خلال الكلمة والمفردة لا من خلال الارتطام بالدنيا الحقيقية. الكاتبة أتودد لديها من الاثنين لكن كفة الصرامة أقوى: (فالفن في شتى أنواعه نظام صارم ملزم. فهو ليس حرفة فحسب، انما هو نظام صارم بالمعنى الديني يشمل سهر الانتظار وإنكار الذات وخلق فراغ روحي منفتح للتلقي. كل يقوم بدوره) كاتبة من العالم الأول، كندا، تشخص ذات الخروقات التاريخية لما يمكن أن نسميه، ذكورة الهواء حتى، فتقول في ذلك كلاما لا زلنا نكرره ولا بأس من تدوينه ثانية: (لا تتفق كلمة عبقري و كلمة: امرأة في لغتنا. فالنساء تنطبق عليهن كلمات مثل موهوبة وعظيمة) ثم تنتقل إلى موضوع شائك جدا لكنه شديد الثراء الا وهو: (هل من حقك أن تسرق محادثات استرقت السمع إليها في مواقف الحافلات وتلصقها في بناء غامض من تأليفك ؟) تطرح اسئلة شتى، عن الحرص والتكوين، عن الشغب والاحتيال، عن الواجبات والأعباء. كتاب كل صفحة تنتهي من تصفحها ينتابك القلق والألم لأنه سوف ينتهي، فكل ما يخطر ببالنا نحن الكاتبات والكتاب تضعه هذه الشاعرة والروائية في السلة أمامنا تمد لنا وتقول هيا تفضلوا: (ففشلك الفني لا يعوضه كمالك الأخلاقي وعجزك في الابداع لا يكفر عنه عطفك على الكلاب).
الخميس 6 مايو 2006م – العدد 13828