عالية ممدوح
كتبت لي شادية عالم تقول: إنني بانتظار يوميات عمتك كما وعدت في أحدى المقالات. كأن عمتي لا تمتلك الا أرضاء رغبات صديقتي، جل صديقاتي. عمتي اليوم تتعثر بالجثث في المنام واليقظة. قبل قليل حادثتها بالهاتف بعد الاحداث الدامية التي وقعت في الأعظمية. قلت لها، مرت ثلاثة أعوام على الاحتلال والحرب واليوم القتل وصل إلى غرف النوم، نومك؟ كيف أنت؟ ترد وصوتها غريب فعلا، حتى قبل أن تسمع صوتي يبدو صوتها سقيما عليلا: هي مريضة فعلا، هكذا تبدو، الصوت لا يخادع أحدا، على الأقل أنا. صوت عمتي كالشعر المضفور، بمعنى، عمتي تتغنج عليّ أولا فأصغي إلى صوت مرضها الحقيقي، لكن العمة تحب أن تزج نفسها بمنطقة غامضة، هي مثلي أو أنا مثلها، تحب تلك المناطق فتبالغ في الونونة وأبالغ في الإصغاء والخوف عليها. كلانا يمثل دوره وكلانا مدين للآخر لإنهاء الدور والتصفيق قبل إسدال الستارة. كلانا يعرف انه يمثل، فأشغف بدورها وأراقب دوري. أحب طريقتها في تكسير ايقاع الدور فهي لا ترتكب شططا لكنها تريد امتلاك ابنة أخيها، قالت بهدوء غريب:
– حتى أشجار الحديقة الصغيرة توقفت عن الاهتزاز حين وصل الأمريكان إلى حي الأعظمية. حينا التاريخي والديني والثقافي. هي لا تهتم كثيرا بالأخبار، بمعنى، هي تسمع أخبارها ولوحدها. تحلل ويعلو صوتها على من حولها. فتواصل:
– أي، الأشجار كانت ترقص إذا هب الهواء. من المحتمل أن يكون الأمريكان وراء جميع الأشجار الواقفة والميتة. كانت تريد أن تقول/ أنها هي التي تلاحقهم، هكذا قالت لي بطريقة ساحرة وبعيدة عن التصديق:
– أسمعي يا أبنة أخي لن أموت مبكرا. أي، هم ماتوا، كثيرون ماتوا في الأيام السابقة، كثيرون فعلوا ذلك وقضوا ولم نسمع لهم صوتا الا أنا، إذا ما مت أبغي الحصول على خبر وفاتي ورفاتي وشاهدة قبري. أجل، قالت ذلك بصوت تحول فجأة من الضعف إلى القوة المستترة. هم ماتوا، أي جيراني وأصدقاء جيراني لكن أنا لحياتي معنى مختلفا، لماذا لا تثقان بذلك؟ أنت وشقيقك، ولا مرة عملتما ما كنت أتوقعه منكما، حتى اليوم لم يجىء دور عمتي. كل مرة تغلق الأبواب بوجهه، ذلك الزائر البشع وتردد: لن أفتح له الباب الا عنوة وحين يصل تكون الأبواب أما موصدة أو غير موجودة أصلا.
– 2 –
سعدت وما زلت كوني بباريس فالعداء لأمريكا كان ولا يزال يناسبني. باريس لم تكن ضدي وهذا الأمر كان لطيفا عليّ. جيراني صاروا أكثر رهافة وعذوبة، يقفون أمامي، يأخذونني بين أذرعهم، يدمدمون بصمت وتلتمع عيونهم كالخرز. هم ليسوا مثلي مجبرين على ذرف الدموع لجميع ما يحصل في تلك البلاد، أنا اعتقدت ومازلت أنهم كانوا يخافون من الولايات المتحدة، ترى من لا يخاف منها اليوم؟ ارتحت قليلا، كانت أميركا تعيش بيننا مثل الضرة أنا والجيران، أنا والفرنسيون. الفرنسيون والعالم، أنا وعمتي، في الأصل، العمات والخالات وفي أوقات الحروب والمجاعات والأوبئة والكوارث فوق العادة يتركون الأمور تستوي وتطبخ على مهل. يسخرون من لجاجتنا في كل شيء. حين حادثتها اليوم هزئت مني ومن أخي علي قائلة: ألم تشاهدوني في التلفزيون، ها، كأنكم لم تفعلوا ذلك. نحن فعلا لم نفعل، فجميع العمات العراقيات كن عمتي لذلك لم أفرق طويلا أو كثيرا بينها وبينهن، لكنها أضافت: حين سمعت شيئا في نبرة صوتي به طيف ابتسامة ما فردت: لا أحد منكما، أنت واخوك كان صاحب نكتة، أصلا أنتما سيدا التعاسة واليأس تبحثان عن كل ذلك في القيظ وتحت المطر ودائما تعثران على شيء ما يوافق مزاجكما السوداوي. ها، اسمعا أنا أحسن وأفضل منكما، أنا خيبت أمل الأمريكان والمتعصبين ولم أمت مبكرا. بقيت هكذا، ليس من أجل أمريكا ولا من أجلكما، أنتما أبناء أخي، وإنما من أجلي أنا وحدي لكي أتبختر بمنامتي المنزلية أدور من حي إلى حي وأفضح الأمريكان وأشعل النار ضدهم. كنت أحبهم من قبل: تقول، حين كان أخوك يدرس هناك نتراسل ويرسل إلينا صوره وهو أمام مبنى الجامعة. كنت أحب الأمريكان وهم أبعد من المريخ، لكنهم اليوم يغوصون في لحومنا ويكسرون عظامنا، أراهم وأنا تحت الأرض وهم فوقنا يدوسون كل شيء حتى الرضع.
