كتاب الرغبة (14): العجز – الدكتور ياسر ثابت


هذه رحلةٌ إلى أعماق الأرواح المطلية بالذل
كابوسٌ موغلٌ في المنافي، حيث تنمو إحباطاتٌ مثل الطحالب فوق سطح حياة بطل رواية “التشهي”، لتطغى على تجاربه وذكرياته مع أسرته وإخوته وبلده ويساره ونسائه وشبقه وترجماته وحين يفتح البطلُ صندوقَ التذكر، يلتهمه الأسى الدائم الذي لا شفاء له منه تبدأ رواية العراقية عالية ممدوح حين يفقد بطلها قدرته الجنسية. يذهب العراقي سرمد برهان الدين إلى طبيبه الباكستاني حكيم الصديقي، فيؤكد له، ساخراً، أنّ “صاحبه” (كناية عن العضو الذكري) أصيب بنوع من السكتة، مثل السكتة القلبية والدماغية. أما يوسف، صديق سرمد، وهو طبيب نفسي عراقي يعيش في باريس، فيصف الأمر بطريقةٍ أخرى، قائلاً له إن “صاحبه” اعتزل “أخيراً هزمه جسده بعد تأريخ حافل بالهزائم” إنه تهشيمٌ كاريكاتيري للصورة الذكورية، يتكشف لاحقاً عن أبعادٍ تراجيدية ذات إحالاتٍ سياسية وأيديولوجية واجتماعية أكثر تعقيداً. وبعد هذا الاستهلال، المثير والمشوّق، يجد القارئ نفسه أمام مجموعة من الخيوط المتشابكة إذ يحاول بطل الرواية أن يدفن خيباته المتتالية والخيانات المتكررة للذات والحب

واللغة والمدن والأوطان، ويتشبّث بجسده كبوصلةٍ أخيرة إلى ذاته وكينونته، قبل أن يخونه الجسد بدوره فيكون الانهيار التام والغياب الأكيد زمن الرواية – التي تقع في 271 صفحة من القطع المتوسط – يبدأ أواخر تسعينيات القرن الماضي، لكن الأحداث التي تتناولها تعود إلى فتراتٍ أقدم، وتدور في بغداد. وما يبدو أنه بدايةُ الرواية، هو، في الحقيقة، نهايتها. فحادثة فقدان سرمد ذكورته، أشبه بمقتل شخصيةٍ ما في رواية بوليسية، يليه سرد القصة بتقنية الـ”فلاش باك” سرعان ما سيجد القارىء أنّ سرمد ليس بطل الرواية الأوحد، وأن مسألة توقف “صاحبه” عن أداء مهامه المعتادة، ما هي إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد، إذ تخفي تحتها قصصاً وشخصيات عدة. كما أنّ الإثارة والتشويق اللذين يعدُ القارئ بهما نفسه، سرعان ما يتكّشفان عن خطة روائية مختلفة ففي رواية “التشهي” يختلط الجنس بالسياسة والأحزاب والمنفى والذاكرة، لتعكس من خلال القصور الجنسي لدى بطل الرواية العجز العراقي اليوم أمام المحتل تماماً كما كان بالأمس أمام الطاغية على الغلاف الخلفي لرواية

