كتاب أحبّائي: لنيـران السـامرائي

عالية ممدوح

ـ 1 ـ
في كتابها أحبّائي الصادر، في طبعته الأولى 2015 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان، للصديقة والمؤلفة، والناشرة ومصممة الأزياء والناشطة على أكثر من صعيد نيران السامرائي. اختارت نوعيات مغايرة في البوح والسرد فانتقلت ما بين إلقاء وكتابة الأشعار وبصوت شديد الحماسة والشجن وبعد تدمير واحتلال العراق. الكتاب عن العراق حتى لو كانت تدون عنه من أمكنة مختلفة كعمان أو لندن أو القاهرة.. فجميع النوافذ مفتوحة لكي تسرب ريحه الطيبة، وكل المصابيح جعلتها الكاتبة مشتعلة حتى لو دخل العراق عصر انحطاطه التام. هو كتاب، تارة نعثر فيه على مشروع قاصة جيدة تمتلك اللقطة المقربة والسر الذي لا يُفضح إلا في القفلة الأخيرة. أخبرتها بذلك وأنا أقرأ كتابها في لندن في زيارتي الأخيرة والتقيها هناك بعد غياب ثلاثة عقود. كاتبة عثرت على موهبتها لدى رواية حكايات الصديقات والأحباء فدونت عنهن قصصاً عميقة ومؤثرة لولا أختلاطها ببوح ومذكرات ورسائل ويوميات في متن الكتاب ككل، وفي نفّس واحد ما بين الحزن الذي لا يشك أحداً به، وبين حمى ذلك التداخل الذي خّمد بعض فصوله، على الخصوص العائلية التي توقعت أن يفرد لها كتابا ولوحدها، لفزنا بكاتبة قصة جيدة تضاف إلى مجموعة القاصات العراقيات.

ـ 2 ـ
يتحتوي كتاب أحبائي على نوعيات ممتازة من المعلومات السياسية والاجتماعية والحزبية والوطنية، وسجلاً حاشداً لنضالات مجموعة من الضباط والعسكرين العراقيين الذين شهدوا على العراق وهو يحبو ويريد السير بقدمين ثابتتين في التحرر والتنمية والتغيير. فهي أبنة مناضل عسكري وشاعر ملهم هو الضابط الشجاع نعمان ماهر الكنعاني. وسيرة والدها تخص تلك الحقبة التي كانت ملكا لنا نحن أبناء الأعظمية الذين كنا نسمع الروايات عنه وعن بسالته ونظافة الذمة والوجدان مع رفاقة العسكريين: «حضرت صديقة من بنات الجيران وكانت إحدى عضوات الرابطة <تعني الرابطة الشيوعية>، وهي جارتنا وصديقة راكضة لتقول: <تم القبض على المتآمرين ولم يبق إلا نعمان ماهر وستكون الليلة آخر ليلة له في البيت». شغل والدها مركز سكرتيراً للزعيم عبدالكريم قاسم في تلك الفترة الصاخبة والدامية.

ـ 3 ـ
توقفت طويلا أمام تلك الفترة ما بين ثورتي 1958 وحتى يوم 20 آب من العام 1959. كنا أطفالا، وكنت أتوق بشغف حقيقي لو كان هذا الكتاب شهادة شخصية حميمية، لمفصل دموي وحقبة غارقة في العتمة الكوارث المتلاحقة، التي أخذتنا إلى ما نحن عليه، وما سيأتي ويحصل وسيحصل في قادم الأيام لهذا البلد. أظن أن النهرين لا علاقة لهما بالماء، وأنما بامتداد الدم الذي يبدو أنه يمثل أحد المشاريع الكبرى لمغامرة وجود العراق والاجماع على استمراره؛ بمعنى الغواية على تدميره. كان أمام المؤلفة فرصة ثمينة مازالت قائمة، هي العودة وعلى تمهل تام لتلك الفترات قبل تلاشي أصحابها تماما، واحتواء تلك المساحات المبكرة مما جرى من سحل وتعليق على الأشجار لنساء ورجال، لقطارات الموت، ولملاحقة واغتيال كل من اختار أن يكون صاحب موقف مغاير. هذا ما حصل لوالدها ولغيره من الضباط الاحرار، فقد كانت الاستراتيجية المبيتة طويلة النفّس؛ هو التربص بالجيش العراقي جيداً وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وإلى يومنا هذا. والمؤلفة كتبت عن تلك الحقبة بلغة مشرقة وتحليل هادئ لمجموعة من البديهيات الجذرية تربت عليها هي واخوتها .

