للماء أكثر من لون

عالية ممدوح

1-
عن سلسلة إبداعات عالمية للعدد 325الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، صدرت الطبعة الأولى عام 2000رواية “لون الماء” للأمريكي الأسود – جيمز ماكبرايد بترجمة فارس غلوب. أرسلتها إلي مع مجموعة مختارة من الكتب الصديقة الكاتبة الكويتية فوزية الشويش. هذه رواية مختارة بعناية فائقة من قبل اللجنة فهي تتحدث عن العلاقات الأليمة التي كانت وما زالت سائدة بين السود والبيض في المجتمع الأمريكي. هي رواية التفاصيل المؤثرة لشاب أسود ولد من والدة بيضاء ويهودية لكنها تحولت إلى المسيحية بعدما مرت بعواصف عائلية من وضع اليهود، وعلى الخصوص والدها الذي كان: “واعظا متجولا، إلا أنه كان حاخاما لم يختلف عن بقية النصابين الذين تشاهدونهم على شاشة التلفزيون في أيامنا هذه”. امتلأ رأسي بالعاطفة الحميمية ما بين أفراد هذه الأسرة شبه الخلاسية اللون والمتكونة من أثني عشرا ولدا وفتاة جميعهم حصلوا على الدرجات النهائية في التعليم الأكاديمي ما بين الطب وعلوم الالكترونيات والتاريخ والحقوق والتمريض والعمل الاجتماعي والتربية والتعليم والجيش الخ. لون الماء رواية تتحدث عن الكائنات الإنسانية التي كانت حيواتها قاسية كالفولاذ لكنها رقيقة كالحرير. كم تّعلم روايات كهذه. كم علينا الوثوق بهؤلاء البشر، بالوقائع والأنفاس الساخنة. لتلك الأم التي اتخذت قراراتها وعلى مسؤوليتها الخاصة فقررت مصائرهم جميعا ومصيرها أيضا فبقيت وفية لأحلامها بالتعليم وإلى آخر الشوط: “كان الجميع يستخدمون خرقة حمام واحدة كما كانت فرشاة أسنان واحدة تستخدم لخمس مجموعات من الأسنان واللثة”

2-
هذه الأم لها أكثر من اسم وعندها أكثر من ماضٍ وهي قدمت من بولندا في الهجرة التاريخية ليهود أوروبا الشرقية. اسمها في البداية كان – روت شلسكي – وكانت تلقب براحيل أو رتشيل. كما لقبت باسم زوجها الأسود الأول بعدما قررت واختارت رغم الاحتجاجات الشديدة عليها حين تم الانتقال من دين لآخر. والدها شديد العنصرية بخيل في كل شيء ووالدتها معاقة تقريبا وهي تحاول أن تقرر حياتها والابن جيمز – الراوي – ابن الزوج الأسود الأول الذي ولد بعدما توفي الوالد فرباه الزوج الثاني الأسود أيضا. حكاية شديدة الإثارة. سيدة بيضاء تخترق شوارع السود وتتزوج رجلين من لون مغاير وتنجب أثني عشرا ولدا وبنتا تتراوح ألوانهم ما بين الأسمر والخلاسي والأصفر وبعيون سوداء وقهوائية وعسلية وزرقاء. جيمز هذا هو الذي يحاول إعادة كتابة تاريخ أمه وعائلته وكأننا نعيد قراءة تاريخ تلك الأمة الأمريكية/ الأفريقية بجميع مكابداتها واذلالها وبسالتها فجاءت تقنية الرواية ساحرة. فصل بخط أسود غامق لصوت الأم وهي ذاهبة إلى الماضي منذ وصولها إلى الولايات المتحدة وهي تسرد أحوالها وسط أسرتها: “هناك الكثير من المحرمات، لا يمكنك ان تفعل كذا. هل يقول أحد إنه يحبك لا”.. وفصل يدونه الراوي الابن بخط كما كنا نقول عليه بلغة الصحافة أبيض على أسود واصفا أمه على هذه الصورة: “تركب دراجتها القديمة. كانت تلك هي طريقتها في إظهار حزنها”

3-
تنتقل هذه العائلة ما بين كارولينا وفرجينيا ونيويورك وجميع أفراد العائلة يفضلون العيش في المدينة الأخيرة. ومنذ الستينات بزغ للسود حلم بشخص مارتن لوثر كنغ ثم أغتيل الشخص وبقي الحلم ناقصا. ففي الولايات المتحدة أكثر من ثلاثين مليون فقير يعيشون في مستوى متدنٍ لدرجة يطلق على سكان نيويورك بانهم “كلكتا الهدسون” وهو اسم له دلالته، فكلكتا من أفقر مدن العالم ولكن الهدسون هنا هو اسم المنطقة التي تحيط بنيويورك. وهذا ما تسجله الوالدة والولد في رواية لون الماء. لكن هذه العائلة والسود عموما يعرفون ما هي القوة السوداء. كان جيمز يحب لونه لكنه يخاف على لون أمه الأبيض فيتصور إذا ما ازداد نفوذ السود فسوف يؤثر على مكانة والدته بينهم. فقد ظل لون جلد الأم يسبب تأويلات وإشكالات في فترة حمى التمييز العنصري لكن الابن وهو يكتب روايته عن أمتين، أمته داخل البيت المسكون بترتيبات أخلاقية ودينية وإنسانية. فالأم نقدر أن نقول إنها كانت اشتراكية مثالية، تكره أصحاب رؤوس الأموال كوالدها والبرجوازية النتنة كبعض البيض العنصرين: “كانت أمي تعتقد بأن البيض أشرار ضمنيا تجاه السود، غير أنها أجبرتنا أكثر على حضور مدارس البيض لتأمين أفضل تعليم لنا. والسود يمكن الوثوق بهم أكثر، وأي شيء متعلق بالسود فيحتمل أن يكون دون المستوى المطلوب”.