“التشهي”، يشير الناشر (دار الآداب) باقتضابٍ دقيق إلى أننا في صدد روايةٍ تسعى إلى “تعميق معنى الجنس من حيث علاقته الأساسية بالسياسة، والذكورة من حيث علاقتها بالسلطة وأزلامها. وتحكي عن الفقدان الأليم للذات وللحبيبة وللوطن” وهذا صحيحٌ إلى حدٍ بعيد. ففي أعقاب أزمة “تقاعد” عضوه الذكري نتيجة السمنة الزائدة التي أصابته ومنعته من الحراك، يحاول سرمد برهان الدين استيعاب ما حدث له، ليجد نفسه غارقاً في استعادة حياته الجنسية الماضية، بدءاً من تجربته الأولى. الأستاذة الاسكتلندية في المعهد البريطاني في بغداد، فيونا لنتون الأربعينية الشبقة التي فقد معها عذريته. لقد التقطَته وهو في بداية الشباب، وعلّمته معنى المضاجعة، وكيف يستنبت الشهوة من مسافةٍ بين الصُّلب والترائب يصف برهان لحظات مضاجعته فيونا البريطانية وهو في بغداد قائلاً: “تحيا فيونا التي كانت تموت وتعود ما بين ساقي ومائي فتبتكر صرخات لم أسمع بها من قبل … إنها تعيش في بقعتي العزيزة وينبغي أن لا نترجم ذلك حتي لا نفسده. ترقص وتلتهمني وأنا مغطى بالمني واللعاب..”، أو “ها أنا أبجل المهبل والبظر واستحضر اسم الفرج باللهجات المحلية والعربية … فاللغة أخطر وسيط في المضاجعة”، أو “كانت تجبرني على النظرِ كأحدِ القواعدِ لخديعة البصر ذاته فأصرخ بصوتٍ كالإعصار ادخليه سالمة ادخليه بأمان باللسان والشفتين والأنفاس والتقبيل والتقتيل بالأصابع والشموع والرطوبة والسعال والأنين والندى

بالطي والمباشرة والعذاب والجماع الناقص …” ثم تأتي كيتا الألمانية التي عانتْ من نزوات المناضلين الشيوعيين في المنفى، لكنها توسّمتْ في سرمد موهبةً في الجماع فلم يخبْ ظنها. وأخيراً المغربية أمينة الملقبة بـ”البيضاوية” التي تعلّقت بسرمد من دون تحفُّظ ولا انتقاد، إضافة إلى نساءٍ عابرات ومجهولات إلى جانب هؤلاء، تطل المرأة الأكثر حضوراً في القلب والذاكرة: “ألف” التي بدأ عشقه لها وهما طالبان في الجامعة وظل حبها مُتغلغلاً في نفسه على رغم أن أخاه مهند “غزاها” ثم تزوجها، وظلت هي الأخرى متعلقة به، تبعث إليه رسائل مسجلة بصوتها: “آه يا سرمد، الجنسُ معك يشبه التحريض ضد كل شيء؛ كلا، ليس هو الثورة أو التمرد كما تقولون في السياسة. الجنسُ معك يتبدل وينقلب من حالٍ إلى حال فيجعل أشيائي الصغيرة في داخلي تنتقلُ من مكانها (…) لا أعرف إذا كان دقيقاً القول، ربما كان الشغف هو الذي يسمح لنا دوْماً برؤية شيء جديد في داخلنا” (ص 220)

وفي حياته السابقة كان سرمد يبدو في علاقته بالجنس وطريقة ممارسته له كمن يقوم بفعلٍ انتقامي أو تعويضي يغرق فيه ويظهر عبره مهارةً فشل عن ابتكارها في العمل السياسي. ذات مرّةٍ يقول يوسف لسرمد: “ولا مرة سألتكَ عن مرجعيّتك”، فيمدّ سرمد يده إلى ذَكَره، ويجيب: “هذا”!