ـ 4 ـ
«صدر أمر إلقاء القبض على أبي وأحيل إلى محكمة المهداوي التي حاكمته غيابياً مع الضباط الآخرين من قيادات الضباط الاحرار بتاريخ 24 مارس، أي بعد ثلاثة أسابيع من مجزرة الموصل، وصدر الحكم بالإعدام عليه ورفاقه. تم تنفيذ الحكم فيهم في ساحة أم الطبول ببغداد يوم 20 آب 1959». والدها فر إلى دمشق. «صبيحة ذلك اليوم خرجت بغداد في أكبر تظاهرة بتاريخ البلاد تهتف بسقوط الزعيم. لقد شاركت كل الفئات المستقلة والاحزاب الوطنية والقومية والعوائل المفجوعة بأساها، باستثناء الحزب الشيوعي ودعاة الديمقراطية الخ» تعمدت أن تكون الفقرة طويلة، فحتى المصطلحات المأثورة ما بين حزبي البعث الحاكم والشيوعي وقيام الجبهة الوطنية في أعوام السبعينيات من القرن الماضي إلى يوم انهيارها، لا نقدر الكتابة عنها ونحن على سجيتنا إلا وعلينا أن نكون في بقعة باردة من الموضوعية. ماذا لو تبدأ محاكمات حقيقية من صفوف القواعد إلى صفوف النخب، لا تكتب كنص روائي كما حصل مع البعض فهذا لا يُقرأ إلا من النخبة، وأنما كوثائق توضع تحت تصرف جميع المواقع ويسهل الوصول إليها. ليحاكم أعضاء حزب جماهيري قادتهم على ما ارتكبوه من مجازر وحروب وتصفيات، وخيانات سابقاً وعلى مر سنين دموية العراق ولجميع الأحزاب الشيوعية والقومية والدينية، كما حصل بعد الحرب الثانية في ألمانيا. الحلق مليان بالدم، والقلوب مثقوبة بالرصاص، والخونة نراهم اليوم يتبادلون الانخاب سراً وعلانية وهم في صحة جيدة. كانوا وما زالوا..

+++
أحبائي، كتاب نضارته كانت ستتضاعف لو توزع ما لقيصر لقيصر وما لله لله .. بمعنى، ليست هناك قاعدة في الكتابة إلا أن تأخذني إلى المكان غير المتوقع، وإلى الحقائق التي تشوش وتربك فأعيد النظر بحقائقي الشخصية. أعرف أن لنيران عينين ثاقبتين لدواخل الكائنات وعبر تلك النظرة أنتظر مفاجآت كتابية آتية فهي تمتلك أسراراً، فقد كان والدها وخلال تلك الفترة صاحب مجلس أدبي شهري وكان يستقبل فيه قامات عراقية مرموقة كالجواهري ولميعة عباس عمارة وعاتكة وهبي الخرجي. في إقامتها في لندن كتب عنها البروفيسور آرثر آربري، خبير المخطوطات القديمة «ان هذا المخطوط القديم المنفذ بأشكال متعددة للخطوط كخط الثلث الرائع وخط النسخ النبيل عبارة عن صفحات مزخرفة ومذهبة باتقان بالغ». عندما قامت السيدة نيران مع مجموعة من المهتمين والناشر مؤسسة أقرأ للمطبوعات بإعادة طبع نسخة من أجمل وأروع النسخ القديمة للمصحف الشريف. مصحف محمد بن نعيم الملقب <روزبهان> النفيس.

https://www.alriyadh.com/1512331