لندن.. فْليكُن.. – عالية ممدوح

1
للقطارات رائحة تختمر دون علمك بين الخياشم والضلوع، ما بين الوداعات القصيرة، والمصافحة العجولة والتلويحة التي تزداد اتساعاً. التلويحة لا تكف عن الازدحام، تلوح بها لنفسك، لتلك السيدة التي كانت تعيش ما بين برايتون ولندن وكاردف في عهد مضى، ويجدر بها أن تنظر في اكتراث للسنين الطويلة، الطويلة التي استدارت وهي لم تطأ قدماها تراب بلاد الأنكليز. كأمهر ما تكون تلك السيدة في التلويحات والوداعات، كأنها تنجز أعمالاً للساعة أو لليوم. خادمة نفسها وهي تنظف البلاعيم لكي تستنشق هواء المحطات، وأريج الشبابيك المشرعة على هناك. للدرج الضيق والساعة التي ترقبها وهي تفغر فمها على كلام لا يسترسل، ولا ينطق لكنه ينفث بخاراً حاراً كما هي فوهات القطارات التي تقل البشر إلى حيث لا يعلمون. امرأة هادئة، تحاول ذلك، تنظر من النافذة، لا تقرأ، جلبت كتاباً لكنها، قررت ألا تفتحه. أغلقت الجوال وال.. تريد أن تسمع جلبة القطار فقط.. القطار له أسارير سخية وهو يبتسم لها. القطار يتنهد على إيقاع جميع صخب المغرمين المفتونين بكل هذه الدروس التي تبعث على الانفعال. حسناً، فليأخذك القطار إلى حيث يشاء الله، إلى حيث لا تكوني أنتِ، وليس مهما أن تبقي أنتِ كما أنتِ، وأصلاَ من أنت ِ؟
2
الفيلسوف الفرنسي جان بودريار يقترح ما يلي: “فأنا أكثر ميلا لراديكالية الفراغ ” هو يشير بشكل أقل على طرز العمارة، وأنا أشير بشكل أكثر حرفية على طرز الكلام. حضّرت كلاماً فرنسياً لا بأس به وأنا أتقدم قدماً بجوازي الفرنسي وهويتي المدنية وبطاقة السفر، ووقفت في الطابور حين جاء دوري، رفعت نظارتي الشمسية والطبية المعتمة عن وجهي فتبادلنا النظرات أنا والسيدة المسؤولة ومن وراء الزجاج. لم تنبس بكلمة “يقولون كلاما أدق من هذا في هذه الحالة لكني لا أتذكره”. كان الكلام تحت لساني يتمايل ويأكل لهاتي. كلام بسيط أريده أن يبرح حنجرتي. لا أحب الكلمات الرنانة الجهيرة. كنت أنتظر أن أقول أو أدل على دعابة ما، لم لا؟ الفراغ، أعقد وأبسط الأسئلة. كيف تضغط بإصبعك على رأسك وتمحو وتمسح وتدفع وتزيح ولا تتوقف الهمهمة. تريد الوصول إلى لندن لكي تضع المخزونات الجديدة والشحنات القوية بدلا عن تلك وتلك الخ. مفكرتك مسطرة بسطور مستقيمة، مفكرة هذا العام، وهذا الشهر آذار. لا عليك أن تكون في المقدمة، مقدمة اللاعبين والمتحدثين والمشاهدين والناظرين. مخيفة المقدمة، تدعك تتلقى النيران أولاً، أحسب حساب المقاعد الخلفية دائماً فجاء مقعدي بالكاد بين رجلين ونحن في صالة الانتظار. أحدهما بدا لي أنه شرقي. كان منهمكاً بجواله كالألوف من حولي. تنحنحتٌ قليلاً وخاطبته بالفرنسية، امتداداً لكلامي الذي لم يستنفد نفسه ومصدره وغايته. تلعثم وأجابني بأنكليزية. عال، الرجل من تركيا والمرأة، بالتأكيد تستنسخ العراق وتقوم برجمه. تصافحنا وضحكنا.