وبالرغم من طوفان الجنس الذي يعوم فوقه سرمد، فإنه شخصٌ مهزوم من الداخل، يتوقَ إلى البكاء: “لكي أشعر بشيء من اللذة والتلذذ. أشتهي إيجاز نفسي وسط الدموع الخفيّة وفوق ذلك ألاّ أقول لأحد؛ صرتُ كريهاً” (ص 167). لذةُ الجنس إذَاً لا تكفي وحدها لأن يكون الواحد كائناً يكتمل، فيتطلع إلى البكاء بدموع حقيقيّة عَلّها توصله إلى حقيقةٍ ما أُخرى. وتلخص له إحدى نسائه، كيتا، ملامح أزمته حين تقول له: “وأظنُ أنَّ ما نقومُ به وطوال وجودنا هو كيف نحاول الاقتراب من بعضنا بعضاً (ص 168)، غير أنَّ الاقترابَ من الآخر يستلزمُ رغبةً تتعدى مشاركته الجسدَ والسرير؛ إذ: “الجنسُ لا يُنقِذُ وهو مجرد فراغ، يدع اليد فارغة والجسد خاوياً” (ص 171)
وربما يفسر هذا معاناة سرمد الذي يقول في واحدةٍ من موجات استطراداته الداخليّة: “هل يعقل أن أقيسَ نفسي وذاتي وجوهري بمقدار وزني ولحومي، هل هذا عدل؟ لماذا لا يتم قياسي بوزن آلامي؟” (ص 176)


غير أننا نتأرجح بين التعاطف مع سرمد وبغض هذا اليساري السابق الذي لم يكمل الخمسين، وغادر مدينة الوزيرية في العراق متجهاً إلى المنفى. إننا نجده شخصاً مرصوداً للغياب، وكل ما فيه ليس إلا إثباتاً لـ”عاديته”، بدءاً من شكله “العدواني”: سمنته الفائضة التي تنعكس ثقلاً في حركاته وكلامه ومشيته، جلده الذي يتقشّر، شاربه الذي توقفت شعيراته عن النمو و”الذي يقع ما بين اللونين الرصاصي والبني من كثرة الصبغات التي لا (يجيد) وضع نِسَبِها كما يجب”. مروراً بموقف الآخرين منه، فكما تقول كيتا عشيقته الألمانية: لا أحد يطيقه، لا الشيوعيون ولا البعثيون ولا الأصوليون ولا المستقلون. وصولاً إلى نظرته إلى الحياة التي لا مكان فيها لأي مرجعياتٍ إيمانية، اجتماعية أكانت أم عاطفية أم فكرية: “إيماني شحيح وكلما أنتقل من رتبة يبدأ الخواء يتضاعف من حولي. أما النساء فكنّ على الضد مني، كان لديهن إيمان بشيء غير مرئي لا أعرف ما هو”


الجغرافيا القلقة التي تحركت فيها الرواية، تقودك من الحاضر في باريس إلى الذكريات في العراق ولندن وأماكن التشتت العراقي؛ لترسم لوحة لما أحاط بسيرة هذا الرجل ويمثل العراق في الرواية مكاناً للحدث الأصلي الذي تتوالد منه بقية الأحداث وتتعاقب وتقوم الرواية في كل فصولها على زمن استعادي للعراق وأمكنته وأوقاته وخباياه وحياته وعلاقاته. وتلملم الكاتبة صورة هذا الوطن المستحضر، تماماً كما سعى سرمد المريض العراقي إلى استعادة عضوه، الذي بدا أن الأمل في استعادته ضئيلٌ للغاية


الجنس، الجنس، الجنس، هو البطل في هذه الرواية، وعالية هي من أولى الروائيات العربيات اللاتي كتبن في هذا المنحى، إذ نشرت الطبعة الأولى من روايتها “حبّات النفتالين” في ستينيات القرن الماضي. إذاً الجنس هو البطل، أي الشخصية الرئيسية في القصة، وهو وبامتياز، البطل المهزوم، الضعيف، العاجز سياسياً واجتماعياً