وصورنا ياعمتي أنا وباقي الأخوة أين هي اليوم؟ هل مازالت أم…؟ كانت تتباهى بنا لكنها تعنفنا وتزجرنا وتحرد علينا وتقول: أي، أبقي على صوركم تزين جدران صالون حوشنا القديم في شارع عمر بن عبد العزيز في الصليخ. لكن، حين تزعل منا، وهي كثيرة الزعل ترفع الصور وتضع صورا أخرى لأخي حين حصل على شهادة الدكتوراة وأنا حين تخرجت من الجامعة. تباركنا ونحن في سن الرشد وحين تغضب تعود بنا إلى سنين الطفولة الأولى. كانت تتأرجح ما بين الماضي والماضي التام أما الحاضر فهو ينجز نفسه بنفسه بواسطة الأمريكان والقتلة معهم. تزجرنا وتعنفنا كثيرا وهي تردد: أسمعوا هذه آخر مرة أنظر فيها إلى صوركم. من المحتمل أصلا إلغاء الصور كلها وإبقاء الجدران خالية ونظيفة من صور أبناء عاقين وجاحدين، لكنها لا تفعل، تقول: لا أقدر، كلا، لا أريد. لا أريد أن أحبكما أكثر مما في مقدوري، لا أستطيع. صوت الانفجارات يصم الآذان فلا أحد يسمع صوت نشيجها فغيرت عاداتها ولم تعد مضطرة للتحدث عنا للجيران وأبناء السبيل وبنات آوى والخالات المتذمرات وباقي العانسات والأرامل السئمات ولبائع الغاز الذي يبيع نصف قنينة ويأخذ سعر واحدة كاملة، لكن حين وصل الأمريكان إلى شارعنا قالت عمتي: علّي أن أتعلم، والله لا أدري ماذا علي تعلمه وأنا في هذه السن، وقصارى الجهد أن تظل سليمة ومعافاة وأن لا تقتل، أما الموت فهو حق على الجميع. قالت لي:
– شاهدتهم، أنهم من الجنس الأسمر الغامق جدا لو كلش بيض. كأن لونهم مصبوغ وليس حقيقيا. ليس هناك لون أبيض مثل لونهم. والسمر والصفر ياعمتي؟:كل الالوان حضرت عندنا لكي تقتلنا بس.
٭٭
عمتي تقول: أي، هي الحرب، لكن عليّ البقاء على قيد الحياة، هكذا تشفيا بهم وشماتة بضجرهم منا وتعثر خطاهم بجثثنا. قالت أشياء كثيرة عن أمهات وزوجات أولئك الجنود قبل إغلاق الهاتف. ثم أضافت: أسمعي، لست مهمومة ولا دامعة العينين ولن ابكي لا أمامك ولا أمامهم، بس هذا الموت الكثير وين نطمره، صار أكثر مما نحتمل وما بقي مكان ولا صوت للانتحاب ولا دموع نكش بها رموش العيون الكالحة واليابسة. وبدأ صوتها يختض فقلت لها قبل أن نبدأ سويا: ترى كم من الشهور والسنين مرت ونحن لم نتلاق؟ أجابت:
– أوه، لم أحسبها، منو يحسب اليوم تلك السنين التي راحت. الويل على حساب السنين الجايات.
الخميس 14 شعبان 1427هـ – 7 سبتمبر 2006م – العدد 13954
http://www.alriyadh.com/184620