3
أعياد الفصح المجيد والتاريخ الطبيعي للجماعات البشرية. ما أجمل هذه الصفوف المتساوية العدد، مختلفة اللون والعرق والدين والجنس واللغة. ما أدق النظام، ما أجمل هذه القبلْ بعد متر واحد في دائرة كبيرة يصطف فيها الشاب بجوار المسن. في المحطات والمطارات تتأرجح الأجساد بالاهتزاز، وترمش الأهداب بدمع نقول عنه بالعراقي الراقي: يبقى -حدر الجفن- والعناقات لا تنتهي. شيء يدعو للسعد أن نتعلم على كل هذا الحنان والتوثب وقوة الحب، وأنت مبلل بعرق هذا النشيد الذي تنشده وحدك. هؤلاء أمثولة وهم يقتربون من عبق أرواحهم، لهم الحق في الاقتراب من السر الصريح الذي لا يقدر على حجبه أي شيء؛ الحرية. كان مقعدي بجوار الشباك، والياباني الشاب بجواري كان يسيل على ذقنه جميع ما أنجزه العقل البشري من معجزات النت، فتح جواله والحاسوب والمفكرة الإلكترونية يكتب ويقرأ وكأنه يتنزه داخل حديقة يابانية مذهلة. أخرجت دفتري الذي أحمله دوما. بيدي القلم. ما زالت استعارات القلم والورق موجودتين في الأصل، لم يدركهما الفراغ، ولن، على الأقل بالنسبة لي. الورق أفق مذهل، النت مفهوم أو عمارات من الوهم لا نهاية له. يستفز الورق الفراغ الذي قررت أن أصل لندن وهو موجود لكي يخرجني عن الحدود.
4
في نصف دورة على حالي كنت أراقب في مدرّج حياتي حشدا نادرا وقليلا ومبهجا من الصديقات والأصدقاء الذين سنحدد عدد الشفرات التي كنا ننتظر تفكيكها، أو تلك التي نعود ونخلقها مجدداً. أو تلك التي تسبب الدوار أو البهجة والإشراقة. وجوه لم ألتق بها منذ عقدين تقريبا. وأقارب لم أرهم منذ أربعة عقود. وحين بدأت بتدوين الأسماء في دفتري وضعت بجوار كل اسم نظام الجوع ونوع الغذاء، موقد الدفء، أو أوجاع الكلام. حضرت وجوه المسرات المباغتة والعزيمة الذكية والبسالة في المواقف والحشمة في مفهوم الصداقة الإنسانية. كنت مسرورة بطريقة غريزية ودفعة واحدة. سرور الجندي الذي نال إجازته تعويضاً عن حمية إجبارية. تحدث للبني آدم عادة هذه المشاعر، حتى لو كان يعيش في إحدى أجمل مدن العالم، وتدعى باريس.
+++
عندما وطئت قدمي الأرض، كانت هناك امرأة من البوليس تدل على أصحاب الحقائب الكبيرة والمتوسطة إلى جهة ما، وأصحاب الحقائب الصغيرة إلى الجهة الثانية التي تؤدي للخارج حالا. المرأة الشابة كانت تدور علينا واحداً بعد الآخر وهي تسحب كلبا متوسط الحجم، جميلا ومدربا بصورة منضبطة. هو لم تساوره الظنون أن واحداً ما وكيفما اتفق قد يكون ديكا هراتياً أو قرداً نشواناً أو ذئباً عتيقاً. شمشم حسب الأصول بكل حقيبة والسيدة تكرر كلمات الامتنان ولمرات عدة؟ كانت رحلة صيدي الأولى والباب يفتح أمامي وأنا أجتاز بها حاجز كلب إنكليزي أصيل. قلت، فْليكن. فصيلة البهائم لها امتيازات لا نظير لها.
السبت 2 رجب 1437 هـ – 9 ابريل 2016م – العدد 17456

http://www.alriyadh.com/1145066