وفي ظل التحولاتِ الجسدية والسياسية، يغيب الفخر، وتتقلص عزّة النفس، بعد أن أصبح الجلاد السابق هو اليوم الضحية، ضحية من كان يُعتبر ضعيفاً في الماضي، أي المرأة: “اللعنة على البرودة الجنسية والصعوبة الجنسية والمبادرة الجنسية. آه، كم استخدمتني كيتا والبيضاوية، كم تعرّيتُ أمامهنّ وأمام شاندي، هي الأخرى تستخدمني من أجل أبحاثها وتعاليمها فلم أعد قادراً على لعب دوري ولا العودة من حيث بدأت”


أما عن محركها الأساسي لهذا العمل فتقول عالية ممدوح لوكالة الأنباء الفرنسية إن “موضوع الجنس كجبروت سلطوي قد يؤسس للقتل بمعانيه المجازية والإجرائية والفعلية أثارني وما زال”. وتضيف عالية قائلة: “حاولت الاشتغال على شخصيات خربها الفساد والتدليس ما بين قوتين مهلكتين الجنس والسياسة من خلال رجل شيوعي ورجل مخابرات عراقي” بدأ سرمد رجلاً ذكراً بكل معنى الكلمة، وبدأ مناضلاً يسارياً شيوعياً، لكنه يصطدم بتحولاتٍ مفادها أن تلك النضالات السياسية انهارت وأن تلك البطولات الجنسية أخفقت مع الوقت والروائية تتحدث بسخريةٍ لاذعة عن الشيوعيين العراقيين وعدائهم للآخرين، كما تتناول فشلهم الجنسي: “عشيقاتهم يقصصن عليَ تفاصيل مضحكة منذ لحظةِ الاهتياج التي تطول أحياناً إلى نهاية الليل بدون فائدةٍ تذكر” ولعل أحد الموضوعات المهمة التي اهتمت بها أيضاً الكاتبة، هو الترجمة. فهذا البطل المنهزم، كان إضافةً إلى انتمائه اليساري سياسياً، مترجماً وباحثاً. ويأتي عمله في الترجمة ليشكلَ ذروةَ الغياب، فالمترجم “هو بقايا من ثمار الآخرين وخوفهم”. ومع ذلك فهو يصرُ على أن الخطأ الذي شهده هو وعالمه لم يكن سببه سوى سوء الترجمة: “هيه، اسمع يوسف، لو تُرجم البيان الشيوعي ترجمة سليمة وأمينة وجميلة لتحوّلت شعوب هذه المنطقة إلى الشيوعية”! والذكورة بالنسبة لسرمد تعني المغامرة والاكتشاف، وفي غيابها غاب الإنسان السابق الذي كان يناضل من أجل التغيير أو التجديد: “ربما كان الشغف بالجنس هو الذي يسمح لنا دوماً برؤية شيء جديد في داخلنا”. و”اختفاء” عضوه لم يكن سوى جزءٍ من سلسلة “الأشياء والموجودات والمدن والأماكن” التي تختفي على التوالي من حياته. ولذا يتحول سرمد إلى رجلٍ مُدَمر: “يوسف نحن أنقاضٌ يا عزيزي” تربط عالية ممدوح على مدى صفحات الرواية بين الضعف الجنسي والوهن السياسي، وتضع على لسان شخوصها مرارةً ما، حنيناً ما لِما ضاع وفات وتوارى من الشغف في المغامرة السياسية، مثلما توارى فجأة ذكَر سرمد الذي أخذ القلق يتآكله، ويراجع الأطباء ويتساءل أمام المرآة ولا يجد حلاً. بل إنه لا يجد أمامه سوى الإحباط بسبب هذا كله، بسبب الهزائم المتراكمة وخصوصاً بسبب الضياع الذي وجد نفسه فيه بعد تركه وطنه الأم، العراق، وتشرذمه في مدن العالم، وكأن في هذا السياق تساوت المدن والنساء في التسلّط على الرجل المستضعف: “آه منهن، كنّ يتناوبن عليّ ما بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأقصى، يشبهن الأمواج المتلاطمة يصعدن فوقي وأزيحهن من تحتي فلا أشاهد إلا عزلتي (…)”