4-
الدة قوية بتلقائية، حنونة بحزم، عقلانية ببعد نظرها حين بقيت تردد أمام ابنائها وبهذه الصورة الحاشدة بالوعي: “لا تحتاجون إلى الأموال. ما هي قيمة الأموال إذا كانت عقولكم فارغة ؟ علّموا عقولكم، هل العالم مجنون. أم أنا المجنونة ؟” لم تورث لأي واحد من الأبناء إلا تلك الشحنة الجبارة من شجاعة قل نظيرها. أظن أن هذا خير ميراث لأي جيل يريد أن تكون ملكيته مشروع صناعة البشر بروابط كانت تنبجس أمامي فأشعر أنني أتوق لو لمست يد تلك الوالدة. أشعر أنني التقيت بها في أحدى السنين، بها قدر من جدتي ولدي بعض فقرات في ظهري تشبه فقراتها. وحين توفي زوجها الأول تفوهت بكلمات كما تفوهت أنا. جميع الأمهات، هكذا أظن وفي جميع أنحاء العالم وعلى مر الحضارات وأفولها يتشابهن. فحين سألها جيمز، راوي الرواية: “هل أنا أسود أم أبيض ؟” أجابت بغضب: “أنت إنسان. ثقف نفسك وإلا ستكون شخصا بلا قيمة. إنني أنتمي إلى عالم الله الواحد والجنس البشري الواحد” أعتبرت ميتة من قبل عائلتها طالما عملت جميع القبائح كالإيمان بالمسيح والزواج بأسود وابنها جيمز يقول بشيء من مرارة: “فكرت أنه سيكون أسهل لو كنا من لون واحد. إما أسود أو أبيض. لم أرغب أن أكون أبيض لأن إخوتي كانوا قد لقنونني مفهوم الأعتزاز الأسود، وكنت أفضل لو كانت أمي سوداء”.

5-
في كتابها المهم – اللعب في الظلام – لتوني موريسون وبعنوان جانبي صغير: “البياض والخيال الأدبي” ترجمة أسامة أسبر تكتب وتحلل قائلة: ليس هناك مهرب لكل من الكتاب الأمريكيين البيض والسود من لغة مصابة بالعنصرية في مجتمع قائم على العنصرية بشكل كامل. ولأنني أعيش في عالم عنصري واضح ومؤكد لم يكن بوسعي أن أكون وحيدة في ردة الفعل على هذا المظهر من الوضع التاريخي والثقافي الأمريكي” الراوي جيمز يعرف هو أيضا فقد أشتغل في الصحافة وتدرب في العزف على آلات موسيقية وكان بعض البيض يساعدونه في مجال عمله، : “أن يكون الإنسان خليطا فإن ذلك يشبه الإحساس بالوخز في الأنف والذي سبق العطس عندما تنتظر حدوثه ولكنه لا يحدث. فأنا اشعر بإحباط لأني أعيش في عالم يعتبر لون الوجه بمثابة موقف سياسي فوري شئت أم أبيت” في الرواية مقاطع تسبب الضنى وتدعني على وشك الانتحاب ثم تأخذني حالا إلى الضحك وبصوت عال. كنت أتوق نقل صفحات كاملة من هذا العمل المبهر الآسر فتشعر أنك على استعداد أن تغّير الكثير من عاداتك وتفاصيلك وتريد نشر العبق مما أصابك منها للغير. رواية تدربك أكثر مما تدربت عليه وطوال حياتك على الجلد والإصرار لتحقيق الذات الذي لا يعرف اللون والجنس واللغة والدين الخ. أظن هذه ثيمة الرواية، الطموح في تجاوز الألم والأذية بالمرح والفكاهة، بالصمت والحماس الذي لا يرى بالعين المجردة. كنت، كلما أودع ولدي عبداللطيف، اقول له: هيا غادر المطار بسرعة ولا تلتفت إلى وراء لا بغضب ولا بحنان فأنا لا أحب الوداعات بكل ألوانها لكنه لا يفعل. ظل يردد بصوت حزين: لن اغفر لكما، أنت ووالدي وضعي بالمدرسة الداخلية بسبب مزاجكما فدفعت أنا الثمن. لكنه يعاود متراجعا وبعد سنين قائلا:، شكرا لكما لذاك الأمر فقد صنع مني رجلا لا بأس بشجاعته، أليس كذلك يا أمي ؟ أول ما أجلس في الطائرة انتحب على هواي، كنت أتوق أن يتم الأمر بعيدا عن أنظارهم، أولئك الأبناء، القساة، ربما، لكن، الدموع تجعلني مسرورة أيضا كما هي والدة جيمز وهي ترد على ولدها: “إذن لماذا تبكين ؟ إنني أبكي لأنني سعيدة. هل من خطأ في ذلك”.

الخميس 4صَفر 1428هـ – 22فبراير 2007م – العدد 14122
https://www.alriyadh.com/226745