هذه العزلة تناولتها الروائية عالية ممدوح عميقاً وبشكلٍ واسع لتخبرنا أيضاً أنها تطال ليس فقط العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة، وليس فقط العيش اليائس وغير المستقر في شتى مدن العالم، إنما تطال أيضاً الهوية والاسم وما شابه: “(…) وأنا أستعمل أحد أسماء أخي الحركية ـ هلال العراقي ـ وهذه هي المرّة الأولى التي أفصح فيها عن اسمي الذي اختبأتُ وراءه كل تلك السنين. (…) سرمد أنت دائماً تعيش في مكانٍ آخر وهو الهناك. أنت يا سرمد لا هذا ولا ذاك. أنت هش ومكسور ومجروح”
إلا أن الجرح الذي تناولته الكاتبة بحنكة وبعمقٍ كبيرين، أوصل سرمد إلى أماكن أبعد وأكثر تعقيداً، أوصله إلى التساؤل حول معنى عجز اللغة أو خيانة اللغة أو اغتصاب اللغة، ولكل هذه المعاني علاقة وثيقة بالحياة الجنسية، خصوصاً الذكرية منها: “إن ما يعوزني حقاً، هو العثور على سرّ العجز الحاصل في اللغة، اللغات، في إيراد النعوت والصفات مما لا نقدر على التعبير عنه (…) كلّما أخرج من المركز في طريقي إلى الفندق، أشعر أنني أنشطر إلى أجزاء وشظايا فأبحث عن كلمات، عن نوع كلمات لا أتخذ معها أية حيطة (…) كيف تهجر مدينتك طوال كل تلك السنين ولا تعود تبالي في أي مدينةٍ مررت أو سكنت أو ستموت”
تتشرذم الروح من خلال الإقامة المشرذمة، وكأن هذا التفتت وهذه الخسارة الجنسية والنفسية جعلا سرمد ينتبه إلى عنصر اللغة، هذا الكائن الحي ولكن الخفي، أو الخفي ومع ذلك الموجود في الذهن وفي الأذن وفي الأمكنة بقوّة. فمن جهة تكون اللغة أقوى من أن يعثر سرمد على أسرارها، ومن جهةٍ أخرى تصبح في رأس سرمد أو في قلبه وأذنه ولسانه بقايا لغة وشظايا لتكون شبيهة بحاله هو ثمة أيضاً لغة أخرى غير هذه التي تكمن فيها قوة الأسرار أو ضعف الانشطار، وهي الإنجليزية. تلك اللغة التي رافقت سرمد منذ طفولته في العراق وظلت هاجساً في حياته لأنها ربما لعبت دوراً مزدوجاً في تكوينه الجنسي – النفسي- الثقافي. فقد تكون أرادت الكاتبة من خلال مطاردتها هذه اللغة على مدى صفحات الكتاب، الإشارة إلى المنحى السياسي لها (أي للغة الإنكليزية)، وإلى المنحى الثقافي إذ كان العراقيون يرتادون المركز الثقافي البريطاني لتعلّم الإنجليزية، وإلى المنحى الجنسي إذا تذكّرنا علاقة سرمد الجنسية الأولى في مراهقته مع فيونا البريطانية التي كانت في عمر والدته. هنا أيضاً تعيدنا الكاتبة إلى موضوع اللا بطل، إلى الذكر الفاشل أو الذي تسيطر عليه لغة المحتل وامرأة الاحتلال وفي سياق الرواية نكتشف أن ثمة أخاً أكبر لسرمد هو مهند الذي كان – ولا يزال- عضواً في جهاز المخابرات العراقي. إنها وظيفة كفيلة – سردياً على الأقل- بكشف واقع عراقي محكوم بممارسات مروعة ومفرطة في وحشيتها. مهند الذي نكّل بالشيوعيين العراقيين، ونال ترقيات وجاب العالم بوظيفته، يصل به الأمر إلى حد مراقبة شقيقه سرمد حتى وهو في الخارج. وسنعرف أنه تزوج ألف عنوة، بعد اعتقال والدها وموته تحت التعذيب، ثم اختفاء شقيقها الذي لم يُعثر على جثته، وإصابة والدتها بالشلل. بل إنه يحتفظ بتسجيلاتٍ مصورة لسرمد وهو يمارس الجنس مع كيتا ومع البيضاوية، وحتى مع ألف حين زارته ذات يوم في لندن. وعلى الهاتف يقول له بفظاظته الاستخبارية: “خراء عليك وعلى ألف التي كانت تضاجعني، وهي تحلم بك فوقها وأنا أعرف ذلك..أبول عليك وعلى رائحتك الخاصة التي كنت أشمها في عرق وإبط ألف” ستواظب ألف على البقاء في ذاكرة سرمد، وسترافقه حتى وهو يضاجع كيتا والبيضاوية. إنها حبّه الأول. أما دائرة ضحايا مهند، فتتجاوز سرمد وألف. سنعرف أن مهند اغتصب يوسف في الماضي. يوسف الذي ينصح صديقه سرمد بالقدوم إلى باريس للعلاج، سيتولى، بنفسه، سرد حكايته: “لستُ وحدي الذي كان يفعل به كذا وكذا. كان يتركني أنزف كما المرة الأولى، حتى يمتلئ لباسي الخام بالدم الذي ظلت صورته تطاردني حتى هذه اللحظة”. ثم يضيف بهذيان كابوسي: “أول ما قرأت “المركب النشوان” أصابتني قشعريرة، فتصورت رامبو تحت مهند، وهو يعتصره فيكتب مقطعاً بعد آخر والدم ينزف مني ومنه” وفي موضعٍ ما من الرواية نجد تبريراً للمثلية، حين يقول أحد أبطال “التشهي” إن في كل إنسانٍ شيئاً من الشذوذ الجنسي تفسح عالية ممدوح لأبطالها – وربما ضحاياها- بأن يلعب كل واحد منهم دور راوٍ صغير داخل نبرتها الشاملة هي كمؤلفة. كيتا، خريجة الأدب في جامعة كارل ماركس في لايبزغ، وعاشقة بوريس باسترناك في الخفاء، ستروي قصتها. وكذلك البيضاوية، ويوسف وأبو العز وأبو مكسيم أما ألف فقصتها حاضرة في حكايات الآخرين، قبل أن تتولى مهمة اختتام الرواية على مشهد بغداد سنة 2003، وهي تسقط تحت الاحتلال الأميركي: “سرمد، تُرى أيهما صحيح، روتين الحرب أم الحرب الروتينية؟… لا شيء يحدث أكثر من الحرب، هي التي تحصل دائماً… كل يوم… وسوف تدوم طويلاً كجميع الحروب” الحكاية إذاً تتخطى معضلة سرمد الجنسية لتُعانق مأساة الوطن المصادر الذي احتله “الشُّقـْر” بعدما عانى من استبداد الحاكمين: “الشّقر دخلوا مدينتنا. أضافت: حتى السود والصّفر والسّمر شُقر أيضاً…” (ص 218)
وفي حين تناجي ألف حبيبها الغائب سرمد، وتشُكُّ جِلْده بوخزات الرغبة في استئناف الحياة والمقاومة والحب، فإنه يعاني مأساته الشخصية المتمثلة في عجزه الجنسي، حتى تصرخ به البيضاوية:”مدينتكَ تُدكّ دكاً وأنت غير قادر أن تدكّني بوردة” تختم عالية ممدوح الرواية بنوستالجيا عراقية على لسان ألف: “…لا أحد يعود إلى المنازل . لا أطباق تنتظر من يلتهمها . لا عيون تنظر للبعيد بانتظار أحدهم يبتسم يعود أو يمر حتى … ولا قبلات نسمعها قادمة باتجاهنا. تعلّمنا كيف نبتلع الدموع فنرقبهم وهم يضخّون ثلاثة أنواع من السموم القاتلة في عروقنا، ومع هذا لا يُقضى علينا..” (ص 270) “التشهي” في حقيقتها روايةٌ عن العراقي الذي انتهى وحيداً، وهو يردد مع بطل الرواية جملةً تشبه الفاجعة: “فقدتُ بلدي إلى الأبد دون أن أكسب بلداً آخر” (ص 144) على صفحات هذه الرواية ينفتح أمامنا جرحٌ عميق الغور، يفضح حال البطل ومسرح العبث، الذي هو للأسف عالمنا أيضاً وفي دروبِ الحياة يتعلم كثيرون حقيقة مزعجة: فقط الكوابيس تبقى